ملخص
ذلك قول يقترب مما سبق أن قاله هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية الراحل حول "الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ"، وهو ما وافق عليه بوتين في كلمته خلال ذكرى ميلاد بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة. غير أن بوتين أكد في هذا الصدد أنه يسير على خطى بطرس الأعظم، لا من أجل الاستيلاء على أراضٍ جديدة، بل خلافاً لما يقال يستعيد ما فقدته بلاده من أراضٍ.
تواصل القوات الروسية الاستيلاء على ما بقي من أراضي المقاطعات الأربع التي أعلنت عن ضمها في سبتمبر (أيلول) 2022، تأكيداً لما طرحته ضمن أهدافها في إطار "العملية الروسية الخاصة" في أوكرانيا. بل ولم تكتف هذه القوات بذلك لتمضي إلى ما هو أبعد بالتوغل بعيداً في مقاطعات خاركيف وسومي ودنيبروبيتروفسك المجاورة لهذه المقاطعات بغية إقامة ما تصفه بالمناطق العازلة بهدف تأمينها، وربما وفقاً لما قاله الرئيس فلاديمير بوتين "حيثما تطأ قدما الجندي الروسي من أراضٍ فهي لنا"، للاستيلاء على ما بقي من أراضٍ أوكرانية.
ذلك قول يقترب مما سبق أن قاله هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية الراحل حول "الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ"، وهو ما وافق عليه بوتين في كلمته خلال ذكرى ميلاد بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة. غير أن بوتين أكد في هذا الصدد أنه يسير على خطى بطرس الأعظم، لا من أجل الاستيلاء على أراضٍ جديدة، بل خلافاً لما يقال يستعيد ما فقدته بلاده من أراضٍ.
ما وراء الغواصات؟
تبريراً لما نتابعه على أرض الواقع، وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد بما قاله الأستاذ المساعد في قسم التحليل السياسي والعمليات الاجتماعية والنفسية بجامعة "بليخانوف" الروسية للاقتصاد، وعضو مجلس متخصصي "ضباط روسيا" ألكسندر بيرينجييف، حول أن القوات المسلحة الروسية لو اكتفت بتحرير الأراضي الروسية حصراً ولم تدخل مناطق أوكرانيا "لكنا حشرنا أنفسنا في دوامة المناورة". فضلاً عما أضافه حول أن "الوحدات الروسية حالياً ليست في وضع صعب، ولديها خيار يحدده اتجاه الهجوم الأكثر ملاءمة. وفي بعض النواحي تشبه عملياتنا الهجومية، وإن على نطاق أضيق، هجوم بروسيلوف الشهير خلال الحرب العالمية الأولى. هذه التكتيكات تمنحنا فرصة للتقدم أكثر". ويأتي ذلك مواكباً لعيد البحرية الروسية وما أعلنه بوتين حول توسع روسيا في بناء الغواصات النووية ضمن استراتيجية عسكرية وسياسية شاملة تهدف إلى تعزيز القوة البحرية والحفاظ على التوازن الاستراتيجي العالمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال الرئيس فلاديمير بوتين إن هذه الغواصات تمكن روسيا من "الحفاظ على توازن القوى في العالم" في ظل المنافسة الجيوسياسية المتصاعدة، ولتعزيز الردع النووي والاستقرار الاستراتيجي بوصفها جزءاً أساساً من (الثالوث النووي) الروسي (بري، جوي، بحري)". كما أكد بوتين خلال مراسم رفع العلم على متن الغواصة النووية "الأمير بوجارسكي" أن خطط إنشاء قوات بحرية روسية حديثة ستنفذ بصورة كاملة. وأضاف "في المجمل، هناك أكثر من 70 سفينة قيد مراحل مختلفة من الإنجاز في أحواض بناء السفن الروسية هنا في ’سيفماش‘ وحدها، كما أن من المقرر بناء ست غواصات نووية جديدة بحلول عام 2030".
ويقول مراقبون إن هذه الغواصات توفر القدرة الضاربة الثانية في حال تعرضت المنشآت النووية البرية لهجوم، كذلك فإنها تعتبر، كما هي الحال بالنسبة إلى طراز "بوريي-أ" المزودة بصواريخ "بولافا" الباليستية، عنصراً حيوياً لضمان التوازن النووي مع القوى الأخرى مثل الولايات المتحدة".
ومن المعروف أن روسيا تعمل على استبدال بغواصاتها السوفياتية القديمة، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الغواصات من طراز "تايفون"، غواصات حديثة أكثر تطوراً مثل "بوريي-أ" و"ياسين-أم"، التي تتميز بقدرات هائلة على الاختفاء، إلى جانب ما تتزود به من أنظمة تسليح متطورة مثل صواريخ "تسيركون" الفرط صوتية التي يصعب اعتراضها. وفي هذا الصدد يشير المراقبون على سبيل المثال إلى الغواصة "بيلغورود" (المعروفة باسم "غواصة يوم القيامة") المزودة بطوربيدات "بوسيدون" النووية القادرة على إحداث موجات تسونامي الإشعاعية، مما يعزز الردع الروسي.
