ملخص
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرئيل شارون صرح سابقاً بأن تعمير سيناء أخطر على إسرائيل من القنبلة الذرية وهو اعتقاد توارثه القادة الإسرائيليون تباعاً على المستويين السياسي والعسكري.
تاريخياً أثبت العمران دوره بوصفه أداة دفاعية، فخلال احتلال إسرائيل سيناء، لم تتمكن الدبابات من دخول العريش إلا بعد أيام من القصف، على رغم قربها من الحدود، لوجود عمران بالمدينة مما صعب مهمة الاختراق، فيما كان الوصول إلى شاطئ قناة السويس في غضون سبع ساعات فقط أمراً سهلاً، وبهذا المعنى، تبرز فكرة العمران في سيناء كسياج استراتيجي دفاعي يحول دون تكرار اختراقات الماضي.
لكن هذا العمران سيكون في صدام مؤجل مع مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي كشف عنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قبل أيام، حين أعرب عن اعتقاده بأنه يعيش "مهمة تاريخية وروحية"، ومتمسك "جداً" برؤية "إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربما "مناطق من الأردن ومصر".
متى ظهر مصطلح "إسرائيل الكبرى" أول مرة؟
ظهر مصطلح "إسرائيل الكبرى" للمرة الأولى بعد حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967، أو ما يعرف بـ"النكسة"، في إشارة إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل آنذاك، والتي تشمل القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان.
منذ ذلك الوقت، شكل هذا المفهوم حجر الزاوية في العقلية الاستراتيجية الإسرائيلية، إذ ينظر إلى أي توسع أو عمران مصري في سيناء باعتباره تهديداً مباشراً لرؤية تل أبيب عن "الأمن القومي المثالي"، ثم ها هو السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يبعث بصورة واقعية عن خطر الجوار، حين أغارت "حماس" على بلدات غلاف غزة، وقتلت وأسرت عشرات المستوطنين.
"تعمير سيناء أخطر على إسرائيل من القنبلة الذرية"
وتضع اليوم، تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا الصراع القديم في قلب النقاش مع تنامي خطط التنمية المصرية في سيناء، التي تجعل من الزحف العمراني في شبه الجزيرة أداة ليس فقط للاقتصاد، بل لتعزيز السيادة والأمن القومي.
هنا يظهر التباين الكبير بين رؤية إسرائيل القائمة على الفراغ الأمني، ورؤية القاهرة التي ترى في التنمية العمرانية في سيناء أداة استقرار وأمن قومي.
ومنذ انسحاب إسرائيل عام 1982 ظل العقل الأمني في تل أبيب يعد أي عمران في شبه الجزيرة تهديداً صامتاً، حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرئيل شارون، صرح ذات مرة بأن تعمير سيناء أخطر على إسرائيل من القنبلة الذرية.
في العقل الأمني الإسرائيلي، يجب أن تظل سيناء منطقة عازلة، خالية من العمران، قاحلة من مظاهر الحياة، محاطة بأسوار طبيعية من الجبال والرمال، فأي بناء أو توطين ينظر إليه بوصفه تهديداً أكبر من مواجهة جيوش نظامية.
سيناء خالية من العمران وبلا حياة
ولعل انسحاب إسرائيل من سيناء لم يكن مجرد خطوة عسكرية أو سياسية، بل حمل رسائل أعمق عن محاولتها الحفاظ على سيناء خالية من العمران، فالجيش الإسرائيلي حرص على هدم المستوطنات وتفكيك البنى التحتية، تاركاً وراءه أرضاً فارغة، باستثناء مستوطنة عوفيرا التي تحولت إلى شرم الشيخ عند انتقالها لاحقاً للإدارة المصرية.
تخشى إسرائيل أن تتحول التجمعات السكانية مع مرور الوقت إلى غطاء يعيد إلى سيناء ما نزع عنها بالسلاح، ويجعل إسرائيل في مواجهة مباشرة مع أخطار "الزحف البشري".
إحدى العقد الجوهرية التي كبلت سيناء عقوداً لم تكن اقتصادية فحسب، بل أمنية بالدرجة الأولى، فبنود اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية (كامب ديفيد) نصت صراحة على جعل شبه الجزيرة منطقة منزوعة السلاح، وهو ما انعكس عملياً على وتيرة التنمية والعمران.
