ملخص
كثيراً ما كان نايجل فاراج شخصية مثيرة للجدل في المملكة المتحدة، ولكن لا أحد ينكر تأثيره المتزايد خلال الأعوام القليلة الماضية وتحديداً بعد انتخابات البرلمان عام 2024، فمن هو زعيم حزب "ريفورم" اليميني وكيف يمارس السياسة؟
يرى نفسه فارساً بالفطرة والسلوك، ويعتبر أن الدستورية التي تعيشها المملكة المتحدة اليوم هي ثمرة الحرب الأهلية التي خاضتها خلال القرن الـ17، حلمه الكبير في قيادة الحكومة البريطانية عام 2030 يمثل كابوساً للأحزاب السياسية في بريطانيا، فهو من بشَّر بطلاق لندن وبروكسل قبل عقدين من وقوعه، وهو من أقنع الملايين بأن سمساراً في البورصة يمكن أن يكون صوت اليمين في أقدم مؤسسات الديمقراطية حول العالم.
خلال الثالث من أبريل (نيسان) عام 1964 ولد نايجل فاراج في بلدة "فارن بورو" بمدينة "كنت" شرق إنجلترا، لم يعرف الفقر في طفولته، لكن والده عانى إدماناً على الكحول اضطره للغياب عن المنزل عامين عندما كان فاراج في الخامسة من العمر، وعندما عاد الأب "غاي فاراج" ترك مهنته كسمسار في سوق المال وعمل في تجارة التحف لبقية حياته.
عائلة فاراج تتحدر جزئياً من مهاجرين ألمان جاؤوا المملكة المتحدة خلال القرن الـ19، كما أن زوجته الثانية ألمانية الجنسية، لكن جذوره المهاجرة وزواجه الأوروبي لم يمنعاه من المطالبة بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي قبل أعوام، ولا يسببان الحرج له اليوم في رؤية المهاجرين سبباً رئيساً للمشكلات التي تعيشها البلاد على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإن بدا متحاملاً أكثر على القادمين من خارج القارة العجوز رغم أنه ينفي أي اتهامات له بالعنصرية.
الانتقال إلى السياسة
عندما كبر فاراج التحق بكلية "دولويتش" الخاصة في لندن، لكن الدراسة لم تكن جذابة كثيراً له فصرف النظر عن المرحلة الجامعية، وبدأ العمل في مهنة والده الأصلية كسمسار أموال، دخل حي المال في العاصمة وحجز لنفسه مكاناً كوسيط صفقات في قطاع المعادن حتى بات يكسب ما يكفيه للعيش بكل راحة، لكن شغفاً آخر طرق بابه.
في كلية "دولويتش" عام 1978 سمع فاراج خطبة فجرت بداخله الطموح السياسي، كان الخطيب حينها السير كيث جوزيف وزير التعليم في حكومة المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر بين عامي 1981 و1986، وشجعت كلماته الشاب اليميني على الانضمام إلى حزب "المحافظين" خلال العام ذاته وبقي فيه لأكثر من 14 عاماً.
خلال عام 1992 وقعت بريطانيا على معاهدة "ماستريخت" التي أسست للاتحاد الأوروبي، فغضب فاراج وغادر "المحافظين" لينضم إلى "الرابطة المناهضة للفيدرالية" التي تحولت بعدها بعام واحد إلى حزب "الاستقلال"، ومن هناك شق فاراج طريقه في صفوف تجمع لا يشجع الوحدة الأوروبية ويخشى على الهوية الوطنية من الأجانب.
رشح حزب "الاستقلال" نحو 200 شخص للبرلمان البريطاني خلال انتخابات 1997، لكن أداءه كان ضعيفاً وحصل على نحو واحد في المئة من الأصوات، وبعدها بعامين فقط حقق نتائج أفضل في انتخابات البرلمان الأوروبي وفاز بثلاثة مقاعد ذهب واحد منها إلى فاراج الذي بقي فيه حتى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سلم "بريكست"
"بريكست" كان السلم الذي تسلقه فاراج في السياسة البريطانية، فظل يطالب بطلاق لندن وبروكسل لأكثر من 20 عاماً متتالياً، مستغلاً خلالها كل ما شهدته البلاد من مواقف وتبدلات لحشد البريطانيين باتجاه هذا الخيار الذي فتحت من أجله صناديق الاقتراع في استفتاء شعبي تاريخي عاشته البلاد عام 2016، وحسم القرار فيه لصالح الانفصاليين بنسبة تقترب من 52 في المئة مقابل 48 في المئة صوتوا لمصلحة العضوية الأوروبية.
