Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ياسمينا رضا ساهمت في تجديد مفهوم التراجيديا في المسرح الفرنسي الراهن

كاتبة من اصول روسية ايرانية هنغارية... واعمالها في ترجمة عربية

الكاتبة الفرنسية ياسمينا رضا (يوتيوب)

أصدرت سلسلة "من المسرح العالمي"حديثاً الجزء الأول من "الأعمال الكاملة للكاتبة الفرنسية ياسمين رضا"، بترجمة فاطمة علي نعام ومراجعة أحمد الويزي. وهذه السلسة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. وإلى المراجعة قدم الويزي دراستين حول نصين مسرحيين تضمنهما الجزء الأول، كما قدم للكتاب الذي يتألف من 261 صفحة بمقولة الناقدة آن أوبيرسفيلد: "إن ألمع تصوير للعالم، إذا لم تعضده قوة النص، فلن يكون سوى كتاب من الصور، سطحي نسبيا".

إسمها ايفيلين أنييس ياسمينا رضا، كاتبة مسرحية وروائية وممثلة وسيناريست ومخرجة سينمائية ، بزغ نجمها مع كوكبة من كتاب الدراما الجدد في فرنسا في العقد التاسع من القرن العشرين ثم تمكنوا من احتلال صدارة المشهد الثقافي والإعلامي في أوروبا والقفز إلى آفاق عالمية. ولدت في 1959 في باريس لأب روسي من أصول إيرانية، وأم هنغارية يهودية. "أحاديث مراسم ما بعد الدفن"، عملها المسرحي الأول عُرض في 1987 وحصلت عنه على جائزة موليير للتأليف المسرحي، ثم جائزة "ساكد" المخصصة للمواهب الجديدة، وجائزة "جونسونز فونديشن" البريطانية. قدمت "عبور الشتاء" 1989/ "فن" 1994، "رجل الصدفة" 1995، "حياة في ثلاث صيغ" 2004، "المجزرة" 2007، "كيف أحكي لكم عن اللعبة؟" 2014. ويلاحظ العديد من النقاد والمتتبعين لمسار ياسمينا رضا ان هناك العديد من مؤلفاتها التي تأثرت فيها بالكاتب الروسي أنطوان تشيكوف، ولا تنفي هي هذا الأمر، وإنما تعززه من خلال ما تكنه من تقدير كبير لهذا المؤلف الذي تعتبره قامة أدبية استثنائية.

تتوَّج مسار ياسمينا رضا في التأليف المسرحي إلى حد الآن. تقول ياسمينا: "أفترض أن هناك توجهين في الكتابة، ثمة من يحكي قصصا وحكايات، وثمة من ينتقد الوجود. أنا أضع نفسي ضمن الخانة الثانية. أنا لا أحكي قصصاً ولست أعرف بالأحرى أن أفعل ذلك، لكنني أستطيع في المقابل إذا اقتضى الأمر مني أن أهوي على كتلة الوجود بالمطرقة وأن أغرس في جسدها المسامير. أستطيع أن أفعل ذلك. وبالجملة فإن نصوص ياسمينا رضا حققت إضافة نوعية في التجربة المسرحية الفرنسية والعالمية، وهي بذلك – يقول أحمد الويزي- إضافة نتمنى أن تمتد جذوتها إلى مسرحنا العربي، من خلال هذه الخطوة التي أقدمت عليها هيئة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مشكورة.

مسرحية أولى

في الجزء الأول مسرحيتان الأولى هي "أحاديث ما بعد مراسم دفن". جاءت إليزا (35 سنة) لحضور مراسم دفن سيمون وينبيرغ، من دون أن تدعى إلى ذلك من جانب أي من أبناء الراحل الثلاثة. أصغر هؤلاء الأبناء ويدعى أليكس (43 سنة) ربطته علاقة عاطفية بإليزا لكنها انتهت بأن هجرته قبل نحو ثلاث سنوات من موت أبيه. ويبدو من سياق الأحاديث أن ذلك الفراق وقع بعد أن انجذبت إليزا إلى الأخ الأكبر ناثان (48 سنة) وتعلق هو أيضا بها. ويبدو أن شقيقتهما إديث (45 سنة) كانت على علم بهذه الحقيقة. الأحاديث هنا باتت تسير في اتجاه مدى امكانية القبول بعودة إليزا إلى نطاق تلك الأسرة، ولكن عبر الارتباط بناثان وليس أليكس.

