ملخص
استطاع سلطان باشا الأطرش، الذي ولد في كنف عائلة درزية معروفة بمحافظة السويداء جنوب سوريا، حجز مكان مرموق له في تاريخ الدولة والمنطقة على رغم عدم تبوئه أي منصب رسمي، حتى أصبح مرجعاً وطنياً لأكثر من حقبة في الذاكرة السورية المعاصرة.
يعد سلطان باشا الأطرش أحد رموز سوريا الكبار خارج نطاق السلطة ووظائفها، فهو شهد ولادة هذه البلاد وتفاعل مع أبرز مراحلها، وكان دائم الحضور في المواقف والمنعطفات التي اعترضت سبيلها، فمن هو هذا الرجل الذي طبع اسمه بقوة في تاريخ سوريا على رغم عدم تبوئه مناصب رسمية وتجاوز اسمه انتماءه الطائفي.
ولد سلطان بن ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الأطرش عام 1888، في بلدة القريا التابعة لمحافظة السويداء، جنوب سوريا، ويتحدر من أسرة قادت الطائفة الدرزية في سوريا منذ مطلع القرن الـ19. تمرس سلطان، الذي سينال لقب باشا لاحقاً، على يد والده ذوقان على أعمال الفروسية والرماية والصيد وفنون القتال، وتعلم القراءة والكتابة على أيدي بعض المعلمين والكتاب، وتابع دراسته بالمطالعة الشخصية.
عرفت عائلة الأطرش بمقارعتها السلطة العثمانية في أواخر عهدها، ففي سبتمبر (أيلول) عام 1910 شارك سلطان مع والده في صد حملة عثمانية، حين استغلت السلطات العثمانية وقتها خلافاً بين الدروز والقبائل البدوية في المنطقة، وحاولت تأديب الدروز في جبل العرب الذي بات مقراً للفارين من العثمانيين، وأرسلت حملة مؤلفة من نحو 30 ألف جندي بحسب المصادر التاريخية عرفت باسم حملة سامي باشا الفاروقي.
تكبدت حملة الفاروقي خسائر كبيرة في معركة قرية الكفر، وعلى أثرها أعدم والد سلطان شنقاً في مارس (آذار) 1911، في حين اقتيد سلطان إلى خدمة الجندية الإلزامية العثمانية مدة عامين قضاهما في مناطق البلقان.
معاركه العسكرية
بعد إتمامه خدمة الجندية عام 1912 تزوج سلطان من ابنة عمته من آل أبو فخر ليصبح لاحقاً أباً لـ14 ولداً وبنتاً، وفي الـ25 من سبتمبر 1918 انضم الأطرش إلى "الثورة العربية الكبرى" بقيادة الشريف حسين، وجمع حوله عدداً من المقاتلين العرب وسيطر على قلعة بصرى الشام، كما قاد معركة تلال المانع على مشارف دمشق ضد الأتراك والألمان، ودخل مدينة دمشق من جهة حي الميدان في الـ30 من سبتمبر ورفع العلم العربي فوق دار الحكومة. وكان ذلك العلم الذي نسجه أهل بيته أول علم عربي رفرف في سماء دمشق بعد حكم العثمانيين الذي دام قرابة 400 عام. ومع وصول الأمير فيصل إلى دمشق في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) 1918 وكان قد منحه لقب باشا وهي رتبة عسكرية ليعرف بعدها بسلطان باشا، بعدما رفض تلك الرتبة من الأتراك وفق ما تؤرخ عنه عائلته.
مع توجه الجيش الفرنسي للانتداب على سوريا بقيادة الجنرال هنري غورو قادماً من لبنان، تصدى وزير الحربية السوري وقتها يوسف العظمة بجيشه الصغير والفتي لأرتال الجيش الفرنسي لمنعها من دخول دمشق، فتوجه سلطان باشا الأطرش رفقة رجاله لمؤازرة العظمة إلا أنهم تأخروا عند وصولهم إلى بلدة براق وكانت المعركة قد حسمت لمصلحة الفرنسيين.