تكريس حال من الفقر والإهمال البنيوي
وهكذا بدت سيناء، في نظر الدولة المصرية، أرضاً محكومة بالقيود الاستراتيجية أكثر من كونها مجالاً رحباً للاستثمار والإعمار، وكما يوضح الباحث الإسرائيلي موشيه ألبو في دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي، أن هذا التجريد العسكري أسهم في تكريس حال من الفقر والإهمال البنيوي.
مع ذلك لم تغب خطورة هذا الواقع عن الإدراك المصري عقب حرب أكتوبر 1973، إذ أدركت القاهرة أن ترك سيناء خاوية يمثل ثغرة أمنية في حد ذاته، وأن الأرض الفارغة تظل عرضة للفراغ السكاني والسيطرة المعنوية، لذلك، بادر الرئيس الراحل محمد أنور السادات بإصدار قرار بإنشاء الجهاز القومي لتنمية وتعمير سيناء، محاولاً رسم ملامح مشروع وطني متكامل.
لكن هذه الخطوة ما لبثت أن جمدت لعقدين من الزمن، قبل أن يبعثها الرئيس حسني مبارك مجدداً في صورة المشروع القومي لتنمية سيناء، وإن بقيت الطموحات على الورق أوسع بكثير مما تحقق فعلياً على الأرض.
هل نصّت اتفاقية "كامب ديفيد" على إخلاء سيناء؟
صحيح فرضت اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية قيوداً على الوجود العسكري في سيناء، لكنها لم تمنع التنمية والإعمار، مثلما يوضح مساعد وزير الخارجية المصري السابق عبدالله الأشعل، لافتاً إلى أن الاتفاقية لم تتناول مسألة التعمير، بل نصت على الاعتراف بسيادة مصر الكاملة على أرضها، مما منح القاهرة الحق في إدارة مواردها وتطوير عمرانها من دون خرق لأي نص دولي.
غير أن هذا التفسير الإسرائيلي، كما يوضح الدبلوماسي المصري السابق، لا يجد له سنداً في نصوص "كامب ديفيد"، فالمعاهدة واضحة في تحديد ما هو محظور: وهو التسليح الواسع ونشر القوات خارج الحدود المتفق عليها، أما العمران والتنمية فليسا موضوعاً للمعاهدة، بل إن أي اعتراض على مشاريع الإعمار يعد تناقضاً مع جوهر الاتفاق نفسه، الذي أقر بسيادة مصر الكاملة على أرضها.
والسيادة، كما يقول الأشعل، ليست مجرد راية مرفوعة، بل ممارسة فعلية للقرار في كل ما يتصل بإدارة الأرض، من مواردها إلى عمرانها.
بهذا المنظور، تتبدى الفجوة بين النصوص القانونية الصريحة وواقع العقود الماضية، حيث ظلت سيناء مهمشة لاعتبارات أمنية وسياسية واقتصادية، أكثر منها قانونية أو مرتبطة بقيود "كامب ديفيد".
كيف أصبح العمران سداً في وجه أي عدوان محتمل؟
إدراك الدولة المصرية أهمية سيناء لم يكن رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية تمليها الجغرافيا والتاريخ، فمنذ اللحظة التي استعادت فيها القاهرة شبه الجزيرة، تبلور وعي استراتيجي يرى أن التنمية والتعمير في هذه الأرض يشكلان خط الدفاع الأول عن حدود البلاد الشرقية، فالمصدر الأشد خطورة على الأمن القومي المصري ظل يأتي دوماً من الشرق، حيث إسرائيل، ولذلك كان لا بد من أن يصبح العمران سداً في وجه أي عدوان محتمل.
في هذا السياق انتظمت القوات المسلحة بالتنسيق مع مختلف الوزارات، في صياغة تصورات وخطط تستهدف تنمية سيناء وإعمارها، ليس كمسعى اقتصادي بحت بل كجزء من معادلة أمنية كبرى.
