ملخص
على رغم الرفض الدولي الصارخ لخطة نتنياهو في غزة فإن إدارة ترمب بدت في حال إذعان عكستها تصريحات الرئيس نفسه حينما امتنع عن دعم الخطوة الإسرائيلية رسمياً، لكنه ترك الأمر للحكومة الإسرائيلية، فهل يستمر ذلك؟
على رغم عدم منح الرئيس الأميركي دونالد ترمب موافقة رسمية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كي يجتاح كامل قطاع غزة، فإن تقارير عدة أكدت أنه أعطى الضوء الأخضر للعملية، لكن مع ذلك يراهن قطاع واسع في واشنطن على إمكان تغيير موقف ترمب وتحالفه مع بقية المجتمع الدولي الرافض لهذه الخطوة التي لن تؤدي سوى إلى تعميق الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها في المجتمع الدولي الرافض للقرار الإسرائيلي، بخاصة أن الخطوة الإسرائيلية قد تدمر فرص حل الدولتين وتفسح المجال لإعادة الاستيطان الإسرائيلي لغزة.
النصر الذي لا يأتي أبداً
في أبريل (نيسان) 2024 قال نتنياهو إن إسرائيل على بعد خطوة واحدة فقط من النصر إذا سيطرت على رفح، وفي مارس (آذار) من العام الحالي، وبعد تدمير رفح ورفض "حماس" الاستسلام، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي حملة عسكرية زعم أنها ستمنح إسرائيل النصر أخيراً، وعندما لم يحدث ذلك، شن عملية أوسع نطاقاً في مايو (أيار)، استمرت ثلاثة أشهر، وفشلت أيضاً في إزاحة قوات "حماس" المنهكة، لكنها تركت عديداً من المدنيين الفلسطينيين في مجاعة.
الآن، قرر نتنياهو وحكومته شن هجوم كبير آخر للسيطرة على مدينة غزة، وكامل القطاع على أمل أن يهزم "حماس" أخيراً في مسعى قد ينتهي بالطريقة نفسها التي انتهت بها جميع جهوده السابقة أي إلى طريق مسدود استراتيجياً، حيث لا تزال "حماس" متمسكة بالسلطة، والرهائن الإسرائيليون في قبضتها، والمدنيون الفلسطينيون عالقون في كابوس مرعب.
ولأن سيطرت إسرائيل في الأشهر الأولى من الحرب على جزء كبير من مدينة غزة، وبعض المناطق الأخرى أكثر من مرة، قبل أن تتخلى عنها بالكامل على افتراض خاطئ بأن "حماس" هزمت، يرى السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل توماس نايدز أن "نتنياهو وضع لنفسه تعريفاً للنجاح يصعب تحقيقه، وهو القضاء التام على كل عضو في 'حماس'، وهو أمر غير قابل للتحقيق ببساطة، بالتالي لن تنجح العملية أبداً، بينما كان ينبغي أن يكون تعريف النجاح هو ألا تتمكن 'حماس' أبداً من مهاجمة إسرائيل كما فعلت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2023 وهو ما تحقق بالفعل".
إذعان أميركي
وعلى رغم الرفض الدولي الصارخ لخطة نتنياهو في غزة فإن إدارة ترمب بدت في حال إذعان عكستها تصريحات الرئيس نفسه حينما امتنع عن دعم الخطوة الإسرائيلية رسمياً، لكنه ترك الأمر للحكومة الإسرائيلية، وهو ما كرره سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل مايك هاكابي الذي اعتبر أنه ليس من واجب بلاده أن تملي على الإسرائيليين ما ينبغي أو لا ينبغي عليهم فعله لأن القرار بيد الإسرائيليين وحدهم.
ومع ذلك ربما كان الموقف الأميركي تولد نتيجة اعتقاد حاسم بأن قرار الحكومة الإسرائيلية ليس إلا ورقة ضغط تكتيكية قد تؤدي إلى تنازلات من حركة 'حماس'، وما زالت هناك رهانات بأن الرئيس ترمب قد يغير موقفه إذا بدأت هذه العملية العسكرية بالفعل تجلب له مشكلات داخلية وخارجية، حيث تواجه إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أزمة صدقية دولية، قد لا يتمكنا من التعافي منها لفترة طويلة.
