ملخص
"الاستنسابية" هي الصفة التي يمكن أن نطلقها على المعرض الذي جرى افتتاحه في متحف نقولا إبراهيم سرسق في الأشرفية بعنوان "مفهوم الايقونة"، أي التحول إلى أيقونة بمعنى الصيرورة becoming icon، والتسمية هي أقرب ما يكون إلى الخطاب الفلسفي عند جيل دولوز، لأنها تحمل بعداً تأويلياً وعمقاً مفهومياً.
يطرح معرض متحف سرسق، في تعريف مفهوم الأيقونة، سؤالاً جوهرياً وهو كيف يكتسب العمل الفني مكانة الأيقونة؟ وماذا يكشف هذا الانتقال إلى الظهور أو رفضه عن السرديات التي نبنيها، والذاكرة التي نُفعلها، والجماعات التي نصوغها؟ فالعمل الفني، بحسب المنظر النمسوي ألويس ريغل، لا يولد أيقونة بل يسلك مساراً، سواء رمزياً أو مادياً او روحياً يؤدي إلى الاعتراف بقيمته التاريخية أو التذكارية أو الوظيفية أو الابداعية"، وفي هذا السياق يجمع المعرض أعمالاً اختيرت من المجموعة الدائمة لمتحف سرسق التي سبق وعرض معظمها تحت شعارات أخرى وفي مناسبات عدة، إضافة إلى الإعارات العامة والخاصة، ويدعي البحث في ديناميات الاعتراف والإقصاء والتثبيت، ضمن تاريخ الفن الحديث والمعاصر.
غير أن الواقع يشير إلى أن المعرض لا يعدو كونه عملاً تجميعياً مسطحاً، يحيل إلى الفجوة في تقييم ماضي فنوننا وحاضرها، بسبب الافتقار إلى معرفة الذاكرة الجماعية الدالة على الأيقنة، وفق منهج علمي ينأى عن الادعاء والشخصنة والتفرد، فالمنطلقات الأساس التي يقوم عليها المعرض تتمثل في المحتوى النظري لمفهوم الأيقونية في الفلسفة المعاصرة، كما تتبناه منسقة المعرض ياسمين شمالي، بما يحمله من تعريفات وعناوين ومندرجات، وهي تقول "إن الاعتراف الذي منحه المحترفون أو الجمهور لبعض الأعمال الفنية أدى إلى وضعها في مصاف الأيقونات، وغالباً ما يأتي هذا التحول إلى أيقونة، إثر حدث مفصلي في حياة الفنان/ـة، كأن يتعرض لهجوم شرس أو عمل تخريبي أو رفض أم أو موت رمزي أو فعلي، فتفهم الأيقونة هنا على أنها صورة متداولة تحظى باعتراف جماعي سواء من العامة أو الخاصة، وتستمر في التعبير عن حال أو شيء ما خارج نطاق حياة الفنان وزمانه ومكانه".
هذه المقدمة النظرية المتأتية من حقائق في تاريخ الفنون الغربية ربما ينعكس صداها على المستوى المحلي، ولكن من خلال مسوغات وإستراتيجيات أخرى تتماشى مع طبيعة فنوننا وثقافتنا العربية والمشرقية، لذا يثير المعرض النقاش حول مدى نجاحه في اختيار الأعمال الدالة على هذه الأيقنة من جيلَي الحداثة والمعاصرة، ويترافق مع هذا النقاش سؤال آخر ملح وهو من يوثق؟ ومن يؤرخ ويحلل؟
"أنا" الفنان ومكتسبات الذات
ثمة أعمال معروضة كان ينبغي استبعادها، فيما غابت عن مشهدية العرض أعمال فنانين كانت شاهدة على عصرها، والمشكلة في بناء التصورات عن فنوننا تنطلق من محاولة تطبيق النظريات الغربية المقتبسة من الكتب، بينما يبقى تحليل واقع التشكيل اللبناني بتحولاته وخصائصه ومحطاته التاريخية في مكان آخر بعيداً من الحقيقة، وبين الأثر الفني ومحيطه الثقافي والاجتماعي كثيراً ما تطغى لدينا "أنا" الفنان وشخصه على منجزه الفني بوصفه أحد مكتسبات الذات، وربما كان هذا أحد الأسباب التي أفقدت المعرض صوابية وجهته، فانحرف نحو اختيار أعمال ربما تكون مهمة، ولكن غالبيتها تفتقر إلى الصفة الأيقونية، وأحياناً جرى اقحام تجارب هامشية، وأخرى في غير موضعها، ودمجها ضمن عناوين وثيمات ومقاربات نصية معاصرة، من شأنها تحويل الاهتمام إلى الفنانين أنفسهم وتوجهاتهم بدلاً من التركيز على الأعمال التي يفترض أنها تحمل "صفات أيقونية". وعلى امتداد مسار المعرض تتوالى تعاريف مختارة كـ "شكل" و"رمز" و"دوران و"جماعة" و"نموذج" و"مَعلم" و"اندماج و"شعار" و"انتشار" أو "وحدة"، لتطرح أسئلة افتراضية حول العملية التي تُحول الأعمال الفنية إلى أيقونات.
