ملخص
يعود الأمير هاري إلى بريطانيا في جولة خيرية لافتة تزامنت مع استمرار القطيعة مع شقيقه ويليام، في وقت تتراجع فيه شعبية الملكية بين الأجيال الشابة بشكل حاد. وبينما يظهر هاري بجاذبية متجددة وحضور مؤثر، يواجه ولي العهد اختباراً صعباً: قدرته على تجاوز عناده ومصالحة شقيقه، وهي الخطوة التي قد تحدد مستقبله كملك موحّد.
عاد الأمير هاري أمس الأربعاء للأرض الخضراء الوادعة التي ولد فيها، وكأنه في مهمة واضحة المعالم. فبعد أن حطت طائرته في مطار هيثرو، توجه مباشرة إلى كنيسة القديس جورج في وندسور ليضع إكليلاً على ضريح جدته الراحلة، الملكة إليزابيث الثانية، قبل أن يمضي إلى لندن للمشاركة في أول نشاط خيري له هناك.
وعلى بعد ثمانية أميال فقط، كان الشقيق الأكبر ويليام يتجاذب أطراف الحديث وهو يتناول قطع "براونيز" بالشوكولاتة خلال اجتماع لفرع اتحاد النساء في صنينغديل. (ويبدو أن أمير ويلز يفضل حلوياته خالية من المكسرات). أما أحاديث هاري فكانت أكثر إصابة للهدف. ففي ذلك المساء، وخلال حفل جوائز مؤسسة "ويلتشايلد"، سأل الأمير الفائزَ البالغ من العمر 17 سنة، ديكلان بيتمييد، إن كان شقيقه الأصغر يثير جنونه أحياناً، ثم مازح الحاضرين بعدما اكتشف أنهما درسا في المدرسة نفسها قائلاً بابتسامة: الأشقاء... يجعلون الأمور أكثر تعقيداً أحياناً!".
كان في الأمر شيء من الجرأة المفرطة، بخاصة في ضوء انتقاداته الأخيرة لـويليام، بما في ذلك ما يقال عن إعراض الأخير عنه خلال أيام دراستهما في إيتون. ويبدو أن أمير ويلز "لم يُرِد أن تكون له أية علاقة" بهاري آنذاك، وإذا كان ما حدث بالأمس معياراً، فإنه ما زال على الموقف نفسه حتى اليوم.
على الطرف الآخر من لندن، لم يكفّ الإعلامي المخضرم بيرس مورغان عن التذمر. لا، هو ما زال مقتنعاً بعدم وجوب حدوث مصالحة بين العائلة الملكية وهاري المنعزل عنها، ولا جديد في ذلك. لكن أمس، وبعد مرور ثلاث سنوات على وفاة الملكة الراحلة، بدا أن هناك شيئاً مختلفاً. فعام 2022، كنت أخوض مع بيرس سجالات متكررة حول صواب أو خطأ انتقادات دوق ودوقة ساسكس العلنية للحياة الملكية التي هجراها. وكانت خطب مورغان الغاضبة عن سلوكهما "المشين" تجاه أعرق مؤسسات البلاد في منزلة الأساس الذي بُنيت عليه قناته الضخمة الحالية على "يوتيوب".
الآن، وبعد ثلاثة أعوام، لم يعُد الزوجان يشكلان وقوداً لمكنة مورغان الإعلامية، بل لم يعودا حتى مادة أساسية في خطابه اليومي. واللافت أكثر هو أن مورغان نفسه اعترف أمس بأن العائلة الملكية لم تعُد تحتل مكانتها السابقة، وهو تصريح مذهل يصدر عن شخصية كثيراً ما عرفت بتشددها الملكي - وإشارة مقلقة إلى ما قد يحمله المستقبل.
وعلى رغم أن استطلاعات الرأي لم تصل بعد إلى مستوى كارثي، فإن اتجاهها يسير في منحى واحد فقط: فعام 1983، حين أجرى مسح "المواقف الاجتماعية البريطانية" أول اختبار لشعبية الملكية في البلاد، أبدى 86 في المئة من السكان تأييدهم لها، وهي نسبة هائلة. كنت آنذاك واحدة من هؤلاء؛ فبينما كنت أتفقد العلّية في منزل والدتي أخيراً، عثرت على دفتر قصاصات من طفولتي، وكان على صفحته الأولى زفاف تشارلز وديانا عام 1981، لتنتهي صفحاته بعد خمس سنوات بالاحتفال الباذخ بزفاف آندرو وفيرغي.
