ملخص
في المقاهي والشوارع والمكاتب، تتكرر الملامح نفسها: وجبات سريعة، ساعات طويلة من الجلوس، وحركة شبه غائبة. على مائدة العائلات، يعلو الخبز الأبيض والحلويات المغمسة بالقطر على حساب الخضراوات والحبوب الكاملة. وبين جينات موروثة وأسلوب حياة متغير، ترتفع أرقام السكري في العالم العربي بصمت مقلق.
المتخصصون يطرحون أسئلة: هل يمكن أن تغير مجتمعاتنا مسارها قبل أن يتحول هذا المرض إلى عبء لا يحتمل؟
لم يعد السكري من النوع الثاني رقماً في تقارير الأطباء أو حالاً فردية تعالج بصمت داخل العيادات. صار وجهاً مألوفاً في البيوت العربية، يرافق موائد عامرة بالخبز الأبيض والحلويات المغمسة بالقطر، ويزحف بصمت إلى أجساد أنهكها الجلوس الطويل وغياب الحركة. في الشوارع المكتظة بالسيارات والمقاهي المزدحمة بالمشروبات الغازية، تتسع دوائر المرض بوتيرة مقلقة، حتى تحول إلى أزمة صحية عامة تهدد الأجيال المقبلة.
تشير تقديرات الاتحاد الدولي للسكريIDF إلى أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يسجلان واحداً من أعلى معدلات الإصابة عالمياً، مع توقع أن يتضاعف عدد المصابين من نحو 73 مليوناً عام 2021 إلى أكثر من 136 مليوناً بحلول عام 2045. أرقام لا تروي الجانب الطبي وحده، بل تكشف عبئاً اقتصادياً واجتماعياً يثقل كاهل الأنظمة الصحية. فكيف وصلت المنطقة إلى هذا المنعطف؟ وأين تكمن جذور الخلل؟
الغذاء والتحضر: مزيج قاتل
ترى المتخصصة في الطب العام من الجامعة الأميركية في بيروت وحائزة دكتوراه مزدوجة في الطب السريري والأبحاث العلمية المتخصصة بأمراض السكري، الدكتورة راشيل أبو رجيلي، أن "معدلات الإصابة بالسكري من النوع الثاني في المنطقة العربية تفوق المعدل العالمي نتيجة عوامل متشابكة تبدأ بالعادات الغذائية وتنتهي بالعوامل الوراثية"، موضحة أن "انتشار السمنة وزيادة الوزن بسبب الإفراط في السعرات الحرارية وقلة النشاط البدني تشكل خطراً أساسياً، في وقت أدى التحضر السريع وما رافقه من حياة مكتبية واعتماد مفرط على السيارات إلى مضاعفة الخمول البدني"، مشيرة إلى أن "الانتقال من الأطعمة الطبيعية إلى الوجبات المصنعة الغنية بالدهون والسكريات جعل جسد الإنسان العربي عرضة لأخطار أكبر".
الوجبات السريعة والمشروبات الغازية: وقود المرض
التحول الغذائي لم يقف عند حدود المطبخ المنزلي، بل تمدد إلى أنماط استهلاك يومية باتت مهيمنة على المجتمعات العربية. وهنا تشير أبو رجيلي إلى أن "الوجبات السريعة والمشروبات الغازية ومشروبات الطاقة المحملة بالسكر ترهق البنكرياس وتسرع مقاومة الأنسولين، في وقت أسفر تراجع استهلاك الخضراوات والفاكهة والحبوب الكاملة عن فقدان الألياف الضرورية لتنظيم السكر.
وتذهب الطبيبة الاستشارية في أمراض الغدد والسكري والريجيم وأمراض التغذية والطب الداخلي شارلوت أبو إلياس، أبعد من ذلك، مؤكدة أن "الاعتماد الكبير على الخبز الأبيض والرز بكميات مفرطة، واللحم الدسم والدجاج مع الجلد، إضافة إلى استخدام السمن بكثافة في الطهو، كلها عوامل غذائية عززت انتشار السمنة ومن ثم السكري"، وتضيف أن "الوجبات السريعة والمشروبات الغازية بما فيها الدايت، والحلويات العربية الغنية بالقطر والسكر السريع الامتصاص، تشكل اليوم جزءاً رئيساً من نمط غذائي غير صحي"، مشددة على أن "الأبحاث أثبتت أن مادة الأسبارتام الموجودة في مشروبات الدايت مؤذية للبنكرياس وتضاعف خطر الإصابة، في وقت تؤدي المواد المضافة مثل Monosodium Glutamate في رقائق البطاطا والأطعمة المصنعة إلى رفع مقاومة الأنسولين وتراكم الدهون في منطقة البطن".
