Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ينبوع الأنهر الأربعة": منحوتة المنحوتات كما صممها برنيني

نحات روما ومعماريها الكبير يوحد مصادر متنوعة للمياه المتدفقة في منطلق واحد

"ينبوع الأنهر الأربعة" لبرنيني في قلب روما (موقع روما السياحي)

ملخص

الطريف أن برنيني حقق هذا الأثر الجميل، في فترة انحطاط خلال مساره المهني وتحديداً في زمن وصل فيه إلى البابوية، ذات السلطة المطلقة آنذاك في إيطاليا، داخل الفاتيكان وخارجه، بابا لم يكن من محبي برنيني أو من مستسيغي عمله، هو إينوتشنتي العاشر.

في الماضي، زمن بناء الكاتدرائيات الكبرى، حين كان الملوك ملوكاً، والفن فناً، كان المبدع يقوم بعمله من دون أن يطمع حتى في أن يعرف الخلق اسمه. كان همه أن يقوم العمل الفني، مثلما كان هم المواطن الإغريقي أن تبنى المدينة، لأن في ذلك وحده، خلوده وبقاءه على مر الزمن"، هذا الكلام الذي قاله المخرج الفرنسي الكبير جان رينوار، لمناسبة حديثه عن سمة من سمات سينما زميله السويدي انغمار برغمان، يكاد ينطبق تماماً على جيان - لورانزو برنيني، فنان إيطاليا الكبير، الذي شغل مساحة واسعة من الاهتمام، خلال المرحلة الأخيرة من عصر النهضة، لكنه هو نفسه توقع أن ينطفئ ذكره تماماً بعد موته.

وهذا ما كان بالفعل، حتى أتت الأزمان الحديثة لتوقظ ذكراه، تحديداً لتقول لزائري روما وكاتدرائيات المدينة، من الذين يذهلون أمام التماثيل والنصب وهندسة الأبنيـة العظيمة، إن برنيني كان واحداً من الفنانين الأساسيين الذين اشتغلوا على ذلك كله. والحال أن أجيال المعجبين المتتاليين، خلال القرن ونصف القرن الأخيرين، ببرنيني وأعماله، قلما تهتم بما كتبه الشاعر والناقد الإنجليزي جون راسكين يوماً من أن التاريخ "لن يعرف ما هو أحط ذوقاً وأقل قيمة جمالية من إنجازات برنيني"، ذلك أن أعمال هذا الأخير موجودة في روما وغيرها الآن تشهد على عبقرية نادرة. وحسبنا من بين أعمال برنيني جميعاً، أن نتأمل في "ينبوع الأنهر الأربعة" القائم وسط "بياتزا نافونا" في روما، لندرك كم أن هذا الفنان كان استثنائياً في تاريخ الفن.

ختام إنجليزي لنهضة إيطالية

ولكن على رغم الإجحاف في حق برنيني، لم يخلُ الأمر، حتى خلال مرحلة الجحود، من كتاب منصفين عرفوا باكراً كيف يضعون برنيني وأعماله، في مكان صحيح، ومن هؤلاء الصحافي والرحالة الإنجليزي جون إيفلين، الذي إذ جال في إيطاليا طوال فترة من الزمن ابتداء من عام 1644، لاحظ كيف أن برنيني قدم لوطنه "عملاً شعبياً كبيراً، حين صور المشاهد ونحت التماثيل، واخترع الآلات، ولحن الأناشيد، وكتب المسرحيات الكوميدية وبنى المسارح والقاعات". ولكن، في عودة منا إلى برنيني نفسه، نتساءل لماذا كان توقع أن ينطفئ ذكره بعد موته؟ ببساطة لأن برنيني، على رغم اشتغاله على المادة الملموسة، كان يرى أن العصور المقبلة من بعده ستكون عصوراً عقلانية ينهض فيها إنسان المنطق، أما هو فكان إنسان الروح والإيمان.