ويتيح الـ "ديالكتيك" القائم على نظريات الأيقونية المعاصرة مد الجسور بين المقدس والمدنس، وبين تاريخ الصورة كسلطة وتمثلها في المعاصرة، لذا ينطلق المعرض من مجموعة من الأيقونات الدينية في التقليد البيزنطي، على اعتبار أن الأيقونة ليست تمثيلًا بل تجلياً لحضور ماورائي، "هذا التوتر بين الديني والمعاصر، بين الثبات والتحول، هو ما يجعل عنوان المعرض غنياً ومفتوحاً على التأويل".
وفي هذا السياق تبرز اللوحة التذكارية للفنانة سيسي سرسق التي خلدت فيها صورة زميلتها الفنانة جوليانا ساروفيم، جالسة بوضعية أمامية شبيهة بالـ "هادجيتريا"، محاطة بالضوء وملامحها مبسطة مشبعة بالسكينة والتأمل، بأسلوب يعتمد على التسطيح والتذهيب في تقليد مستمد من أسلوب الأيقونة البيزنطية، لكن في المقابل غابت عن المعرض كثير من تجارب الفنانين الحداثيين الذين استلهموا من الأيقونة طقوسها الروحانية في قراءة معالم الواقع، مثل الرموز الخيالية لثيمة المرأة والحصان في فن هرير، وأيقونات رفيق شرف بسماتها المتفردة التي جسدها كحال تأملية منبثقة من تصدعات الانقسامات الطائفية في لبنان، فدمج فيها بين الطقوس البيزنطية وفن الواسطي والمنمنمات الإسلامية، وكذلك غابت لوحات محمود الزيباوي الذي شقت موهبته طريقها في محاكاة فن البورتريه كعمل دنيوي ملتبس، يقع دوماً في حال الروحانية المستمدة من فن الايقونة.
هذه الأيقونية لم تعرف يوماً حضوراً جمالياً آسراً كما عرفته في لوحات بول غيراغوسيان، والذي يتمثل في المعرض بلوحة "الأم والطفل" بأسلوب تعبيري تلقائي يتخطى الواقع نحو التجريد، وبعشوائية لا نعرف أسبابها ومبرراتها تتجاور لوحة غيراغوسيان ذات الحلة البيضاء الروحاينة، مع لوحة تهكمية على طريقة "تحويرات بيكاسو" للفنان التونسي حاتم المكي "أمومة عند الذئب الصغير"، وهو من جيل الحداثة ولكن لا تربطه بالتشكيل في لبنان أية صلة.
كأن الحرب حدث عارض
وامتداداً للمناخات الصوفية - الكنسية نجد لوحة تجريدية بالخط السرياني للفنان صليبا الدويهي، تفتح المجال لقراءة تأثيرات الفنون الإسلامية في أساليب الفنانين الحداثيين، وفي هذا السياق يقدم متحف سرسق للمرة الأولى مخطوطاً رسمه شفيق عبود لـ "مقامات الحريري" على هيئة كتاب مصور، بتكليف من غسان تويني، استلهم فيه منمنمات الواسطي وحداثة باريس في رؤية متجددة، وباستثناء منحوتة لسلوى روضة شقير ولوحة للفنان سعيد عقل، غاب عن ميدان الحروفية العربية اثنان من كبار روادها وهما وجيه نحله وسمير الصايغ.