تعزيز الوجود
تركز روسيا على نشر غواصاتها النووية في المناطق الحيوية مثل المحيط الهادئ والقطب الشمالي، حيث "ساحة المنافسة" مع الولايات المتحدة وحلف "الـناتو". على سبيل المثال، تم نقل غواصة "جنراليسيموس سوفوروف" إلى قاعدة في شبه جزيرة كامتشاتكا لتعزيز الوجود الروسي في المحيط الهادئ. وتأتي هذه الخطوات رداً على التوسع العسكري الأميركي في المنطقة، الذي ينظر إليه على أنه تهديد للأمن القومي الروسي. كذلك فإنها تعتبر بمثابة الرد على ما تتعرض له روسيا من تحديات جيوسياسية وعقوبات غربية. فضلاً عن ضرورة إظهار ما تتمتع به من قدرات عسكرية وتكنولوجية عبر تحديث أسطولها البحري في ظل "الحرب" التي تتواصل في أوكرانيا. وثمة من يقول إن الغواصات النووية ومنها "بيلغورود" و"ياسين-أم" المجهزة للقيام بالأبحاث العلمية والعمليات العسكرية في هذه المنطقة النائية تستخدم كأداة ضغط سياسي لردع التدخل الغربي. فضلاً عن أن هناك من يقول إن نشر هذه الغواصات قرب حدود "الـناتو" يرسل رسائل تحذيرية كما حدث مع غواصة "بيلغورود" التي رصدت قرب القطب الشمالي. ومن المعروف أيضاً أن هذه الغواصات النووية تعد أداة حاسمة في التنافس على الموارد الطبيعية في القطب الشمالي، حيث تمتلك روسيا مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة.
في هذا السياق دعا الرئيس الروسي إلى مواصلة إنتاج غواصات "ياسين-أم" المتعددة المهام، وتسريع وتيرة بناء مزيد منها، مضيفاً أن هذا النوع من الغواصات "يعد أحد المكونات الأساسية للثالوث النووي، الذي يتيح لروسيا الحفاظ على توازن القوى في العالم".
وأشارت "صحيفة "روسيسكايا غازيتا" الصحيفة الرسمية للدولة، إلى أن الغواصات النووية المتعددة الأغراض من مشروع "ياسين-أم" هي نسخة محدثة من مشروع "885". وتمتلك البحرية الروسية حالياً غواصة واحدة من مشروع "885" وغواصتين من طراز 885M.، وهناك ست غواصات من طراز "ياسين" محدثة أخرى في مراحل مختلفة من البناء. ونقلت وكالة "نوفوستي" عن الرئيس بوتين ما قاله حول تعزيز القوات النووية البحرية الروسية خلال الأعوام المقبلة بأربع غواصات إضافية من مشروع "بوريي-أ"، اثنتان منها قيد البناء بالفعل. وستزود هذه الغواصات بصواريخ "بولافا" الباليستية العابرة للقارات.
وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة "روسيسكايا غازيتا" أن روسيا في سبيلها لإجراء التجارب الخاصة باختبار غواصة نووية جديدة من طراز "ياسين-أم" حاملة للصواريخ المجنحة. وأشارت الصحيفة إلى أنه بدأت في البحر الأبيض مرحلة التجارب البحرية على الغواصة النووية الجديدة "أرخانغلسك"، التي طُورت لمصلحة الجيش الروسي في إطار المشروع 885M.. وذكرت أن هذه الغواصة من المفترض أن تخضع لمجموعة من الاختبارات البحرية، وبعدها لمرحلة الاختبارات الحكومية قبل إدخالها الخدمة البحرية العسكرية.
وقالت المصادر العسكرية الروسية إن روسيا فرغت من بناء "سفينة جديدة لمهام الرصد والتصدي للغواصات المعادية". وأشارت أيضاً إلى قدرات الغواصات "ياسين-أم" النووية على الغطس إلى أعماق تصل حتى 600 متر تحت سطح الماء، وحمل طاقم مؤلف من 90 شخصاً، والعمل لمدة 100 يوم من دون الحاجة إلى التزود بالمؤن والوقود. كذلك فإن هذه الغواصات مزودة بمنصات لإطلاق صواريخ "أونيكس" و"كاليبر" الروسية المجنحة، ومنصات لإطلاق طوربيدات من عيار 533 ملم، وفي المستقبل من المفترض أن تكون قادرة على إطلاق صواريخ "تسيركون" الفرط صوتية.