مأزق أخلاقي
ووفقاً لاستطلاع رأي حديث أجراه مركز بيو الأميركي للأبحاث، أصبحت النظرة الدولية لإسرائيل الآن سلبية بدرجة غير مسبوقة في جميع دول الغرب تقريباً، حيث أعربت غالبية من شملهم الاستطلاع في أوائل عام 2025 عن رأي سلبي تجاه إسرائيل في دول مثل هولندا (78 في المئة) واليابان (79 في المئة) وإسبانيا (75 في المئة) وأستراليا (74 في المئة) والسويد (75 في المئة) وإيطاليا (66 في المئة) وألمانيا (64 في المئة) وفرنسا (63 في المئة) وبريطانيا (61 في المئة)، وفي الولايات المتحدة (53 في المئة) وفقاً لمؤسسة غالوب. وعبر عن هذا الاستياء أيضاً بعض مناصري ترمب من مؤيدي حركة "ماغا" (اجعل أميركا عظيمة مجدداً) التي تعد القاعدة الشعبية لترمب، مثل المتخصص الاستراتيجي السياسي ستيف بانون وعضو مجلس النواب المتشددة مارجوري تايلور غرين، والتي جاهرت علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي برفضها للجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأميركية المعروفة باسم "أيباك"، والتي تعد أكبر قوة في اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة، بل إن ترمب نفسه شكك علناً في ادعاء نتنياهو بعدم وجود مجاعة في غزة.
تحول عالمي
لعل أبرز مظاهر التحول الكبير في الرأي العام العالمي كان ما أعلنته فرنسا بأنها ستعترف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) المقبل، وتعهد المملكة المتحدة وكندا اتباع النهج نفسه، حتى ألمانيا بدأت الآن إجراءات الاعتراف. كما أشار رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي إلى أن اعتراف بلاده بفلسطين "مسألة وقت فقط"، ودعت إسبانيا والسويد إلى تعليق اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، بينما وصفت هولندا إسرائيل رسمياً بأنها "تهديد أمني"، في إشارة إلى محاولات التأثير في الرأي العام الهولندي.
كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف في حق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واتهم عديد من خبراء القانون الدولي وعلماء الإبادة الجماعية ومنظمات حقوق الإنسان إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية" في غزة، وحملوا الولايات المتحدة جزئياً المسؤولية لدعمها المستمر لإسرائيل وتزويدها بالأسلحة التي تقتل الفلسطينيين في غزة والذين تجاوز عددهم 61 ألف شخصاً.
إضافة إلى ذلك ناشد مئات من مسؤولي الأمن الإسرائيليين المتقاعدين الرئيس ترمب للضغط على نتنياهو لإنهاء الحرب. ونأى شركاء إسرائيل العالميون بأنفسهم مع تصدر صور الأطفال الجائعين في غزة للأخبار في الأسابيع الأخيرة، حتى وصل عديد من أصدقاء إسرائيل في التحالف الغربي إلى حد لم يعد بإمكانهم تحمل تصرفاتها السياسية.
على سبيل المثال أعلنت ألمانيا في خطوة لم تعهدها منذ زمن بعيد، حظر توريد الأسلحة لإسرائيل، والتي يمكن أن تستخدمها في غزة. واستدعى نائب رئيس الوزراء البلجيكي، السفير الإسرائيلي في أعقاب قرار بلاده الاستيلاء على مدينة غزة، محذراً من أن استمرار استعمار الأراضي الفلسطينية غير المقبول والمخالف للقانون الدولي. كما دان رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر خطة إسرائيل في شأن غزة محذراً من أنها لن تؤدي إلا إلى مزيد من سفك الدماء، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إسرائيل إلى إعادة النظر بقرارها في شأن غزة.
نظرة قاتمة لحل الدولتين
وما يزيد المخاوف الدولية هو أن الخطوة الإسرائيلية ستعرض حل الدولتين لخطر أكبر وتعزز مواقف اليمين المتشدد الرافض لهذا الأمر، بخاصة أن غالبية الإسرائيليين لديهم نظرة قاتمة تجاه قيام دولة فلسطينية مستقبلية، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة أكاديمية أميركية أن 82 في المئة من المشاركين اليهود الإسرائيليين يؤيدون طرد الفلسطينيين من غزة. كما كشف استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" في أوائل عام 2025 عن أن 16 في المئة فقط من الإسرائيليين اليهود يعتقدون أن التعايش السلمي مع الدولة الفلسطينية ممكن، وهي أدنى نسبة منذ أن بدأ الباحثون في طرح هذا السؤال عام 2013.
يشير هذا بحسب أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة فيكتوريا أمين سيكل إلى أن "الدولة الإسرائيلية، بل وجمهورها من الناخبين أيضاً، انتقلا إلى أقصى الطيف السياسي تشدداً في ما يتعلق بالاعتراف في حق الفلسطينيين في دولة مستقلة خاصة بهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أخطار إعادة الاستيطان
على رغم أن نتنياهو حاول التخفيف من وطأة الانتقادات الدولية عبر الإعلان عن عدم رغبته في إعادة احتلال القطاع وأن الحكومة ستترك إدارته لقوات عربية بعد التخلص من "حماس"، فإن اليمين المتطرف في حكومته لم يخف أبداً رغبته في إعادة الاستيطان في غزة، وهو ما تعكسه ديناميكيات مماثلة في تاريخ بناء المستوطنات الإسرائيلية وفقاً للمحاضرة في السياسة الدولية بجامعة سانت جورج، ليوني فلايشمان، حيث شرعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في السيطرة على السكان الفلسطينيين بناءً على مبررات أمنية.