وتحت عنوان "اندماج" كمفهوم عام للقراءة التأملية في المعاصرة، جرى دمج ما لا يندمج من التجارب والسياقات، بدءاً من تأثيرات مدرسة نيويورك في تجربة عارف الريس من خلال لوحة "البساط الطائر" المستمدة من سرديات التراث العربي وخرافاته وأساطيره، مروراً بلوحات للأعضاء الثلاثة الذي أسسوا أول تجمع في لبنان وهو "التجمع الشرقي" (منير نجم وعادل الصغير وستيليو سكامنغا)، إذ قادوا التجريد نحو تأملات روحية مستمدة من البعد الميتافيزيقي للضوء، مندمجة مع الموتيفات الزخرفية والهندسية كإرث جمالي.
وعلى النقيض يحضر فريد عواد بأسلوبه التشخيصي الشبحي وألوانه المتقشفة المستوحاة من نوافذ غربته الباريسية، وفي سياق مبهم تتبدى بضع لوحات لكل من جميل ملاعب وساميه عسيران تعبر عن فواجع الحرب، وكأن الحرب حدث عابر لا مفصل تحولي في ثقافة بيروت، وهكذا يمر الموضوع مرور الكرام من دون أثر لحضور فنانين، من طراز جان خليفة وسيتا مانوكيان وأسادور ومحمد الرواس وزافين هاديشيان، وفي المقابل ثمة حضور هزيل لكل من حسين ماضي وأمين باشا ورفيق شرف، وتغييب تام للأخوة بصبوص وإبراهيم مرزوق وموسى طيبا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولطالما عرف الباشا كرسام للمقاهي، ومن المدهش إقصاؤه عن هذه الثيمة التي اقتصرت هنا على لوحة واحدة لحسن جوني، وتظهر مقاهي بيروت قبيل الحرب بشكل خاطف في بضع صور فوتوغرافية التقطها وضاح فارس لمشاهير أهل الثقافة والفن في مقهى الـ "هورس شو".
وبموازاة ذلك ينقلنا المعرض إلى قراءة المضامين المؤثرة في رسائل هلن الخال التي كتبتها لصديقها شفيق عبود، لنتبين أن هذه الرسائل متصلة بثيمة "الدوران" التي تندرج تحتها مختارات من اللوحات ذات المواضيع والأساليب المتفرقة (جوليانا ساروفيم، إيفيت أشقر، حليم جرداق)، وكأننا فعلاً ندور في متاهة من حلقات مفرغة بلا طائل.
ولئن كان جبل "تامالبايس" عملاً أيقونياً بحق بالنسبة إلى إتيل عدنان، فلماذا يغيب جبل صنين الذي لا تزال ثلوجه ماثلة في لوحات شوقي شمعون التي أضحت بمثابة أيقونات عن لبنان في الاغتراب الأميركي، وقد خلده من قبل قيصر الجميل في سلسلة من أجمل لوحاته الانطباعية، كما دخل في الذاكرة الجماعية في لبنان عبر ديوان "الجبل المُلهم" للشاعر شارل القرم؟
نحج المعرض في سردية تمثال الشهداء كأيقونة ذات بعد تاريخي قديم ومعاصر (يوسف الحويك ومنى حاطوم وسعيد بعلبكي)، أما ثيمة "الرمز" فاقتصر تمثيلها على رمزية لوحات عارف الريس الذي رسم مشاهد من العنف السياسي، بدءاً من نكسة العرب في يونيو (حزيران) 1967، ووصولاً إلى مرحلة "رؤوس وأقدام" التي سبقت أهوال الحرب الأهلية اللبنانية.
وينقلنا المعرض إلى لوحة "الملثم" لأيمن بعلبكي التي أصبحت أيقونة معاصرة لما أثارته من جدل مرتبط بالمجريات السياسية خلال الأعوام الأخيرة، أما ثيمة "الموديل الحي" المرتبطة بذاكرة "مريم"، أول موديل في لبنان، فقد تجلت في لوحات قيصر الجميل ثم في أعمال هلن الخال وهيكات كالان التي عكست صوغاً جمالياً متدفقاً في مسالك ودروب متنوعة، ولعل ثيمة شجرة الأرز تعد من أجمل وأهم الثيمات الأيقونية التي كان يمكن الاشتغال عليها بعمق، بدلاً من استلحاقها بطريقة هامشية ومقتضبة، غير أن التشتت والضياع الناتجين من إغراءات التثاقف في تبني مفاهيم أدبيات الأيقونية المعاصرة، قادت إلى بقاء هذه العناوين مجرد أُطر شكلية، عجزت عن تقديم قراءة فنية عميقة ومغايرة لجيلَي الحداثة والمعاصرة.