مراسم الدفن اقتصرت على الإخوة الثلاثة وإليزا، وخال الأولاد بيير (65 سنة) وزوجته جوليين (54 سنة). والأحاديث دارت بينهم بعد دفن الأب في حديقة منزله الكائن في منطقة ريفية بناء على وصيته. وبحسب وصف ياسمينا رضا للمكان فإنه "ضيعة عائلية بناحية لواري. لا مؤثثات ولا مشيرات من الواقع. يقع التركيز على فضاء مفتوح واحد. مثلما تتم الإشارة بالاعتماد فقط على عناصر الإيحاء، التي تشير إلى حرج غابوي مع حديقة ومسكن؛ كما تنحو لحظات (الإظلام) سواء من خلال التدرج أو غيره، إلى أن تكون قصيرة ما أمكن".

وبحسب أحمد الويزي، استطاعت ياسمينا رضا في "أحاديث ما بعد مراسم دفن"، أن تطرح مشكل الموت في أسرة، يعاني جميع أفرادها من وطأة الوحدة والعزلة والضياع، لكنها تجنبت تقديم الموضوع من منظور تراجيدي ثقيل، بالاحتيال عليه وتقديمه من خلال سلسلة من اللحظات المتواترة، التي يسودها الاحتداد، المشاكسة، وعادة ما تنتهي بتبديد حدة التوتر، والتخفيف من لهجة التصعيد، وبهذا الإجراء، ترفض ياسمينا رضا السقوط في التراجيدي "الرصين" لموضوع الموت الذي كان من شأنه أن يقربها من التناول الدرامي المتعارف عليه. وبهذا تكون الكاتبة قد استطاعت أن تنجو من ثقل المسرح المأسوي، لتتناول ذلك الموضوع بخفة وأناقة وحتى بشكل أقرب إلى "الابتذال" جاعلة من الموت لحظة حياة مفعمة بالتناقضات والتوافقات، الخصومة والمصالحة، البكاء والضحك، الألم والمتعة.

"رجل الصدفة"

المسرحية الثانية عنوانها "رجل الصدفة"، ولا تتضمن سوى مشهد واحد، يجمع رجلاً وامرأة في قطار متجه من باريس إلى فرانكفورت، ويغلب عليها المونولوغ، إذ يتحدث كل منهما إلى نفسه، قبل أن يتبادلا حديثاً مقتضباً في ختام النص. الرجل كاتب معروف يدعى بول بارسكي، والمرأة تدعى مارثا ويتضح أنها عرفته منذ الوهلة الأولى بما أنه كاتبها المفضل على مدى عقود عدة. وهي لم تجد وسيلة للفت انتباهه وهو جالس قبالتها في القطار أفضل من أن تخرج من حقيبة يدها أحدث أعماله الأدبية والذي يحمل عنوان "رجل الصدفة"، لتقرأ فيه. وبالفعل، ينتبه بارسكي ويفتح مع مارثا حديثا عن ذلك العمل وأعماله الأخرى، لكنها لا تخبره بأنها تعرفه، وهو لا يخبرها بأنه المؤلف الذي لطالما أحبته عبر كتاباته ولم يقدر لها أن تقابله وجها لوجه من قبل. المونولوغ غالب على معظم النص، فالشخصيتان لا تتبادلان الكلام إلا قرب النهاية التي لا بد أن القارئ سيلاحظ أنه أتت فجأة، أو على نحو يترك للمتلقي مساحة لتخيل ما يمكن أن ينتهي عليه لقاء الصدفة ذاك.