وهنا تتضح ملامح جدلية عميقة بين الرؤية المصرية والرؤية الإسرائيلية لمسألة إعمار سيناء، فبينما ترى القاهرة أن التنمية حق سيادي أصيل وأداة لحماية حدودها وتثبيت استقرارها، تنظر تل أبيب إلى الأمر بعين الريبة والشك، معتبرة أن تعمير الصحراء قد يخفي خلفه نيات عسكرية مستقبلية، أو يشكل ستاراً لإعادة عسكرة المنطقة.
خطط نقل 8 ملايين مصري إلى سيناء
على الأرض، لم تخف الدولة المصرية مساعيها لرد الاعتبار إلى سيناء عبر خطة تنمية كبرى، ففي أكتوبر 2018 أعلنت الحكومة عزمها توطين نحو 8 ملايين مصري في شبه الجزيرة خلال بضعة أعوام، مقارنة بنحو 600 ألف نسمة فقط آنذاك.
وشدد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على أن المشروع ليس ترفاً عمرانياً، بل "أولوية قصوى" على أجندة الدولة، هدفه إعادة توزيع الكثافة السكانية بعيداً من الوادي الضيق، وفتح آفاق جديدة للتنمية والاستقرار عبر تحويل أرض الفيروز إلى مجال جاذب للسكان والاستثمار.
وبينما تعلن مصر أن التنمية في سيناء مدخل للاستقرار والأمن، ترى إسرائيل أن نفس التنمية قد تتحول إلى تهديد مباشر لاتفاقية السلام.
"منطقة عازلة منخفضة الكثافة ومنزوعة السلاح"
الأكاديمي الإسرائيلي يارون فريدمان يذهب أبعد من مجرد التحذير من الإعمار، إذ يعد أن استيطان سيناء وتنميتها اقتصادياً يتعارضان مع جوهر المعاهدة، لأنها وفق رؤيته قامت على أساس بقاء شبه الجزيرة منطقة عازلة منخفضة الكثافة السكانية ومنزوعة السلاح، وهو هنا يعكس العقل الأمني الإسرائيلي الذي يساوي عملياً بين "الفراغ العمراني" و"الأمن القومي".
ولمزيد من المفارقة، يذكر فريدمان بأن إسرائيل نفسها سمحت بتجاوز موقت لنصوص المعاهدة خلال الأعوام الأخيرة، حين انتشرت وحدات الجيش المصري في مناطق بسيناء خلافاً لما هو متفق عليه، بدعوى مواجهة "إرهاب القاعدة" ثم "داعش"، بيد أن هذا الاستثناء الذي قبلته تل أبيب مرحلياً، يبدو أنها لم تقبل أن يتطور إلى وضع دائم يبرر عودة الدولة المصرية بكامل قوتها إلى إدارة شبه الجزيرة عمرانياً وعسكرياً.
أرادوها مجرد "فناء خلفي" لمصر
في المقابل، يشير فريدمان إلى أن ما تقوم به القاهرة اليوم تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي ليس وليد اللحظة، بل محاولة لتجاوز تراكم عقود من الإهمال التنموي، فمنذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ظلت سيناء على هامش المشروع الوطني، لتتحول في عهدي السادات ومبارك إلى ما يشبه "الفناء الخلفي" لمصر، بينما يتقدم اليوم مشروع جعلها امتداداً حقيقياً للبلاد لا مجرد هامش جغرافي، كما يقول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ عام 2014، وضعت القاهرة خطة شاملة لتنمية شبه الجزيرة، ورصدت أكثر من 600 مليار جنيه (12.38 مليار دولار)، نصفها تقريباً لشمال سيناء وحدها بقيمة 290 مليار جنيه (5.99 مليار دولار)، خصصت لإنجاز أكثر من 1000 مشروع تنموي شملت البنية التحتية والزراعة والطاقة والإسكان والمياه، في محاولة لتغيير ملامح أرض طالما وصفت بأنها على هامش الوطن.
كم حجم الاستثمارات المصرية في سيناء؟
ومع انطلاق المرحلة الثانية (2023 – 2028)، تتسع الخطة لتشمل 302 مشروع جديد في شمال سيناء وحدها، بكلفة تصل إلى 363 مليار جنيه (7.49 مليار دولار)، موزعة بعناية على المراكز الستة للمحافظة: رفح، الشيخ زويد، العريش، بئر العبد، الحسنة، ونخل.