في عام الاستفتاء المصيري كان فاراج أصبح زعيماً لحزب "الاستقلال" أو "UKIP" كما يختصر باللغة الإنجليزية، ولا نبالغ أبداً بالقول إن الحزب سطع نجمه بسبب الزعيم ومواقفه وشخصيته التي كانت وما زالت محط جدل كبير، فهناك من يراه بطلاً وطنياً وآخرون يرونه يمينياً وقحاً يفتقد خطابه لآداب ودبلوماسية الساسة.
أطلق على فاراج لقب "فيلسوف الحانات" لأنه كثيراً ما كان يرتادها ويصنع منها منبراً لخطبه ولقاءاته السياسية، هناك كان يتحدث إلى الناس ويروج لأفكاره اليمينية، وليس أفضل من تلك الأماكن لمخاطبة سكان البلاد الأصليين، فلطالما عرفت الحانات (البارات) كجزء من الثقافة البريطانية ونمط حياة تعرفه البلاد منذ عقود طويلة، ولا يزال حياً.
أسلوبه البسيط والمباشر في الحديث إضافة إلى مظهره المرتبط في ألوانه وترتيبه وخامته مع تقاليد الزي البريطاني، وضع فاراج ضمن المرتبة الثانية بين قائمة أكثر الشخصيات تأثيراً في السياسة البريطانية خلال عام 2014 وفق تصنيف صحيفة "التايمز"، والأول بين قادة اليمين بحسب قائمة صحيفة "New Statesman" عام 2023.
مرحلة انتقالية
بعد تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016 غادر "فيلسوف الحانات" حزب "الاستقلال" وخاض تجارب إعلامية مختلفة زادت نجوميته داخل الساحة اليمينية، فعمل محللاً سياسياً لقناة "فوكس نيوز" الأميركية عام 2017، ثم بدأ تقديم برامج على محطات محلية معروفة مثل إذاعة "LBC" وقناة "GB News" التي قدر دخله منها عام 2024 بأكثر من 1.6 مليون دولار.
ثلاثة أعوام من الزخم الإعلامي كانت كافية لفاراج لجمع ما يكفي من الشهرة والمال من أجل إطلاق حزب جديد اسمه "بريكست"، وهل يصلح الاسم لغيره وقد كان القائد الأبرز في معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى جانب رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون الذي قاد حزب "المحافظين" بين عامي 2019 و2022.
خلال ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 خاض فاراج بحزبه الجديد الانتخابات العامة، ولأن طلاق لندن وبروكسل كان رهناً بفوز "المحافظين" بأكثرية برلمانية تمرر لهم اتفاق الخروج، قرر زعيم "بريكست" التنازل للحزب الأزرق الذي فاز بأكثرية 80 نائباً وتمكن من المصادقة على اتفاق صعب أبرم بين لندن بروكسل حينها.
لم يسلم "فيلسوف الحانات" من الانتقادات الحادة، فقد وصف من قبل مقربين له بأنه "نرجسي وعنصري وشخصية محرجة"، وشاب عمله السياسي بحسب صحيفة "الغارديان" اتهامات بسوء إدارة حزب "بريكست" وتبديد موارده المالية، لكن صحيفة "فايننشال تايمز" نشرت خلال مايو (أيار) الماضي تقريراً يقول إن فاراج يمتلك قدرة استثنائية على العودة إلى الواجهة على رغم التراجعات والفضائح، معيدة ذلك إلى قوة شخصيته ومهارته الإعلامية وصموده أمام الأزمات السياسية والشخصية، وهذا يجعله برأي الصحيفة "يحتفظ بتأثير في الساحة السياسية، حتى وإن كانت شعبيته مُختلفاً حولها، وقد يشكل تهديداً خطراً للأحزاب التقليدية إذا واصل التأثير في اليمين كما هي الحال اليوم".