وبحسب أحمد الويزي، فإنه إذا كانت حكاية الصدفة التي تحققت بين هذا الكاتب وقارئته هي الحكاية الأساس في هذه المسرحية، فإن النص سرعان ما يعرج على مسالك ومسارات جانبية، يتم فيها تقديم مجموعة أخرى من الحكايات التي تتصل بحياة كل شخصية على حدة، أو تحيل على الأقل إلى ما تفكر فيه، أو تتذكره أثناء ذلك السفر، ما دام أن بناء هذا النص لا يعتمد في أساسه على الحوار الخارجي المباشر، وإنما على مجرد المونولوغ. ويرى الويزي أن استعمال ياسمينا رضا للمونولوغ بشكل قوي في هذا النص، يطرح عدة أسئلة حول بنائه من جهة وقابليته للتمسرح والتشخيص الفعلي من جهة أخرى. وهكذا تغدو حكاية السفر مجرد تكئة، أو تقوم بالأحرى مقام الحكاية الرئيسية المؤطرة لغيرها. وهنا يلاحظ الويزي أن من بين أهم التقنيات التي تميز مسرح ياسمينا رضا، اعتماد الكاتبة على تقنية التضمين الانعكاسي، وتمنح هذه التقنية الكاتبة حرية خلق حكايات أخرى هامشية تتناسل من وسط الحكاية الرئيسية المؤطرة للنص من خلال فتح سجل الذاكرة. ولا بد - يقول الويزي- من الإشارة في هذا المقام إلى التشابه الكبير بين مسرحية "رجل الصدفة" وبعض النصوص الأدبية السابقة عليها، سواء من حيث الطبيعة الدرامية، أو اختيار الحكاية، أو الشخصيات، أو حتى اجتباء الإطار العام الذي يحتوي كل ذلك. فنص رضا يتقاطع كثيراً مع مسرحية "آه الأيام الجميلة" لصمويل بيكت، ومع رواية "التعديل" للفرنسي ميشيل بيتور.

وزيادة في انكفاء شخصيتي مسرحية "رجل الصدفة" على نفسيهما، اختارت ياسمينا رضا لهذا النص فضاء يتميز بخصوصية الانغلاق: عربة قطار. وقد أسهم ذلك في تجنيب الشخصيتين الاندماج والتفاعل، اللذين يقتضيان إشراك الآخر في ما هو حميمي، أو الاهتمام بالأحرى بمجموعة من الوقائع والأحداث التي تقع في المحيط، لأن القطار وهو يتحرك بسرعة فائقة، لا يسمح سوى برؤية مناظر شبه هلامية، يتناثؤ مرآها من خلال النافذة. لذلك، فُرض على كل واحدة من الشخصيتين الانفراد بذاتها، والخضوع للعزلة في انقياد تام لضابط التقوقع على النفس، إما بغية التأمل في الماضي، أو التفكير في الحاضر، أو استباق لحظة الوصول للتخطيط لأمر ما، وإما على الأقل للتساؤل حول بعض الأمور الخاصة، أو شغل البال فقط بذلك الآخر الذي يقتسم مع الذات عربة القطار، والتحاور معه خياليا، أو رسم خطة لاقتحام حصونه؛ ما دام فضاء العربة المغلق لا يحيل إلى شيء مهم في ذاته، مثلما لا يهدد كذلك بخلخلة هدوء النفس، أو زحزحة الخطط التي يمكن أن ترسمها أية شخصية، لاستدراج غيرها في الحديث. لكن – يقول الويزي- لا بد من الإشارة إلى أن رحلة القطار ما هي إلا نوع من المجاز الذي يجعل الشخصيتين تحولان مسار الرحلة، بفعل عزلة كل منهما وانكفائه على ذاته، من رحلة في المكان، إلى رحلة في الزمن الفيزيائي والنفسي الخاص بكل منهما، بفعل عمليات التذكر والتأمل والتفكير في المصير الفردي للذات والغير، التي قامت بها مارثا وبول بارسكي.

ويضيف الويزي: ليس صدفة أن تتقاطع مارثا مع بول بارسكي في عشق الأدب والموسيقى، حتى وإن حاولت المسرحية أن توهمنا بأن هذا التقاطع الحاصل بين الكاتب وقارئته، لم ينشأ إلا على خلفية الصدفة وحسب. إن هذا اللقاء/ السفر هو في العمق محاولة من الكاتبة ياسمينا رضا للترافع فنيا لفائدة الأدب والموسيقى، والانتصار لهذين الفنين الجميلين اللذين يلهمان البشرية، ويوحيان لها باتباع النهج القويم في الدفاع عن الحق في الوجود، بسمو روحي نحو الذرى. فالأدب كما الموسيقى، فاعلية روحية قادرة على الجمع بيننا نحن البشر.

                       

المزيد من ثقافة