Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسام الرائد حليم جرداق بين تجليات الخط واللون وزهد الحياة

جذوره تضرب في الأرض ورؤيته الحداثية منفتحة على آفاق الفن العالمي

الرسام اللبناني الرائد حليم جرداق رحل عن 92 سنة (اندبندنت عربية)

قضى الرسّام حليم جرداق، أحد روّاد الفن التشكيلي في لبنان، بضعة أشهر هي الأخيرة في حياته، في "مأوى" العجزة، فاقداً ذاكرته، وحيداً، مهملاً، شبه متروك، وبعيداً من منزله ومحترفه وتراثه الفني الغني الذي كرّسه رسّاماً في مصاف الرسّامين الكبار. وفي بضع صور التُقطت له سرّاً في "المأوى"، بدا وجهه ملائكياً، صامتاً، خالياً من ملامحه الأثيرة، وكأنه كائن غريب يعيش في كوكب آخر. كانت أليمة تلك الصور القليلة في ما حملت من علامات غياب تام عاشه الرسّام قبل أن يغيب غيبته الأخيرة.

رسّام وحفّار وملون وخلّاق أشكال ومساحات تشكيلية ووجوه وقامات وفضاءات تجريدية، كاتب كاد أن يكون شاعراً، منظّر وأكاديمي من الطراز الرفيع، نادراً ما برز رسّام من الأجيال اللبنانية اللاحقة، من دون أن يعبر محترفه ويتعلم عليه في كلية الفنون ويأخذ منه ويتحاور مع تجاربه ونظرياته. رسّام مبدع وأكاديمي في وقت واحد، اختبر الفن التشكيلي العالمي في مدارسه وتياراته كافة منذ بزوغ هذا الفن في الحضارات القديمة حتى ثورة الحداثة وما بعدها، مروراً بما يُسمّى الكلاسيكية في تجليّاتها الأوروبية ثم التعبيرية والانطباعية والسريالية والتكعيبية والتجريدية وما بعدها. وفي باريس التي أقام فيها سنوات، تمكّن من الاطّلاع عن كثب على الثورات الفنية المتعاقبة عبر زيارة المتاحف ومن خلال الدراسة الأكاديمية الرصينة وتعلّم فن الحفر وأبدع فيه أعمالاً عرضها في باريس وكان لها صدى طيب. وكان أول من رسّخ في لبنان هذا الفن (غرافور) ترسيخاً نوعياً وعلمياً، فأنتج أعمالاً عدّة سواء في النحاسيات أو في المواد الأخرى.

أفق واسع

غير أنّ عالم حليم جرداق كان واسعاً وآفاقه متعددة وكذلك تقنيّاته وأساليبه ومناهجه الفنية. مخطّط أشكال وزيوح، ملوّن بالزيت والأكواريل والغواش، رسّام مشاهد وبورتريهات ووجوه وأجساد نسائية عارية، خلّاق أشكال تجريدية تحمل من الأحاسيس ما تحمل من الأفكار المفتوحة على التأويل الحرّ، حفّار، مطوِّع "الخردة" المعدنية بالتطريق والطعج بغية أن يخلق منها أشكالاً. كان حليم يعتبر أن الفن يمكن أن يتجسّد عبر النوافل المرميّة على الطرق، كالعلب المعدنية والأسلاك والصفائح الصغيرة، فيها بنظره مواد "الفن الفقير" الذي يمكن أن يبلغ جماليات فريدة.