والحال أن برنيني كان مصيباً في هذا التحليل إلى حد ما. ومع هذا سيسقط التحليل لاحقاً ويعود برنيني إلى الأضواء وروما شاهدة على ذلك. ومن المؤكد أن "ينبوع الأنهر الأربعة" لا يمكن اعتباره أهم وأفضل أعماله، فهناك الكاتدرائيات العظيمة، وهناك التماثيل التي حققها للفاتيكان، ولكاتدرائية القديس بطرس خاصة. ولكن "الينبوع..." هو الأشهر لأن الملايين يشاهدونه كل شهر وسط روما، ولأنه الأكثر عالمية وكونيه من بين أعمال هذا الفنان كلها.

 

والطريف في الأمر أن برنيني حقق هذا الأثر الجميل، في فترة انحطاط خلال مساره المهني وتحديداً في زمن وصل فيه إلى البابوية، ذات السلطة المطلقة آنذاك في إيطاليا، داخل الفاتيكان وخارجه، بابا لم يكن من محبي برنيني أو من مستسيغي عمله، هو إينوتشنتي العاشر، الذي تلى في ذلك المنصب أوربانو الثامن، راعي برنيني والمعجب بعمله.

أنهار العالم القديم

إينوتشنتي كان يفضل المهندس الغاردي، منافس برنيني وخصمه الأول، لذلك عهد إليه بالأشغال الكبرى، ومنها أعمال كان من المفترض أن يحققها برنيني. ثم فجأة، وفي فترة كان برنيني يشعر فيها بالاضطهاد، استدعاه البابا الجديد، وطلب إليه من دون مقدمات أن يصمم وينفذ ينبوعاً وسط ساحة نافونا، يرمز إلى قارات العالم الأربع، ولم تكن معتبرة خمساً حتى ذلك الحين، وأعطاه فكرة تقول بالترميز للقارات عبر أربعة أنهر هي الأكبر والأكثر شهرة في كل قارة: الدانوب في أوروبا، الغانج في آسيا، النيل في أفريقيا، وريو دي لابلاتا في أميركا الجنوبية. ولم يتردد برنيني طويلاً، فهو، ذو الروح المليئة بالإيمان وذو النزعة الكوزموبوليتية الكونية، وجد في المشروع ما يروقه، ويمكنه من تحقيق بعض أمانيه الروحية، إضافة إلى كون المشروع إذا أنجز في شكل لائق، سيكون من شأنه أن يجدد حظوته لدى الكرسي الرسولي.

وهكذا انهمك برنيني طوال أربعة أعوام (1648- 1651) في إنجاز ذلك العمل الذي لم يؤثر أي عمل فني آخر على صورة روما بقدر ما أثر. ويقوم اليوم وسط ساحتها الشهيرة في بعده الكوني وتضاريسه القوية. ولسنا في حاجة إلى الإشارة كم أن العمل أثر في فنانين كثيرين في طول أوروبا وعرضها بحيث إنه حوكي كثيراً، وباتت له شهـرة عامة وتشعبات، حتى بعدما نسي كثر اسم بانيه.

غموض نهر النيل

إذاً، بنى جيان لورنزو برنيني، "الأنهر الأربعة" من أجل البابا إينوتشنتي العاشر، وهو ما سجله محفوراً على إحدى حجارة الينبوع بالفعل. وهو اعترف طويلاً بأن الفكرة، أساساً، هي من بنات أفكار البابا نفسه، بل لم ينكر أن مهندساً منافساً له، كان بدوره مقرباً من البابا، كان هو صاحب الصياغة الأولى للمشروع وهو المهندس فرانشيسكو بوروميني. غير أن برنيني كان هو صاحب الصياغة النهائية. وهو اختار، رمزاً للأنهار، أربعة تماثيل لرجال أقوياء البنية، جالسين فوق صخور زوايا الينبوع الأربع، بثقة وانطلاق، وقد شخص كل منهم إلى الأعلى، نحو السماء بالنسبة إلى معظمهم مستمدين منها الماء والخير، فيما راح الماء يجري من تحتهم دفاقاً.