كنت ما زلت أقص وألصق القصاصات في سن الـ12. يا لها من مفارقة مع مرور الزمن. فابنتي البالغة سبع سنوات، مثل معظم أبناء جيلها من البريطانيين، لا تعرف حتى اسم أميرة ويلز، والأكثر دلالة أن ابني البالغ 16 سنة يشعر بالاستياء لأنه يعرفه أصلاً. وعام 2023، بعد 40 عاماً على أول استطلاع حول الملكية، لم يُبدِ سوى 54 في المئة من السكان ولاءهم للملكية، وغالبيتهم من كبار السن. وانسحب الشباب، وما دام أن المأزق الملكي ما زال قائماً في بيت وندسور، فكيف سيكون هناك أي حافز للشباب للدخول مجدداً؟
وكما لم يحدث من قبل، تفرغت دوقة ساسكس لاستعراض أسلوب حياتها الراقي، من المربيات الفاخرة إلى الحديث عن أطباق جراد البحر، متبنية روحها الكاليفورنية وتاركة وراءها معظم بريطانيا. أما هاري، فعلى أرضه الأم ما زال يحتفظ بلمسة سحرية، إذ أبهر الحشود في اليوم الثاني من زيارته المنتقاة بعناية إلى نوتنغهام، حيث توّج حضوره بتبرع قدره 1.1 مليون جنيه استرليني لمصلحة مؤسسة "تشيلدرن إن نيد" .
من قال إن دوق ودوقة ساسكس يواجهان صعوبات؟ قد يكون الأمر مزعجاً لكثير من متابعي الشأن الملكي، لكن هاري لا يزال يتمتع بنفوذ وجاذبية ضمن المجالات التي تبدو فيها الملكية التقليدية في أضعف حالاتها. فويليام يمتلك صفات عدة، لكن صفة "الرائع" ليست إحداها.
ربما يكون ذلك مناسباً لملك المستقبل، لكن الملكية الفاعلة يجب أن تقوم على انفتاح أوسع. ففي وقت غير بعيد، سيصبح ويليام رمزاً وطنياً في عالم يزداد انقساماً، تعصف به الحروب المستمرة وحركات النزوح والتهديدات الوجودية. وقد كتب كثير عن سعي أمير ويلز إلى أن يقدم نفسه قائداً على خطى الملكة الراحلة، طامحاً لأن يكون ملكاً موحداً لا يحمل الأعباء التي رافقت والده إلى العرش. لكن إذا كان هذا هو هدفه فعلاً، فإن ويليام قد تعثر عند أول اختبار.
القدرة على التسامح مهارة حياتية مهمة، لكنها بالنسبة إلى الملك المستقبلي أمر جوهري. فوفقاً لـسير ديفيد مانينغ، مستشار الأمير لشؤون الخارجية، بعد زيارة ويليام إلى الشرق الأوسط عام 2018، وعلى رغم استمرار الحرب في غزة، كان حريصاً على "البقاء على اتصال مع كل من الجالية اليهودية والفلسطينيين في بريطانيا"، ويبدو من الغريب أن الرجل الذي لا يستطيع إيجاد طريق لمسامحة شقيقه، يسعى في الوقت نفسه إلى "المساهمة الخيرية على كلا طرفي النزاع" في أكثر الصراعات العالمية تعقيداً.
ويتفق كثرٌ على أن الملكة الراحلة كانت النموذج الأمثل لبقاء الملكية في العصر الديمقراطي، وربما كانت أعظم قواها الخفية هي غموضها الذي لا يخترق. وأصر بعض المعلقين الملكيين على أن الملكة كانت متأثرة بشدة جراء الخلاف مع الأمير هاري قبيل وفاتها، لكن الحقيقة أن أحداً منا لن يعرف ذلك يقيناً.