وفي السبعينيات، أطلق حليم شعاراً فريداً هو"أنا ألوّن، إذاً أنا موجود" في تحريف لـ"الكوجيتو" الديكارتي الشهير (أنا أفكر، إذاً أنا موجود). والتلوين يعني في معجم جرداق، اللعب والرصانة في آن واحد، التلوين في بعده الجمالي الرصين الذي يفضي إلى الوجود، والتلوين في بعده الطفولي والتلقائي الذي يبدو ضرباً من الإيغال في اللاوعي والحلم والصفاء الأول. ولطالما بدا حليم شيخاً وطفلاً، معلماً وتلميذاً، حكيماً ومنفعلاً، أخلاقياً ومتحرّراً، أكاديمياً وتلقائياً، مهندساً وشاعراً. كان ابن الأرض، أرض القرية، بامتياز، وسليل الثقافة العالمية والحضارة المدينية. وهو كان يهوى الشعر الذي ودّ أن يكتبه، وكان حيناً تلو آخر يدوّن على دفاتره نصوصاً هي أقرب إلى القصائد والتأمّلات، المشبعة بالأبعاد الروحانية والصوفية. فهو فعلاً عاش حياة فيها الكثير من العزلة والزهد، لا سيما في سنوات الحرب. كان حليم رفيق الشاعر خليل حاوي وصديقه منذ أيام الطفولة، في الشوير، وتعلّما معاً فن "التعمير" بالحجر، وهذه المهنة زاولها حاوي في مطلع فتوّته بينما تعلّمها جرادق كهواية على يد والده الذي كان "معمرجياً" مثل معظم رجال القرية. وكان أيضاً صديق عددٍ كبيرٍ من الشعراء وفي مقدمهم أدونيس.

وخلال انكبابه الدائم والدؤوب على الرسم والتلوين والحفر، كتب حليم دراسات عدّة جمعها في كتب، وهي نمّت عن ثقافته العميقة في الفن والتراث والحداثة.

من القرية الى باريس

وفي البيان الذي نعته خلاله جمعية الفنانين اللبنانيين ورد موجز مهم لسيرته ومساره الطويل. حليم جرداق من مواليد عين السنديانة - المتن الشمالي العام 1927. هو من روّاد الفن المعاصر في لبنان والعالم العربي، خصوصاً في فن تجريد اللّون والخطّ والحفر على صفائح المعدن. تخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا) من 1953 إلى 1957، ليسافر بعد التخرّج إلى باريس حيث انتسب إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة والتحق بأكاديمية "لا غراند شوميير" ومحترف أندره لوت، ونال عام 1961 الجائزة الأولى للحفر في المدرسة الوطنية العليا في باريس. وكان من أوائل الذين انتسبوا إلى جمعية الفنّانين للرسم والنحت في بيروت عام 1959.

عام 1963، تعمّق بدروسه في ميونيخ وعرّج على باريس حيث أقام ثلاثة معارض، ليعود عام 1966 إلى بيروت مقدماً تجاربه الفنية الحديثة ومتنقّلاً عبر مراحل عدّة: الواقعية والتكعيبية والرمزية والتعبيرية والتشخيصيّة. إلّا أن اسمه ارتبط بفن الحفر الطباعي على المعادن، وهو الأول فيه في العالم العربي، وقد أسّس محترف الحفر النحاسي في كلية الفنون في الجامعة اللبنانية التي درّس فيها، كما استمرّ يدرّس الفن في أكاديمية الألبا لسنوات طويلة كان لها التأثير الفعّال في أجيال من الفنّانين الذين لمعوا في عالم الفن.

أقام حليم جرداق معارض عدّة في لبنان والخارج واشترك في معارض مهمّة وحاز جوائز محلّية وعالمية. وقد طرح حليم جرداق فكره ونظرته وفلسفته إزاء الفن والنظريّات الفنيّة التاريخية ومواقفه غير التقليدية في كتاباته، فأصدر كتباً عدّة منها "عين الرضا" و"تحوّلات الخطّ واللّون" و"صورة ذاتية".
حليم جرداق من الروّاد الذين تركوا بصماتهم في التجارب المهمة التي مرّ بها الفن اللبناني في مراحله. ترك بصمة كبيرة في الحركة التشكيلية اللبنانية والعربية الحديثة. ويُعدُّ من روّاد الفن المعاصر في لبنان والعالم العربي ومن كبار التشكيليين المخضرمين.

 

المزيد من ثقافة