"الأمير بوجارسكي"
أكد الرئيس الروسي أن هذا "العمل التنسيقي والممنهج سيعزز الاستقرار الاقتصادي للمؤسسات الصناعية والشركات ذات الصلة، وهو أمر بالغ الأهمية، إذ سيساعد على استقطاب الكفاءات الواعدة وتطوير الحلول التكنولوجية المتقدمة". وقال أيضاً "سننفذ الخطط الموضوعة لإنشاء أسطول بحري حديث بصورة كاملة ونهائية، وسنضمن أمن روسيا ومصالحنا الوطنية في جميع أنحاء العالم. هذا أمر لا مراء فيه". وفي مقاطعة أرخانغيلسك شمال غربي روسيا عقد الرئيس بوتين اجتماعاً مع القيادات البحرية جرت خلاله مناقشة المسائل المتعلقة باستراتيجية تطوير قوات الغواصات التابعة للبحرية الروسية.
ويذكر مراقبون بدء تشغيل الغواصة النووية "الأمير بوجارسكي" في سيفيرودفينسك عام 2024، وهي الغواصة النووية الرابعة من سلسلة مشروع "بوري-أ"، وتنتمي إلى الجيل الرابع من الغواصات النووية. أما عن هذه الغواصة فهي "مزودة بأنظمة أسلحة صاروخية تصل حتى 16 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات RSM-56 (ICBMs)، يمكن لكل منها توصيل ما يصل حتى 10 رؤوس حربية نووية إلى أهداف فردية بمساعدة عديد من الرؤوس الحربية المستقلة. فضلاً عن أنظمة طوربيدية حديثة، وأنظمة ملاحية، وأنظمة راديوية تقنية، وأنظمة صوتية مائية". ومثل غيرها من سفن الجيل الرابع، ستشكل الغواصة النووية "الأمير بوجارسكي" أساس القوات النووية الاستراتيجية البحرية الروسية للعقود المقبلة.
في هذا الصدد أعربت مجلة National Interest الأميركية عن اعتقادها أن تصريح الرئيس بوتين حول غواصات "ياسين-أم"، كانت بمثابة نذير شؤم مرعب بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وأشارت هذه المجلة إلى أن "الأمر الأكثر خطورة بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو أن البحرية الروسية قد تشتري مزيداً من هذه الغواصات العالية الأداء والفعالية في العام المقبل". وكان بوتين خلال زيارته لقاعدة "سيفيرودفينسك" البحرية الروسية دعا إلى مواصلة بناء الغواصات من طراز "ياسين-أم" النووية.
ومن المنتظر أن تقوم الغواصة الروسية "الأمير بوجارسكي" بدوريات في مياه القطب الشمالي والمحيط الأطلسي. وبحسب ما نشرته الطبعة الأميركية من مجلة "ميليتري ووتش"، فإنه "نظراً إلى كونها كبرى الغواصات العاملة في العالم، فإن هذه السفن الضخمة هي الخامسة من التعديل (بوري-أ)، والثامنة في العائلة التي تحمل الاسم نفسه، وتتميز بتحسين الاختفاء وزيادة القدرة على البقاء على قيد الحياة". ويذكر التقرير أنه "في حفل رفع العلم على الغواصة الجديدة، أكد الرئيس بوتين أن هذه السفن تشكل أساس القوات النووية الاستراتيجية البحرية، ومع الأخذ في الاعتبار مورد التحديث، ستضمن أمن دولتنا في العقود المقبلة".
وتؤكد المطبوعة الأميركية أن الأسطول الروسي يواصل سلسلة من مشتريات الغواصات النووية، وفي السنوات المقبلة من المتوقع أن يزيد عددها إلى 14 وحدة. ووفقاً لما جرى نشره، فإن جميع الغواصات من نوع "Borey-A" موجودة في الأسطول الشمالي والمحيط الهادئ، وتم تصميم "الأمير بوجارسكي" للقيام بدوريات في القطب الشمالي والمحيط الأطلسي. وقد رصدت مجلة "ميليتري ووتش" الأميركية تقدماً تكنولوجياً كبيراً مقارنة بنظرائها السوفيات يتلخص في أن هذه الغواصات الجديدة تتميز، ليس فقط بزيادة ترسانتها الصاروخية، ولكن أيضاً بأحدث أنظمة الكشف والتحكم والحماية.
وكان فلاديمير بوتين أكد في كلمته التي ألقاها بهذا الصدد، أنه بحلول عام 2030 سيحصل الأسطول الروسي على ست غواصات نووية أخرى متعددة الأغراض، وسفينتين إضافيتين من طراز "بوري-أ". وإضافة إلى ذلك من المتوقع تشغيل الناقلات المسيرة تحت الماء "بوسيدون"، القادرة على حمل الذخيرة النووية البعيدة المدى. وتؤكد السلطات الروسية الأهمية الاستراتيجية للاستثمارات في تطوير القوات النووية البحرية باعتبارها أحد العناصر الرئيسة للأمن القومي.