تجربة "ريفورم"
خلال عام 2024 قرر فاراج خوض تجربة الانتخابات العامة مرة ثامنة، ولكن هذه المرة زعيماً لحزب "ريفورم" الذي ولد على أنقاض "بريكست"، وارتدى حلته الجديدة خلال السادس من يناير (كانون الثاني) 2021. حشد القائد كل إمكاناته وطرح حزبه بديلاً عن "المحافظين"، الذي فشل في تحقيق أحلام البريطانيين من الخروج على مختلف الصعد.
بين المرة الأولى التي تنازل فيها لـ"المحافظين" والثانية التي وجه لهم ضربة قوية في الاستحقاق البرلماني مرت خمسة أعوام كاملة، كان فيها فاراج يزداد حضوراً على الساحة السياسية من خلال إدانة الفشل الحكومي في إدارة ثلاثة ملفات رئيسة، أولها ضبط الحدود ووقف الهجرة والثاني دعم الاقتصاد والثالث النزوع نحو الاستدامة البيئية.
تحقق حلم فاراج أخيرا بالوصول إلى البرلمان عام 2024، واصطحب معه أربعة نواب من حزبه "ريفورم" أما "المحافظين" فقد طالتهم خسارة ساحقة لمصلحة "العمال" الذي حصد أكثرية مطلقة قاربت التي عرفها الحزب في عهد توني بلير عام 1997.
النصر الذي حققه "ريفورم" في استحقاق يوليو (تموز) 2024 لا يتجلى فقط بدخول فاراج وزملائه إلى البرلمان وإنما بأعداد الذين منحوا أصواتهم له ولحزبه في صناديق الاقتراع، فقد حل ثالثاً بعدد الناخبين بعد الحزبين الرئيسيين "العمال" و"المحافظين" وحصد نحو 15 في المئة من إجمالي الأصوات.
بعد أشهر من الاستحقاق البرلماني شهدت بريطانيا انتخابات بلدية تمكن فيها فاراج وحزبه من الفوز في 10 مجالس بلدية من أصل 13، وهي نتيجة لم تكن مفاجئة لكل من تابع صعود حضور "ريفورم" في الساحة السياسية على حساب الجميع.
لم تمض الحكومة العمالية عامها الأول في السلطة حتى بات فاراج في المرتبة الثانية بعد رئيس الوزراء كير ستارمر على قائمة الساسة المستحقين لقيادة البلاد، وفق استطلاع تجريه مؤسسة "يوغوف" بصورة دورية ويدلل بوضوح على أن المسافة تضيق كثيراً بين الشخصيتين في كل مرة تُستطلع فيها آراء المشاركين عن الشخص الأنسب لقيادة البلاد.
سياسة فاراج
زعيم "ريفورم" الأب لأربعة أولاد، لا يؤمن بالتحول إلى الاستدامة والطبيعة من أجل حماية الكوكب من التغير المناخي، على العكس تماماً يريد مزيداً من الاستثمار في الوقود الأحفوري، ويعارض أي إنفاق حكومي على مشاريع الطاقة النظيفة.
الهوية الوطنية والعائلة من الثوابت في سياسة فاراج، وهو يرى في المهاجرين خطراً عليهما، ويعد أن الحكومات البريطانية المتعاقبة فشلت في وقف تدفق الأجانب ومعالجة المشكلات التي أفرزتها الهجرة، أما الحل في رأيه فيتمثل بالخروج من اتفاق حقوق الإنسان الأوروبي وإعادة اللاجئين إلى بلادهم أو أية دولة ثالثة.
داخلياً أيضاً، يؤيد فاراج إلغاء سقف الدعم الحكومي للأطفال لكي يتجاوز الولد الأول والثاني، ووعد كبار السن بإعادة المساعدات التي تعينهم على تحمل كلف الطاقة والتدفئة بعدما قررت الحكومة العمالية إلغاءها العام الماضي، على ضوء كل هذا تحول "فيلسوف الحانات" إلى صوت الطبقة الكادحة والحالمين بعائلات كبيرة والمؤمنين بأن "العرق الصافي" لمواطني المملكة المتحدة هو مستقبل المملكة المتحدة.
العلاقة مع الخارج
فاراج ليس قصة محلية منفصلة عن الواقع الغربي عموماً، فهو جزء من يمين يتسع حضوره في دول الغرب منذ أعوام، ويتمتع زعيم حزب "ريفروم" بصلات وثيقة مع شخصيات تشبهه في الانتماء على امتداد قارة أوروبا، وتجمعه علاقة جيدة جداً مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونائبه جي دي فانس، وهما يمثلان أقوى دعم للشعوبيين في العالم منذ عودة ترمب إلى سدة الحكم بولاية ثانية، بدأت خلال الـ18 من يناير 2025.
