ملخص
بعدما شارك، بفيلمه الأخير العام الماضي في مهرجان كان، عاد المخرج الإيطالي باولو سورنتينو أمس إلى "موسترا" البندقية (27 أغسطس/ آب - 6 سبتمبر/ أيلول) التي كانت شهدت انطلاقته الأولى في مطلع الألفية. جاء إلى الليدو بفيلمه الجديد "النعمة".
يناقش فيلم "النعمة" الغفران والموت الرحيم وصون الحياة، واضعاً صاحبه مباشرة في قلب المنافسة الرسمية، سانحاً الفرصة للمهرجان كي يفتح حواراً جديداً على جدلية واحدة: كيف تتعامل السينما مع حدود الحياة والموت؟ هذا كله في بلاد طالما تعاملت مع المسائل التي تحتاج إلى ضوء أخضر ديني بحذر شديد، فلا ننسى أنها تضم الفاتيكان، أرفع مرجعية كاثوليكية. وللمناسبة يظهر حبر أعظم متخيَّل في الفيلم، له رأي وموقف، وهو أسمر البشرة ويركب دراجة نارية.
على رغم أهمية هذه المواضيع، فهي ليست مركز الكون في فيلم المخرج النابوليتاني المتأثر بفيلليني. فهو لا يعود هذه المرة إلى شخصيات سياسية حقيقية كما فعل في "إيل ديفو" أو "لورو"، حيث تطرّق حرفياً إلى رئيس الحكومة جوليو أندريوتي ورئيس الوزراء سيلفيو برلوسكوني، بل ابتكر رئيساً إيطالياً خيالياً من بنات أفكاره، يعيش أزمة نهاية ولايته، كاتباً من خلاله كل خواطره. يؤدي دور الرئيس توني سرفيللو، الممثل الذي صار قريناً لسينما سورنتينو بملامحه الجامدة ونبرته التي لا تعرف الانفعال. معاً أنجزا سبعة أفلام، حتى عندما أخرج فيلمه شبه السيري "كانت يد الله" أسند إليه دور الأب في مبادرة رمزية.
الرئيس الذي يرسمه الفيلم ليس منشغلاً كثيراً بمسؤولياته الثقيلة، على رغم أن قضايا بالغة الحساسية تحاصره: قانون للموت الرحيم ينتظر توقيعه، عفو محتمل عن مجرمين، ملفات سياسية من النوع الذي قد يطبع سمعته إلى الأبد. وهو يدرك ذلك، فيتعامل معها بحيرة انطلاقاً ممّا يمليه عليه ضميره. في أحد المشاهد يقول إنه مهما فعل في قضية الموت الرحيم، فالرأي العام سيحاسبه إما مجرماً أو جلاداً. ولكن، كل ذلك يتوارى أمام وطأة الذكريات التي تثقل صدره: زوجة راحلة كان يعشقها ولم يتجاوز خيانتها القديمة، وندوب شخصية تحكم حاضر رجل تبدو أنفاسه أضعف من سلطته.
المكان الرئيس للأحداث هو قصر كويريناليه الرئاسي في روما. كالعادة، البيئة المكانية بالغة الأهمية عند سورنتينو. المبنى الذي يبدو كأثر متحفي يتحوّل في الفيلم إلى مسرح صامت يحتضن الواقع والفانتازيا. هنا، يتجوّل الرئيس وحيداً (وإن محوطاً بحاشيته) وسط جدران شاهدة على قرون من التاريخ، لكنّ داخله معلَّق عند شبح امرأة غابت قبل ثماني سنوات وما زالت تتحكم في عزلته. السرد يتنقل بين السياسة والخيال الشخصي، بين وقائع الدولة واستيهامات لم تطوِ صفحة الماضي والذكريات.
يقدّم سورنتينو مادته على طريقته المعتادة: لقطات مشغولة بدقة مهووسة، حركة كاميرا تسبح في المكان كما لو كانت تبحث عن لحظة ضائعة، وجماليات زائدة تجعل من كلّ مشهد لوحة مشبعة بالألوان والإضاءة. سورنتينو إيطالي قح في الاستيتيك الذي يوظفه. لكنّ هذا الانغماس في الشكل لا يحمي الفيلم من هشاشة جوهره. فمن وراء الزخرف، يطلّ شعور بالفراغ. كأن المخرج نفسه يكرّر ما طالما اتهم به الآخرين: الاكتفاء بالقشرة.