أما الجنوب، فله نصيبه من الاستثمارات المحلية التي بلغت نحو 868 مليون جنيه (17.92 مليون دولار) في العام المالي 2023/2024، بينما حصد الشمال 490 مليون جنيه (10.11 مليون دولار). وعلى رغم التفاوت فإن الخطاب الرسمي يصر على أن التنمية لا تقاس فقط بالأرقام، بل بقدرتها على تغيير حياة الناس، وربط سيناء بالنسيج المصري ربطاً لا عودة بعده إلى التهميش.
ويغطي المشروع الزراعي الجاري تنفيذه نحو 1.1 مليون فدان، جرى استصلاح وزراعة 285 ألف فدان منها حتى عام 2024، بما يعكس أن ما تحقق حتى الآن لا يتجاوز ربع المستهدف الكلي، ولضمان استدامة هذه الجهود أنشأت القاهرة 18 تجمعاً زراعياً متكاملاً، بينها 11 في شمال سيناء وسبعة في جنوبها، مما أتاح فرصاً مباشرة لـ2122 أسرة للاستقرار والإنتاج. ولم تتوقف التنمية عند حدود الزراعة، بل امتدت إلى الثروة الحيوانية عبر تنفيذ 223 قافلة بيطرية غطت مدن سيناء والقناة حتى سبتمبر 2024.
إزالة مدينة رفح المصرية
وفي مايو (أيار) الماضي، أعلن السيسي أن بلاده تخطط لإضافة 800 ألف فدان أخرى تدخل الخدمة بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، بما يعزز أمن مصر الغذائي ويضاعف من قوة الزراعة في رفد الاقتصاد الوطني.
في السياق لم تر القاهرة في إزالة مدينة رفح المصرية الواقعة على حدود قطاع غزة عام 2015 تناقضاً مع خطط التعمير، فالهدف المعلن كان إنشاء "منطقة عازلة"، في وقت كانت يواجه الجيش المصري حرباً شرسة مع تنظيمات مسلحة، وكان يرى في إقامة منطقة عازلة بطول 13.5 كيلومتر تمكين أكبر في مراقبة المنطقة الحدودية، ومنع استخدام الأنفاق مع القطاع لنقل السلاح أو المتسللين، بحسب ما أعلن آنذاك.
لكن ما يجري في سيناء لا يقرأ فقط في إطار التنمية الداخلية، بل يتصل أيضاً بخريطة أوسع تشمل غزة والمشروع التنموي السعودي في منطقة العلا شمال غربي السعودية، إذ يصف رئيس المجلس الاستشاري للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية عبدالمنعم سعيد، هذا الامتداد التنموي بأنه يشكل "حائط الصد أمام المشروع الإسرائيلي"، موضحاً أن التنمية الإقليمية تمثل البديل الفعلي للحرب والتطرف الديني.
الفلسطينيون واليهود وحرب الأرحام
ويضيف سعيد أن البعد الديموغرافي يضاعف من القلق الإسرائيلي، إذ يقابل 7 ملايين مستوطن داخل إسرائيل نحو 7 ملايين فلسطيني، مما يجعل معادلة الأمن السكاني سيفاً مصلتاً على مستقبل الكيان العبري.
وتبرز هذه الأبعاد الإقليمية في وقت تخطط فيه مصر لإطلاق مرحلة جديدة من تنمية سيناء، إذ تولي خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام المالي 2025/2026 اهتماماً خاصاً بالمحافظتين، مع تخصيص 15 في المئة من إجمال الاستثمارات المحلية لمصلحة شمال وجنوب سيناء، بما يتيح تنفيذ حزمة واسعة من المشروعات التنموية في قطاعات الزراعة، البنية التحتية، والخدمات.
وترى القاهرة أن التعمير في سيناء ليس مجرد توسيع للرقعة الزراعية أو تحسين للخدمات، بل هو إعادة تموضع استراتيجي يعيد رسم خريطة القوة في الشرق الأوسط، ويؤسس لمرحلة جديدة من التوازن، في الأقل، مع إسرائيل، تحل فيها التنمية بديلاً للسلاح كأداة لفرض واقع وتشكيل مستقبل.