عندما زار فانس المملكة المتحدة صيف 2025 اجتمع مع فاراج وليس مع زعيمة حزب "المحافظين" كيمي بادينوك، وعندما خرج زعيم "ريفورم" قال إن ما دار على الطاولة سيبقى سراً لن يفضحه، لكن واقع الحال في بريطانيا يجهر بتفاصيله كل يوم ويبشر بفاراج زعيما محتملا للبلاد يوما ما.
مثل بقية زعماء الشعبوية في أوروبا لا يحمل فاراج ضغينة تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى أنه يعتقد ان الغرب أجبر روسيا على الحرب بعدما خطط لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وأشعل خوف موسكو من الخطوة.
حلم القيادة
منذ دخل فاراج وحزبه إلى البرلمان وهو يشكل أداة ضغط كبيرة على الحكومة والأحزاب، يصدح نواب "ريفروم" بما يريده الشارع المحسوب على اليمين بكل فئاته فيزدادون شهرة وقبولاً، بينما يقترب "فيلسوف الحانات" من الزعامة الشعبية والسياسية، وكلما اتسع تأثيره تراجعت حظوظ حزب "المحافظين" بالعودة إلى المشهد، واضطر "العمال" إلى تغيير خطط حكومتهم خوفاً من فقدان اليمينيين بين صفوفهم وتمرد الوسطيين واليساريين الغاضبين من أداء الدولة في ملفات داخلية وخارجية مختلفة.
يرى البعض في فاراج اليوم الزعيم المقبل لليمين في بريطانيا، وربما بطريقة ما يتوحد حزبا "ريفورم" و"المحافظين" مستقبلاً لينتجا تياراً سياسياً ينافس "العمال" في استحقاق 2029، ويصل "فيلسوف الحانات" إلى المنزل رقم 10 وسط لندن.
في العشرينيات من عمره تعرض فاراج لحادثة كادت تودي بحياته عندما دهسته سيارة في كينت بعد ليلة قضاها داخل الحانة. وأصيب بجروح بالغة حينها وخشي الأطباء أن يفقد ساقه، لكنه تعافى وأصبحت ممرضته غرين هايز زوجته الأولى، وبعد أشهر من تعافيه من حادثة الطريق أصيب فاراج بسرطان الخصية ونجا منه أيضاً. ويقول إن هذا غير حياته وجعله أكثر تصميماً على التمتع بأيامه، وخلال عام 2015 تعرض لحادثة طائرة تسببت له بألم مزمن في الظهر ولكن ذلك أيضاً لم يوقف أحلامه السياسية.
خلال مسيرته الممتدة لأربعة عقود حتى اليوم ألف فاراج كتابين هما "الطيران بحرية" عام 2010 و"الثورة الأرجوانية" عام 2015، وأسهم في كتاب ثالث كان عنوانه "أزمة اللاجئين حول العالم... كيف يجب أن نتصرف"، اللافت أن "الثورة الأرجوانية" كان حول تجربته مع "الاستقلال" وفيه كتب أن "الحزب" ضم بين صفوفه مجانين، قد تبدو الملاحظة بمثابة نقد ذاتي لكن "فيلسوف الحانات" من وجهة نظر كثر يمارس السياسة بجنون أو أنه يترجم مبدأ باح به مرة ضمن لقاء صحافي، فحواه باختصار "أن التاريخ يُصنع عبر حدوث أشياء لم تحدث بالحسبان"، وهذا ما فعله مرات عدة في حياته.
يتبع "ريفروم" اليوم أكثر من 233 ألف شخص، ويراهن فاراج على أن أعضاء الحزب مع عائلاتهم ومئات آلاف الساخطين على الأحزاب الكبرى في البلاد سيوصلونه إلى رئاسة الوزراء عبر الانتخابات البرلمانية خلال عام 2029. يقول العالم ألبرت أينشتاين إن "المنطق يأخذك من ألف إلى باء، والخيال يأخذك إلى أي مكان"، وهنا يبقى للأعوام أن تحكم على حلم "فيلسوف الحانات" إن كان خيالاً أم منطقاً.