وفي أعقاب الغزو العسكري الإسرائيلي، انتقل المستوطنون لإنشاء بؤر استيطانية، تحولت تدريجاً إلى مستوطنات مع تدفق العائلات إليها، سواء بدافع الأيديولوجية الصهيونية العلمانية، أو بدافع أسعار العقارات الرخيصة، أو بدافع المعتقدات الدينية، أو بدافع أحلام تحسين نوعية الحياة، وهو ما حدث في قطاع غزة بعد حرب 1967، فبمجرد نقل الجيش الإسرائيلي قواته إلى القطاع، اتبعت الحكومة الإسرائيلية سياسة تفتيت المناطق المأهولة بالفلسطينيين من خلال إنشاء مواقع عسكرية، تحولت فيما بعد إلى مستوطنات مدنية.
في عام 1970 أنشأت حكومة حزب العمل الإسرائيلية آنذاك "مستوطنتي ناحال" وكانتا مجتمعات زراعية أنشئت بالقوة العسكرية، لكن بحلول عام 2005، بلغ عدد المستوطنات المدنية في القطاع 21 مستوطنة، يقدر عدد سكانها بنحو 8600 نسمة، يعيشون جنباً إلى جنب مع سكان فلسطينيين بلغ عددهم نحو 1.3 مليون نسمة آنذاك.
فك الارتباط عن غزة
بدأت الأمور تتغير مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، التي أدت إلى إعادة تقييم لسياسة الاستيطان، حيث استلزمت الاعتبارات الأمنية والرغبة في تقليل المواجهات بين الجيش الإسرائيلي والمدنيين الفلسطينيين، سياسة فصل جديدة. كما أرادت الحكومة الإسرائيلية الحفاظ على غالبية سكانية يهودية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، لذا لاقت فكرة فصل المناطق ذات الغالبية العربية الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، استحساناً لدى حكومة رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون.
كان شارون يعرف سابقاً بأنه رائد مشروع الاستيطان، لكنه عام 2004 أمر بإخلاء جميع المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، وهو مشروع أنجز عام 2005، ومعه انتهى التوافق السابق بين حركة الاستيطان والدولة الإسرائيلية فجأة، فبينما أيدت غالبية الإسرائيليين الخطة، عارضها اليمين المتدين بشدة، فبالنسبة إلى الصهاينة المتدينين، الذين يعتقدون في الارتباط بين التوراة والشعب والأرض، بدت جرافات الدولة الإسرائيلية وإزالتها للمستوطنات بمثابة "خيانة لاهوتية".
الدعوة إلى تجديد الاستيطان
ونتج من ذلك ظهور جناح عنصري متشدد مؤيد للاستيطان، ازداد نفوذه منذ ذلك الحين، وبعد انتخابات عام 2022، انضم اثنان من قادة هذا الجناح، وهما إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، إلى حكومة نتنياهو، حيث تمكن الاثنان من استخدام نفوذهما على رئيس الوزراء للتأثير في مسار الحرب في غزة.
ومنذ أن بدأت إسرائيل هجومها على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، دعت جماعات المستوطنين إلى إنشاء مستوطنات يهودية للسيطرة على الضفة الغربية وغزة، وبحسب صحيفة "هآرتس" تظاهر آلاف من الإسرائيليين في الـ30 من يوليو (تموز) الماضي باتجاه حدود غزة، داعين إلى استيطان مناطق شمال القطاع التي يحتلها الجيش الإسرائيلي حالياً، ووضعت خطط عملية لإنشاء مستوطنات، وتطوعت ألف عائلة لإعادة تأسيس مجتمع يهودي في غزة.
رهان على أميركا
تعتمد سيادة إسرائيل وأمنها الآن على دعم أميركا المستمر، ولولا المساعدات الأميركية، وبخاصة صادراتها من الأسلحة التي تقدر بمليارات الدولارات، لكانت إسرائيل قد عانت أجل الحفاظ على حملتها المدمرة في غزة أو احتلالها للضفة الغربية والقدس الشرقية منذ حرب عام 1967، ولهذا تتزايد الرهانات في الداخل والخارج الأميركي على إمكان اتخاذ ترمب موقف مغاير تحت ضغط دولي كبير.
وعلى رغم التزام الرئيس الأميركي العميق بإسرائيل، يشكك كثر في أوساط الناخبين الأميركيين في مدى نفوذ نتنياهو في واشنطن، فقد سمح تحت ضغط دولي، بتدفق مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، ومع ذلك تشير خطته الجديدة للسيطرة العسكرية الكاملة على غزة إلى أنه غير مستعد لتغيير مسار الحرب، طالما ظل الدعم الأميركي ثابتاً.
ولمنع حدوث ذلك، يتعين على واشنطن التحالف مع بقية المجتمع الدولي، وإلا فإن إسرائيل المنفلتة والمعزولة لن تؤدي إلا إلى تعميق الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في عالم شديد الاستقطاب.