ولئن كان برنيني قد جعل "نهري" آسيا وأوروبا، الغانج والدانوب، واضحين قويين في جلستيهما، مع حرصه على أن تنطبع نظراتهما بحكمة عميقة وتأملية، جعل من التمثال الذي يرمز إلى نهر النيل، شخصاً غامضاً، وقد غطى رأسه بقطعة قماش. ومن الواضح أن برنيني إنما أراد أن يعبر بذلك عن غموض القارة الأفريقية نفسها. أما تصميمه لنهر أميركا اللاتينية، فقد جعله على شكل إنساني بدائي له سمات وحشية، وقد أحاط قدمه بجواهر ثمينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة أن وضعية التماثيل في ارتباطها مع رمزيتها، أثارت مخيلات الكتاب والمشاهدين مشكلة لغزاً لا يزال في حاجة إلى حل متكامل حتى يومنا هذا. وبقي أن نذكر هنا أن الينبوع إذ يتوسط ساحة نافونا يحف به في طرفي الساحة ينبوعان آخران بناهما المهندس جاكومو ديلا بورتو. وفي واحد من هذين الينبوعين، أقام برنيني صرحاً ضخماً لإله البحر الروماني نبتون، غير أن ملامح نبتون جاءت شرقية أفريقية بحيث إن الناس يطلقون عليه اسماً لا يزال يرافقه وهو "الأفريقي".

الفنان يستعيد مكانته

بعد ثلاثة أعوام من إنجاز برنيني لذلك الينبوع الذي صالحه، كما يبدو، مع البابا إينوتشنتي العاشر، توفي هذا الأخير وخلفه البابا السندرو السابع، الذي عاد إلى حضانة الفنان، ما مكن هذا الأخير من متابعة مسيرته الخلاقة. وتحت حكم هذا الأخير حقق برنيني كثيراً من أعماله الرائعة. غير أنه إذ قصد فرنسا حيث استدعاه ملكها لويس الـ14 لم يوفق في رحلته، وعاد إلى بلده ليتابع عمله حتى سن متقدمة، مسهماً في توطيد الأسلوب الباروكي الذي طبع عمله كله، معلناً نهاية عصر النهضة الأول الذي كان ارتكز إلى العقل أساساً، في إفساح المجال أمام الروح وتقلباتها معبراً عنها فنياً.

وقد ولد جيان لورنزو برنيني عام 1598 في نابولي، غير أنه انتقل باكراً إلى روما حيث سرعان ما راح يعمل في النحت والهندسة، قبل أن يطاول أنواعاً فنية أخرى. وبرنيني عمد باختياره منذ بدايته إلى وضع نفسه وفنه في خدمة الكنيسة الرومانية، بحيث يمكن أن يقال اليوم إنه، في ذلك، كان أحد المساهمين الفنيين الرئيسين في التيار المضاد للإصلاح الكنسي، والذي كان رد فعل على ازدهار الفنون البروتستانتية في الشمال الأوروبي، حين أدركت كنيسة روما أن عليها أن تطلق العنان للفنون والفنانين، إن هي أرادت منافسة البروتستانتيين.

وفي هذا الإطار كان برنيني من أبرز الداعين إلى فنون تخاطب حساسية الشعب في مواجهة تقشفية الفنون البروتستانتية. ومن الصعب اليوم تقديم إحصاء شامل بإنجازات برنيني الذي عاش وعمل حتى عام 1680، ولكن يمكننا أن نضيف إلى ما ذكرنا أعمالاً مثل "خطف بلوتو لبروسبرين" و"آبولون ودافني" و"نشوة القديسة تيريزا"، ومنحوتات وتعميمات عدة داخل "كنيسة القديس بطرس".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة