ملخص
في إسرائيل تجاوز النفخ بـ"الشوفار" المناسبات الدينية، إذ ينفخ فيه حين يؤدي رئيس الحكومة اليمين والإعلان عن بدء رأس السنة اليهودية وعند الانتصارات التي تحققها، كما جرى عند احتلال القدس وحائط البراق وكذلك عند احتلال إسرائيل أرض سيناء، حيث نفخ الجنود فوق جبل سيناء لأول مرة في عام 1956.
داخل المدرسة الدينية "تيفيريت يروشاليم" في مدينة القدس، يتحدث الحاخام الإسرائيلي يهودا غليك زعيم منظمة "هاليبا" الاستيطانية، رئيس مؤسسة "تراث جبل الهيكل" إلى مجموعة من الأطفال اليهود لا تتجاوز أعمارهم 10 أعوام، عن أمور مثل نفخ "الشوفار" وخبز الحلة الدائري، وغمس التفاح في العسل، التي تعتبر جميعها جزءاً مهماً من التقاليد اليهودية، خصوصاً خلال الأعياد الدينية مثل رأس السنة العبرية (روش هاشانا) وعيد الغفران (يوم كيبور).
إلا أن "الشوفار" الذي يُصنع عادة من قرن كبش مجوف أو ماعز أو غزال يُعزف عليه كالبوق ويُعرف أيضاً باسم قرن الكبش اليهودي أو القرن اليهودي، كانت له الحصة الكبرى في الشرح والحديث، فالنفخ فيه يتطلب تقنية معينة للحصول على الأصوات المطلوبة، ويحتاج إلى ممارسة وتدريب للوصول إلى مستوى الإتقان الذي قد يتيح لهم فرصة تطبيق ما تعلموه في سياق العبادة، خلال المناسبات الدينية والروحية لإحداث أصوات مميزة لها دلالات ورموز عميقة لدى اليهود.
وفقاً للديانة اليهودية فإن النفخ ببوق "الشوفار" يدلل على الانتقال بين زمنين مفصليين، فينفخ فيه في العام مرتين فقط، الأولى يومي رأس السنة العبرية مع شروق شمس اليوم الأول إلى ظهيرة اليوم الثاني إعلاناً ببدء أيام التوبة الـ10 عند اليهود، ويكون عدد النفخات 100 نفخة، والنفخ الثاني يكون في غروب شمس يوم الغفران إعلاناً بانتهاء أيام التوبة.
وتذكر الكتب اليهودية أن النفخ يذكر بقصة الذبح التي أمر الله بها نبيه إبراهيم عليه السلام، لكنهم يعتقدون أن الذبيح هو النبي إسحاق عليه السلام، وللنفخ ببوق "الشوفار" نوعان من المعاني، يتعلق الأول بالدلالات التوراتية، واستحضار الموتى وإعلان يوم القيامة، ومعنى الحاجة إلى الغفران والتوبة، واستحضار الحروب التي خاضها بنو إسرائيل وكانوا يستخدمون البوق فيها للإعلان عن الانتصار والسيطرة، في حين يتعلق النوع الثاني من المعاني "بجماعات الهيكل" التي ترى في النفخ بالبوق إيذاناً باقتراب قدوم المسيح المخلص.
عهد قديم
يفترض بعض العلماء اليهود أن آلة "الشوفار" كانت تستخدم في العصور القديمة، لإصدار أصوات من شأنها تخويف الشياطين، قبل رأس السنة الجديدة، وتم ذكره في كثير من النصوص المهمة في التاريخ اليهودي، في كل من العهد القديم والكتاب المقدس العبري، والتي كُتبت باللغة العبرية بين عامي 1200 و100 قبل الميلاد.
وغالباً ما تظهر الآلة في "التناخ"، الذي يتضمن التوراة والتلمود والأدب الحاخامي، وبحسب المصادر كان يستخدم "الشوفار" للإعلان عن الأعياد والاحتفال بالحرب وفي المواكب، وقد ابتكرت مجتمعات يهودية مختلفة أنماطاً فريدة منه ففي شمال أفريقيا، يكون الـ"شوفار" عادةً مستقيماً ويصدر صوتاً عميقاً، فيما يستخدم اليهود في هولندا قرن الماعز عادة، أما المجتمعات اليهودية في بولندا فتميل لاستخدام "شوفار" مسطح ومستقيم يصدر نغمة منخفضة أو منحنياً يصدر نغمة عالية للغاية.
وإلى جانب أهميته في اليهودية، يحتفل بعض المسيحيين الصهاينة والمسيحيين الإنجيليين بنفخ الـ"شوفار" كحلقة وصل بتراث إيمانهم القديم.
وعلى رغم الجدل حول تاريخيه، فقد تمكن علماء آثار إسرائيليون من استعادة القطع الأثرية التي قد تشير إلى أن بعض قصص الكتاب المقدس كانت روايات تاريخية، ويشير موقع "إسرائيل تتكلم بالعربية" إلى أن الكتاب المقدس ذكر آلة الـ"شوفار" 72 مرة، ويُنظر إليه على أنه "آلة يستخدمها الرب ومظهر من مظاهر صوته المقدس".
أصوات ونغمات
وللنفخ في البوق (الشوفار) مدة ودرجات معينة، وحسب المعتقدات اليهودية هي أربعة أصوات "التكية" و"الشيفريم" و"التروح" و"التقية جدولة"، وتحمل كل واحدة منها دلالات معينة، فالتكية نغمة طويلة تدعو إلى الاستماع، و"الشيفريم" تتكون من ثلاث نغمات متوسطة الطول، أما "التروحة" السريعة فتتميز بنغمات قصيرة متقطعة، فيما التقية جدولة، هي تكية مطولة تُختتم بها أغنية.
ويختلف كل "شوفار" عن الآخر، كذلك فإن الحجم والشكل وعوامل أخرى تسهم جميعها في الصوت الذي يصدره، إلا أنها في المجمل تدعو إلى "التأمل الروحي والاحتفال بالرب"، بحسب المعتقدات اليهودية، ويتمتع أي عازف على آلة موسيقية نفخية مشابهة بأفضلية في البداية، إذ يعد الـ"شوفار" القصير أسهل عزفاً من الطويل، لاستهلاكه هواءً أقل.
لكن بالنسبة إلى خبير نفخ الشوفار المقيم في إسرائيل روبرت وينجر، الذي يملك معظم مركز للشوفار في برية الخليل (صحراء يهودا) أصبح يرى نفسه بمثابة سفير لهذه الآلة، وقال لموقع (Jewish News Syndicate) إنه "تاريخياً استُخدم الشوفار كدعوة للمعركة وكإنذار وصرخة نصر. هناك سرٌّ وراءه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووصف الحاخام والفيلسوف اليهودي المصري سعديا جاؤون مؤسس الأدب العربي اليهودي، صوت الشوفار "بمثابة صرخة معركة رمزية للشعب اليهودي، وتذكيرهم بالعهد بينهم وبين الله"، في حين قال الفيلسوف اليهودي السفاردي موسى بن ميمون إن الشوفار "تذكير للقيام بالتوبة، وجرس إنذار في التقرّب من الله، وصولاً إلى المعنى والاكتمال لإثبات الولاء والالتزام".
معان سياسية
في إسرائيل تجاوز النفخ بـ"الشوفار" المناسبات الدينية، إذ ينفخ فيه حين يؤدي رئيس الحكومة اليمين والإعلان عن بدء رأس السنة اليهودية وعند الانتصارات التي تحققها، كما جرى عند احتلال القدس وحائط البراق وكذلك عند احتلال إسرائيل أرض سيناء، حيث نفخ الجنود فوق جبل سيناء لأول مرة في عام 1956.
وفي عام 2022 سمحت محكمة إسرائيلية لمتشددين إسرائيليين بنفخ البوق "الشوفار" في مقبرة "باب الأسباط"، شرق المسجد الأقصى.
ولم يكتف ما يعرف بـ"المجلس الحاخامي" (السنهدرين) باستعراض البوق الجديد في الأعوام الأخيرة بنفس المواصفات المذكورة في "المشناة"، بل لجأت لمسار قانوني في محاولة لانتزاع قرار قضائي يسمح بممارسة هذا الطقس في ساحات المسجد بحجة أن محكمة إسرائيلية اعتبرت عام 2015 أن النفخ في البوق ليس عملاً استفزازياً، بل جزءاً من الوضع القائم الذي فُرض بعد يونيو (حزيران) 1967.
وبحسب ناشطين ومتابعين مقدسيين، فقد أعلن الحاخام هيلل فايس برفقة عدد من حاخامات معهد الهيكل، وأعضاء "السنهدرين الجديد"، أنهم جاهزون لتنفيذ "ميتزافوت" الخاصة بـ "الشوفار" داخل المسجد الأقصى، في كل رأس سنة عبرية وأيام التوبة، وهو ما دفع محللين إلى القول إن خطر الشوفار لم يعد يقتصر على نية "جماعات الهيكل" النفخ فيه بداخل باحات المسجد الأقصى، بل قد يمتد الأمر لتكريس فكرة اقتحام الأقصى بالثياب البيضاء، وهي رداء طبقة الكهنة التي تقود الصلوات في الهيكل.
وكانت منظمة "سلام أورشليم" التابعة للحاخام يهودا غليك، ومنظمة "جبل الهيكل بأيدينا" "بيدينو" ومديرها "تومي نيساني"، قاما بمبادرة للنفخ بالبوق عند باب الرحمة من الخارج في عام 2022 كإعلان عن بداية عهد البناء (بناء الهيكل) إذ إن المعتقد اليهودي يقول إن بناء الهيكل الثالث ودخول المسيح المنتظر يكون من الباب الشرقي للحرم القدسي، وقد تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو يظهر جندياً إسرائيلياً ينفخ "الشوفار" على شواطئ غزة في سبتمبر (أيلول) العام الماضي.
أدوات طقسية
الباحث المتخصص في شؤون القدس زياد ابحيص، حذّر من سياسة التدرج التي تنتهجها منظمات "الهيكل" في التعامل مع "الشوفار" خصوصاً أنه قد سبقها إدخال أدوات طقوس توراتية إلى المسجد الأقصى، وخلال الأعوام الماضية تمكن حاخامات ومنظمات استيطانية من إدخال شال الصلاة "طاليت"، واللفائف السوداء "تيفلين"، وكتب الأذكار التوراتية "السيدور"، وملابس التوبة، والقرابين النباتية، وسط تواطؤ من الشرطة الإسرائيلية.
وأوضح ابحيص في تغريدة عبر حسابه على منصة "إكس" أن هناك منظمات تسعى إلى إدخال أدوات أكثر رمزية وخطورة، مثل لفائف التوراة والشمعدان والأبواق المعدنية وثياب الكهنة والمذبح، وحتى القربان الحيواني، مما يعني أننا أمام مرحلة جديدة وخطرة من التهويد الصريح.
وأكد المتحدث أن نجاح منظمات توراتية في إدخال هذه الأدوات تدريجياً، من دون ردع فعلي، يشجعها اليوم على المضي قدماً بشكل أوسع وأخطر، محذراً من أن "النفخ العلني للشوفار في باحات المسجد الأقصى يعد أكبر وأخطر مرحلة في تاريخه الحديث".