عام 1922 حاول اللبناني أدهم خنجر الذي كان متهماً بمحاولة اغتيال الجنرال الفرنسي هنري غورو، الوصول إلى بلدة القريا حيث دار إقامة الأطرش لكنه اعتقل وسجن في السويداء. وشكلت الحادثة فرصة لسلطان باشا ليثور على الفرنسيين حيث جرى تطويق السويداء، وفي الـ21 من يوليو (تموز) 1922 بدأت المعركة ضد الفرنسيين قرب تل الحديد بين أخيه مصطفى وخيالته وبين ثلاث مصفحات قدمت من درعا لنقل الضيف السجين إلى دمشق. فاستولى الثوار على مصفحتين وفرت الثالثة، كما قتل ثلاثة جنود فرنسيين وضابط يدعى بوكسان وأسر أربعة جنود آخرين، وتلك كانت المواجهة الأولى مع الفرنسيين في حين بقي النزاع مستمراً بين الطرفين، وعلى رغم إصدار حكم بالإعدام في حق سلطان باشا فإنه لم يهدأ وزاد من أواصره وتواصلاته مع أقرانه السوريين الرافضين وجود فرنسا في بلادهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الـ23 من يوليو عام 1925 جرت معركة قرية الكفر وكانت قد بدأت بتحذير من سلطان باشا الأطرش للقائد الفرنسي الذي جمع نحو 500 جندي وطلب منه التراجع، لكن الرد كان بالقتال. وفي حين أن القائد الدرزي كان أحضر هو الآخر العدد ذاته من المقاتلين وطوق المكان بفرسانه الذين انضم إليهم آخرون من القبائل البدوية، جرت معركة خاطفة لمصلحة السوريين الذين تكبدوا خسارة نحو 54 مسلحاً بينهم مصطفى شقيق سلطان باشا.
ويعتبر المؤرخون هذه المعركة بداية لما عرف لاحقاً بـ"الثورة السورية الكبرى"، حين دعا الأطرش بعد معركة الكفر قادة الانتفاضة والتمرد السوري وأصدر بياناً بدأه بشعار "الدين لله والوطن للجميع"، نادى فيه العرب بعبارة "إلى السلاح إلى السلاح". وطالب بوحدة البلاد وتعيين حكومة شعبية تجري انتخابات لمجلس تأسيسي يضع قانوناً أساسياً يقوم على مبدأ سيادة الأمة المطلقة وعلى القانون والعدل والحرية والمساواة. ولاقت هذه الدعوة استجابة واسعة في البلاد، اختير بعدها سلطان باشا قائداً عاماً لـ"جيوش الثورة الوطنية".
ثم توالت المعارك في ذاك العام وانتشرت في بقية أرجاء الخريطة السورية الجديدة بانضمام قادة وطنيين مثل الكردي إبراهيم هنانو، والشيخ صالح العلي، وتناغم معهم الرافضون للحكم الفرنسي في لبنان، واشتعلت المعارك التي قادها الأطرش في الجنوب السوري، مثل المزرعة والمسيفرة وغيرها، إلا أن الحملات العسكرية الفرنسية أجبرت الأطرش على التراجع نحو الجنوب ودخل الأراضي الأردنية التي كانت خارج دائرة نفوذ الانتداب الفرنسي، لتبدأ بعدها رحلة المنفى للزعيم الوطني الدرزي التي دامت نحو 12 عاماً قضى بعضاً منها في السعودية ليعود بعدها إلى وطنه وينضم للحراك السياسي الوطني، إثر صدور عفو عام من الفرنسيين عن جميع المتمردين السوريين. واستقبل سلطان ورفاقه في دمشق في الـ18 من مايو (أيار) 1937 باحتفالات شعبية تاريخية، واعتبر قائداً تاريخياً ومنح أرفع الأوسمة الوطنية، وتغنى الشعراء والكتاب ببطولاته وأعماله.
مواقف الأطرش
تميز سلطان باشا الأطرش بنزوعه نحو التمرد ورفض الاستبداد، كما يروي كتاب سيرته ومن عرفوه، فبعد خروج الفرنسيين من سوريا وتسلم الزعماء العسكريين حكم البلاد ظهر خلاف بين الأطرش والرئيس السوري السابق أديب الشيشكلي وصل إلى حد شن الأخير حملة عليه في عقر داره في جبل العرب، مما اضطره إلى النزوح إلى الأردن مرة أخرى تفادياً للمواجهة مع السلطات السورية، ليعود لاحقاً بعد سقوط الشيشكلي إلى بلدته القريا.
ساند سلطان باشا الأطرش الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر في تأسيس الاتحاد بين سوريا ومصر عام 1958. وعُرضت عليه مناصب ووظائف حكومية لم يقبلها، بل حرص على البقاء شخصاً وطنياً ومرجعاً، كما كانت له مآثر إنسانية واجتماعية في منطقته دعمت صورة إرثه كزعيم لطائفة الدروز ليس فقط في سوريا بل في عموم المنطقة، ليعزز بها قيم التسامح والتعامل مع الفئات المختلفة داخل البلاد، وهو ما انعكس في مراسم جنازته الرسمية عند وفاته في الـ26 من مارس 1982، حين شارك فيها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد إلى جانب نحو نصف مليون مشيع، اختتمت 94 عاماً عايش فيها أكبر التحولات في المنطقة وشهد ولادة بلاده التي كثيراً ما حلم بها كوطن موحد يحفظ التآلف بين مكوناته، وفق ما جاءت في وصيته التي دونها في الأيام الأخيرة من عمره الحافل بالأحداث والتجارب الوطنية.