وبالنظر إلى عمق خبرة إليزابيث الثانية في الحياة، من المحتمل أنها شعرت بالغضب إزاء تصرفات حفيدها وفي الوقت نفسه فهمت جذور تلك التصرفات. ووفقاً لـبول بوريل، كبير خدم الأميرة ديانا سابقاً، فقد قال تشارلز فور ولادة هاري لزوجته الأولى: "حسناً، في الأقل لدي الآن وريث وآخر احتياطي، ويمكنني العودة لكاميلا". ومن منظور المؤسسة الملكية، كان الأمير هاري دوماً الأخ الأضعف بين الشقيقين، إذ ولد في زواج كان ينهار بالفعل، ومن الواضح أنه كان واعياً بذلك، بحسب بوريل الذي يؤكد أنه نقل كلمات تشارلز حرفياً إلى الأمير (الذي استمع إليها من دون أن يرف له جفن).
منذ ذلك الحين، مضى هاري قدماً وواجه مشكلاته النفسية علناً بكل جرأة. وترددت تبعات الفوضى العائلية والمؤسسية التي نجمت عن ذلك في مختلف أنحاء العالم، وكان لكل شخص رأيه، فيما شعر معظم البريطانيين بالاستياء من هجومه المرتبك. وربما حتى الدوق نفسه بدأ يندم على ما فعل. وعلى رغم أنه لا يستطيع أن يقدم اعتذاراً صريحاً، فإن هاري تخلى في الأقل عن مطالبته العائلة المالكة بالاعتذار، وأتاح وجوده في بريطانيا فرصة لجذب الانتباه وإحياء إمكان المصالحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما كان يأمل كثرٌ، اجتمع هاري أخيراً مع الملك تشارلز في قصر كلارنس هاوس، في أول لقاء بينهما منذ 19 شهراً. ووصل الأمير هاري إلى المقر أمس في سيارة "رينج روفر" سوداء عند الساعة الخامسة و20 دقيقة مساءً، وغادر بعد نحو ساعة من شرب الشاي مع والده. ومع اقتراب عيد ميلاده الـ77 واستمراره في تلقي علاج السرطان، يفترض على نطاق واسع أن تشارلز يرغب في قضاء وقت ثمين مع حفيديه، الأمير آرتشي (ست سنوات) والأميرة ليليبت (أربع سنوات). وهو دليل، إذا لزم الأمر، على أن حب الأب كثيراً ما يختبر، لكنه من الصعب أن ينكسر. أما العلاقة بين الأشقاء فالأمر مختلف، فالمفتاح إلى لمّ شمل العائلة المالكة في المستقبل لا يمسكه تشارلز، بل ويليام.
شأنه شأن شقيقه، نشأ أمير ويلز في ظل زواج والديه المنهار ووفاة ديانا المبكرة، لكن على عكس هاري، فإن قدر ويليام هو ارتداء عباءة الملكية. وأياً كانت تصرفاته، فهذا هو حقه الطبيعي منذ ولادته. ويتوقع كثرٌ من مناصري الملكية أن تحظى بريطانيا في عهد ويليام الخامس بجاذبية جديدة أو متجددة. فبلا شك، زواجه بكايت الاستثنائية وأطفالهما الثلاثة يقدم دائماً مشهداً بديعاً، لكن بعيداً من المناسبات والعطل الرسمية، لكي يكون لملكيته معنى حقيقي، يحتاج ويليام إلى إظهار أنه قادر على مواجهة مشكلاته الخاصة.
لأعوام طويلة، ترددت إشاعات عن عناد متأصل في ويليام وميل إلى الانزواء والتذمر. وصحيح أن هاري باغت "ويلي" بهجماته العلنية، لكن الشقيق الأكبر لم يدرك عمق ألم هارولد الصغير وغضبه. وأية وسيلة أفضل ليثبت ويليام أن نزوات الطفولة أصبحت وراءه، من أن يمد يده إلى شقيقه الأصغر المليء بالعيوب الذي يتوق بوضوح إلى العودة لأشهر عائلة في بريطانيا؟ حتى أكثر المنتقدين سيجدون أن لقب "ويليام صانع السلام" يحمل وقعاً خاصاً.
تيسا دانلوب مؤلفة كتاب "كي لا ننسى: الحرب والسلام في 100 نصب تذكاري بريطاني" Lest We Forget: War and Peace in 100 British Monuments
© The Independent