الاستعداد الوراثي: القابلية الكامنة
لكن الغذاء ليس وحده المسؤول، إذ تكشف الدراسات العلمية المنشورة في مجلة Diabetes Research and Clinical Practice عن دور خاص للوراثة في تضخيم الأخطار داخل المجتمعات العربية.
وتوضح أبو رجيلي أن "الدراسات أظهرت وجود طفرات جينية أكثر شيوعاً بين سكان المنطقة، ترتبط بمقاومة الأنسولين وزيادة تراكم الدهون الحشوية، إلى جانب شيوع التاريخ العائلي للمرض، مما يجعل الإصابة أكثر احتمالاً".
بدورها، ترى الطبيبة شارلوت أبو إلياس أن "السكري من النوع الثاني مرض متعدد الجينات، وغالباً ما نجد عائلات بكاملها مصابة به". وتضيف أن "الجينات العربية جعلت الجسم مهيأً تاريخياً لتخزين الدهون بسرعة عند توافر الطعام، وهو ما يفسر سرعة تراكم الكرش ومقاومة الأنسولين، ومن ثم ارتفاع خطر السكري في المنطقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قلة الحركة: المدن العربية مثال صارخ
في موازاة ذلك، يقدم نمط الحياة في المدن العربية بيئة مثالية لتفشي المرض، فبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية عام 2022، لا يلتزم سوى أقل من 30 في المئة من البالغين في المنطقة بمستويات النشاط البدني الموصى بها.
وتقول أبو إلياس "الاعتماد شبه الكامل على السيارات، وغياب الممرات المخصصة للمشي، وارتفاع كلفة النوادي الرياضية، كلها تحد من ممارسة النشاط البدني"، مضيفة أن "الحلول العملية تبدأ من تخطيط حضري يؤمن مسارات مشي آمنة، وتشجيع مبادرات العمل النشط مثل المكاتب المخصصة للوقوف والاجتماعات المتحركة، إلى جانب تنظيم حملات رياضية مجانية أو مدعومة".
الكشف المبكر: الحلقة المفقودة
على رغم وضوح العوامل، يبقى الكشف المبكر عن المرض نقطة ضعف أساسية. تقول أبو رجيلي: "ضعف برامج الفحص الدوري والتأخر في التشخيص يزيدان من التعقيدات الصحية، خصوصاً في ظل تفاوت مستوى الرعاية بين المدن والمناطق الريفية". وتلتقي معها أبو إلياس بالقول إن "اعتقاد بعض المرضى أن تحسن معدل السكر التراكمي يسمح بوقف العلاج يعقد مهمة الأطباء، فيما الحقيقة أن العلاج يتطلب التزاماً طويل الأمد بالدواء والحمية والرياضة"، مشددة على أن "الحل يكمن في إدراج فحوص مخزون السكري ضمن الفحوص الروتينية، وإطلاق حملات وطنية للتوعية، وتدريب الأطباء على أحدث البروتوكولات العلاجية".
ما بعد العلاج: نحو رؤية متكاملة
لم يعد السكري في المنطقة تحدياً طبياً فحسب، بل قضية اجتماعية واقتصادية تتطلب رؤية متكاملة. وهنا تؤكد أبو رجيلي أن "مكافحة السكري في العالم العربي لا تقتصر على العلاج الطبي، بل تتطلب تغييراً جذرياً في نمط الحياة، وسياسات حضرية وصحية شاملة، إضافة إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي، لوقف هذا الوباء الصامت قبل أن يلتهم مزيداً من الأجيال".
أما أبو إلياس فترى أن "الرياضة المنتظمة والغذاء المتوازن يبقيان خط الدفاع الأول، في وقت تبقى مسؤولية الأنظمة الصحية في توفير بنى تحتية متينة قادرة على مواجهة التحديات المقبلة".