سرفيللو، على رغم إتقانه الدور، لا يعيد انتاج السحر الذي منح "الجمال العظيم" زخمه. الشخصية هنا جامدة أكثر من اللازم، محاصَرة بالبرود من كل صوب. حتى اللحظات التي تحاول أن تستدعي السخرية أو الهجاء السياسي، تبدو مترددة، لا تمضي إلى النهاية. الإيقاع تتقطّع نبرته أحياناً على مدى ساعتين، فينعكس ذلك على المشاهد الذي يخرج من الصالة مثقلاً بالإبهار البصري لكن بلا أثر عاطفي حقيقي.
عبثية السلطة
سينما سورنتينو ما زالت أسيرة أسئلته: جدوى الوجود، عبثية السلطة، هشاشة الإنسان في عالم مصنوع من المظاهر. لكن "النعمة" لا يضيف شيئاً جديداً. على العكس، هو يقدّم نسخة أشد فتوراً من انشغالات سبق أن قدّمها المخرج بحدّة أكبر. ما يبقى بعد العرض ليس إلا طبقة من صور أنيقة، تُعلّق في الذاكرة مثل ألبوم فاخر، ثم تتبخر. كل ما تقدّم لا يعني أننا أمام فيلم رديء، بل على العكس، نحن أمام مخرج يتقن لغة السينما بمهارة، ولكن من البديهي أن من فنان يستطيع أن يبلغ الذروة نفسها في كلّ مرة.
يتحدث سورنتينو في مقابلة عن البذرة التي انطلق منها لكتابة السيناريو: واقعة تتعلق بالرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، الذي أصدر قبل سنوات عفواً عن رجل مسنّ قتل زوجته المريضة بالألزهايمر. من هنا بدأ التساؤل: ماذا يعني أن ينفرد شخص واحد في الدولة بسلطة العفو؟ رئيس الجمهورية وحده يمتلك هذه الصلاحية، ليس في إيطاليا فحسب، بل أيضاً في الولايات المتحدة ودول أخرى. لحظة القرار هذه فتحت باباً شائكاً على أسئلة أخلاقية عميقة، خصوصاً حين يكون صاحب القرار ابن ثقافة كاثوليكية مشبعة بفكرة قدسية الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تخيّل سورنتينو أن هذه الحكاية يمكن أن تتقاطع مع معضلة أخرى لا تقل ثقلاً: التوقيع أو عدم التوقيع على قانون يشرّع الموت الرحيم. بالنسبة إليه، الحبكات السينمائية الجديرة بالاهتمام هي تلك التي تنبني على مأزق أخلاقي. وهنا، يستدعي مثالاً يراه نموذجياً: سلسلة "الوصايا العشر" لكيشلوفسكي، التي جعلت من المعضلة الأخلاقية محوراً لسردها.
عن الخيط المشترك بين أعمال سورنتينو الثلاثة "إيل ديفو" (عن جوليو أندريوتي)، و"لورو" (عن برلوسكوني)، و"النعمة"، يقول سورنتينو: "المشترك هو حياة البطل الخاصة وظلالها الثقيلة على قراراته. فنحن، كبشر عاديين، عيوبنا تنعكس على محيطنا المباشر: على أولادنا، على شركائنا، على أصدقائنا. لكن حين يتعلق الأمر بأصحاب السلطة، فإن هذه العيوب نفسها تتحول إلى مسألة عامة، وغالباً ما نستهين بخطرها".
يستعيد المخرج مثالاً من مقابلة قديمة مع رجل الأعمال تشارلي مونغر، شريك وارن بافيت، حين سُئل: كيف ترى دونالد ترامب رئيساً؟ أجاب يومذاك بأن ترامب مدفوع حصراً بالغرور وبالسعي وراء المجد، وأن هذين الدافعين في غاية الخطورة إن امتلكهما من يتولى رئاسة الولايات المتحدة. ولأن الأخبار اليومية حافلة بقرارات سياسية وليدة نزوة أو استعراض قوة، أو تصورات مشوّهة للاقتصاد، أراد سورنتينو أن يقترح صورة معاكسة: أن يتأمل كيف يجب أن يكون السياسي، لا كما هو في الواقع.