Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مقاربة نسوية لمسرحية تشيخوف "النورس" في باريس

إلسا غرانا خرجت عن النص الأصلي وجعلت المرأة أساس العرض

من مسرحية "نورس" في صيغتها  الفرنسية (خدمة الفرقة)

ملخص

تعرض على مسرح الكوميديا الفرنسية (La comédie française) مسرحية "النورس" للروسي أنطون تشيخوف (1860-1904) بعد ما يناهز 130 عاماً على كتابتها. وتعد هذه المسرحية تاريخياً من أكثر مسرحيات تشيخوف عرضاً على خشبات العالم. والعرض الفرنسي الجديد من إخراج إلسا غرانا، ومدته ساعتان ونيف.

تعود مسرحية "النورس" لتعرض مرة أخرى في صيغة فرنسية جديدة على خشبة مسرح باريسي عريق، هي التي ليست غريبة عن الخشبات الباريسية، بعدما عرضت مراراً على الخشبات الفرنسية في صيغ مختلفة، رؤية وإخراجاً.

تجسد مسرحية "النورس" بتركيبتها وحبكتها وفصولها وشخصياتها إبداع تشيخوف ورؤيته العميقة والعارفة بأوجاع النفس البشرية وصراعاتها وتخبطاتها مع الوجود والمجتمع والآخر والإبداع والحب وعبثية العيش. واختارت المخرجة إلسا غرانا أن تسمي المسرحية في عرضها "نورس" وليس "النورس" (Une mouette). وأشارت في مقابلة أجريت معها أنها اختارت هذا الاسم بلا "أل" التعريف لأنها تريد أن تضع المرأة في محور عملها وعرضها، جاعلة منها الأساس على عكس نص تشيخوف. وتختار غرانا أن توسع النص الأول مركزة على شخصية إيرينا الأم والممثلة، معتبرة إياها الشخصية الوحيدة التي استطاعت أن تثبت نفسها وتنجو من لعنة الفنانين.

جمهور على الخشبة

تحول هذه المسرحية التي تقوم على أربعة فصول، الجمهور إلى بطل من أبطالها. فالممثلون الذين يعملون معاً لتحضير العرض المسرحي الذي سيقدمه قسطنطين ابن الممثلة المشهورة إيرينا وبطل النص، يتحولون إلى حلفاء للمتلقي في لعبة ذكية. ويتحول الجمهور منذ بداية المسرحية إلى كومبارس يساعد في تركيب الديكور وتحضير الممثلين مساعداً البطل اليافع قسطنطين لينجح في عرضه الأول ويبهر والدته الممثلة الفاتنة المشهورة التي عاش طوال حياته في ظلها. كتابة بطريقة mise en abyme متماسكة تكسر الجليد وتطلق العرض وتجعل الجمهور حليف قسطنطين الذي يحضر لعرض داخل العرض. وتأتي الجملة الافتتاحية التي تتلفظ بها ماشا صديقة قسطنطين "قريباً يبدأ العرض" لتسلط الضوء على هذه التقنية ولتطلق عجلة المأساة والتراجيديا.

وكلمات النص متقنة من ناحية مكانها والإنذارات الكثيرة التي تعطيها منذ بداية النص، فهي تحضر الجمهور للتراجيديا المقبلة من خلال العبارات والتصرفات وحتى الألوان، كما عندما سأل أستاذ المدرسة ماشا عن سبب ارتدائها الأسود دائماً، فأجابته "حداداً على حياتي. أنا تعيسة". كل شيء في النص يحضر الجمهور ويجبره على دخول لعبة المسرحية والتعاطف مع أبطالها وإدراك عمق مأساتهم التالية التي لا مفر منها.

تراجيديا الإبداع

تقدم مسرحية "نورس" نماذج مختلفة عن الإبداع والفنانين، فيظهر أولاً الشاب قسطنطين. فنان مبدع انعزالي يعيش في عوالمه الخاصة ويسكنه قلق وجودي وصراع مع نفسه وتساؤل كبير حول حقيقة الإبداع والموهبة والأدب، هو الذي يعبر من خلال المسرحية عن رغبته الدائمة "في خلق أشكال تعبيرية فنية أدبية جديدة". فيجسد قسطنطين بضياعه ووهنه وانهزامه نفس المبدع القلقة التائهة التي تتخبط من أجل الإبداع والخلق والتي تجد نفسها مظلومة على أيدي الفنانين الآخرين والجمهور.

ويعيش قسطنطين الكاتب المرهف المعذب في ظل هامة إيرينا والدته "محبوبة الجماهير". ويحاول دوماً إيجاد هويته وكيانه عبر إرضائها ونيل انتباهها، مما يفسر توتره الشديد قبل تقديمه عرضه أمامها، وكأنها هي الجمهور الوحيد الذي يهمه، الناقد الوحيد الذي يريد إثارة إعجابه. لكن العرض الذي يقدمه لا ينال إعجاب أحد، بل أسوأ، يستجلب سخرية والدته وانتقاداتها، مما يدفعه إلى إيقاف المسرحية التي يقدمها والهرب من جمهوره وأصدقائه، بل مناشدة الموت.

وتجسد إيرينا الفنانة المتصابية صراع الأجيال وغيرتها من نينا بطلة قسطنطين في مسرحيته التي يقدمها. وتجسد إيرينا المرأة الجميلة التي ترفض التقدم في العمر وترفض ترك مكانها لأخرى وترفض ألا تكون هي دوماً محط الإعجاب. وما يزيد الطين بلة علاقة إيرينا، والدة قسطنطين، بالكاتب المشهور تريغورين الذي يوظف الرواية والكتابة ليجتذب الفتيات والمعجبات وليكون محط تقدير. ويجسد تريغورين نوعاً ثالثاً من المبدعين وهو الكاتب الانتهازي الذي نال الشهرة والنجاح بأدبه الشائع. لكن تريغورين على خلاف قسطنطين لا يعيش معاناة الروح البشرية، بل هو لا يعيش أي نوع من تخبط داخلي وجودي. يراه الجمهور لائقاً لبقاً منهمكاً بحب إيرينا وحب نينا والتنقل بينهما، لتقوم المسرحية بأكملها على تصارع الأطباع الثلاثة ونماذج الإبداع الثلاثة التي يقدم كل منها رؤية مختلفة للفن والإبداع والنجاح والحب.

تراجيديا الحب

يخلط القدر الأوراق ليقع مشاهد مسرحية "نورس" على مثلثات حب تنتهي كلها نهايات مفجعة. فيبدو الحب مرادفاً للتراجيديا في هذه المسرحية وأول أسباب تعاسة الأبطال وفنائهم. فإيرينا والدة قسطنطين مغرمة بالروائي تريغورين، بينما هذا الأخير واقع في غرام نينا بطلة مسرحية قسطنطين. من ناحية أخرى قسطنطين مغرم ببطلته نينا المغرمة بالروائي تريغورين الذي يوهمها بحبه لها، ثم يدمرها بعودته لإيرينا التي تتمكن دوماً من نيل ما تريده. مثلث آخر هو مثلث حب ماشا صديقة قسطنطين له حباً بلا أمل، وحب معلم المدرسة لها حباً بلا أمل أيضاً، ثم زواج ماشا بالأستاذ وفشل هذا الزواج في نهاية المطاف فشلاً متوقعاً.

مثلثات أخرى كثيرة تخلق دوامات حب عقيم فاشل قاتل، فنينا تخسر مستقبلها وكذلك قسطنطين وماشا ومعلم المدرسة. ويخسرون جميعهم أنفسهم وسعادتهم وحياتهم، ليكونوا مثل طائر النورس الذي قتله قسطنطين في بداية المسرحية. ويتحول الأبطال جميعهم في هذا العمل إلى طير النورس. وكأن قتل الطائر في بداية النص نوع من لعنة وتحضير لنزول حتمية الوحدة والبؤس والموت على الجميع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقدم الكاتبة والمخرجة والممثلة إلسا غرانا قراءتها لمسرحية "نورس" بفصولها الأربعة في ساعتين و20 دقيقة، مضيفة إلى نص تشيخوف الأصلي حوارات ومشاهد في بدايته وفي نهايته ليست موجودة ضمن النص الأصلي. ففي بداية العمل تضيف المخرجة عودة لطفولة قسطنطين، مركزة على علاقته بوالدته ونرجسية هذه الأخيرة وتأرجحها الهزيل بين مهنة التمثيل والأمومة، وتفضيلها الواضح لمهنتها على ابنها. كذلك تضيف المخرجة في بداية العرض مقاطع من تاريخ الممثلة الفني أدتها إيرينا خلال مهنتها، محضرة الجمهور لطبيعة المرأة ولعلاقتها بابنها قسطنطين التي ستشكل أحد محاور المسرحية.

أما الإضافة في نهاية العرض، فيمكن اعتبارها إضافة جميلة على رغم ما في نهاية النص الأصلي من قوة وعنف. فبينما ينتهي نص تشيخوف بانتحار قسطنطين، تقرر غرانا أن تكمل العرض بتلقي الأم خبر موت ابنها وانهيارها على المسرح. تنهار إيرينا الممثلة الجميلة وتخلع عن نفسها شعرها المستعار وزينتها ومعطفها الفرو وكأنها بذلك تخلع عن نفسها دورها كممثلة وتعود لأمومتها، بعيداً من المظاهر والأقنعة. ويبرز هنا أداء الممثلة الرائع الذي تمكن من تحويل الإضافة إلى لمسة "إستيطيقية" جميلة. ويُذكر أن أداء الممثلين، بخاصة الممثلات منهم، كان ممتازاً فيه كثير من الغضب والقوة والوهج. وهذا الأداء القوي الحضور للممثلات و"مونولوغاتهن" إنما تفسره رغبة المخرجة في جعل المرأة محور النص وليس قسطنطين كما أراد تشيخوف في نصه الأول.

وتضيف إلسا غرانا مشاهد إلى نص تشيخوف الأصلي، وفق رؤية "دراماتورجية" خاصة، لكن اللافت أكثر هو قلة الديكور وفقره مع أن الأحداث تدور بين أفراد من الطبقة البرجوازية الروسية. كذلك كانت الإضاءة قليلة ومعتمة وغير كافية على رغم أن أحداث النص تدور خلال النهار في ريف روسي أثناء الصيف في معظم الفصول.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة