ملخص
تدرس تل أبيب فكرة الوجود المستمر شمال الضفة الغربية وتحديداً مدينة نابلس، بسبب زيارات المستوطنين اليهود المتكررة للمدينة لزيارة "قبر النبي يوسف"، إذ ترى تل أبيب أنه تصحيح لـ"ظلم تاريخي"، لا سيما بعدما تحول الموقع عام 1990 إلى نقطة عسكرية وصنفته وزارة الأديان الإسرائيلية وقفاً يهودياً.
على رغم ما تعانيه سمر ياسين (60 سنة) من مرض الربو والأزيز (صوت صفير عند التنفس) الدائم جراء استنشاقها للغاز المسيل للدموع الذي يطلقه الجيش الإسرائيلي في كل مرة يقتحم فيها المستوطنون شرق مدينة نابلس شمال الضفة الغربية لزيارة "قبر يوسف" وأداء طقوس تلمودية، لم تغادر منزلها الواقع على مقربة من المكان.
ومع كثرة الاقتحامات خلال الآونة الأخيرة التي تستفز الفلسطينيين واشتداد المواجهات بصورة غير مسبوقة، قد تعيد سمر حساباتها خوفاً مما هو أعظم وأشد، فقد أعلن الجيش الإسرائيلي، في خطوة ذات أبعاد أمنية وسياسية كبيرة، أنه يدرس بجدية قضية إعادة الوجود اليهودي الدائم في "قبر يوسف" بعد 25 عاماً من إخلائه.
وبحسب ما أفادت به صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية فإن قيادة المنطقة الوسطى بالجيش تعمل على إعداد خطة رسمية حول الإمكانية العملية لهذه الخطوة، ومن المتوقع تقديمها خلال الأسابيع المقبلة، خصوصاً في ظل الضغط الكبير الذي يمارسه وزراء وأعضاء كنيست وشخصيات عامة وعائلات قتلى إسرائيليين، على المستويين السياسي والعسكري لدفع خطة العودة وتغيير الوضع القائم منذ أكثر من عقدين.
وأقر الجيش الإسرائيلي بالتصاعد الحاد في إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية وأظهرت معطياته تسجيل ارتفاع بنسبة 30 في المئة في "جرائم قومية"، نفذها يهود في الضفة الغربية خلال النصف الأول من عام 2025.
ووفقاً لبيانات أوردتها إذاعة الجيش الإسرائيلي، سجل 414 اعتداء إرهابياً من قبل المستوطنين منذ مطلع العام، مقابل 318 خلال الفترة نفسها من العام الماضي، و679 اعتداء في مجمل عام 2024 وتشمل هذه الاعتداءات أعمال حرق، وكتابات عنصرية على الجدران، ورشق حجارة، واعتداءات جسدية، وعمليات تخريب.
وأكد ضابط رفيع في الجيش أن "الارتفاع لا يقتصر على العدد فحسب، بل يشمل أيضاً خطورة الأحداث" التي أصبحت أكثر عنفاً وتطرفاً.
بحسب المعتقدات اليهودية، فإن عظام النبي يوسف بن يعقوب عليه السلام، أحضرت من مصر ودفنت في هذا المكان التابع لمدينة "شخيم" القديمة (تل بلاطة) قرب نابلس، ومنذ احتلال الضفة الغربية خلال عام 1967 أصبح القبر مقاماً مقدساً لدى اليهود، وعلى رغم تباين الآراء حول المقام كونه قبراً للنبي يوسف أو أنه مقام لشيخ مسلم اسمه يوسف الدويكات عاش حياته وتوفى أثناء الدولة العثمانية، وما يتسم به من الناحية المعمارية والمشابهة للمقامات الإسلامية في بنائه من قبة ومحراب وشكل الجدران والحجارة، صنفته وزارة الأديان الإسرائيلية خلال عام 1990 وقفاً يهودياً.
روايات متباينة
ويشير موقع "قبر يوسف" بالعبرية إلى أن قبر يوسف هو مكان الدفن الوحيد الموصوف بالتفصيل في الكتاب المقدس، وأن اليهود رعوا المكان لنحو 700 عام، ووفقاً لما تحدثت به الروايات الإسرائيلية فقد واصل اليهود وجودهم داخل المكان منذ عام 1300 الميلادي وحتى مطلع القرن الـ20 إلى أن تضاءل عدد اليهود في مدينة نابلس عام 1906، وينفي الفلسطينيون كلياً كل تلك الروايات الإسرائيلية ويشيرون إلى أن البناء فوق القبر يعود إلى العصر العثماني وشيد عام 1904 على ضريح رجل دين قدم إلى المنطقة، وكان المسلمون آنذاك يرتادون المكان للتبرك وتقديم النذور، وأصبح تدريجاً مزاراً لهم، وبخاصة للطوائف الصوفية التي أقامت طقوساً خاصة كختان المواليد.
وبحسب أساتذة تاريخ ومؤرخين فلسطينيين، فإن مقام يوسف في نابلس والذي يعود عمره إلى 200 عام، وقف إسلامي مسجل في الأرشيف العثماني ولا دخل لليهود فيه، كما أن الموقع أثر إسلامي مسجل لدى دائرة الأوقاف الإسلامية وكان يضم مسجداً ومدرسة.
ومع سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية عام 1967 تحول "القبر" إلى وجهة دائمة للمستوطنين للصلاة فيه وإقامة الطقوس الدينية، ففي عام 1976 أقام الجيش الإسرائيلي نقطة عسكرية دائمة عند المقام، وافتتحت فيه عام 1984 مدرسة "أود يوسف تشاي" التوراتية، فيما حاول المستوطنون بين عامي 1988 و1990 توسيع سيطرتهم على المكان وإقامة بؤرة استيطانية داخله، وهو ما أحدث صدامات دامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين خصوصاً بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993 والتي نصت أن مقام يوسف المصنف ضمن المنطقة المصنفة "أ" التي تخضع للسيطرة الإدارية والشرطية الفلسطينية، يعد مقاماً تاريخياً أثرياً مفتوحاً لجميع أصحاب الديانات والمؤمنين لزيارته بإشراف وتنسيق السلطة الفلسطينية، وأن هذا ينطبق على الإسرائيليين بمن فيهم المستوطنون.
إجراءات أمنية
ومنذ ذلك الحين يشهد المكان مواجهات عنيفة بين الجانبين، عل أبرزها خلال عام 1996 عندما شهد محيط القبر اشتباكاً غير مسبوق بين قوات الأمن الفلسطيني وجنود إسرائيليين أدى لسقوط قتلى من كلا الجانبين، فيما يعرف بـ"هبة النفق"، وفي بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 وبعد اشتباكات عنيفة في محيط القبر أدت إلى سقوط قتلى من كلا الطرفين، قام شبان فلسطينيون غاضبون بتدمير أجزاء من القبر لمنع عودة المستوطنين، في حادثة عرفت بـ"معركة تحرير قبر يوسف"، لكن السلطة الفلسطينية قامت بترميمه في ما بعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأمر تكرر خلال عام 2015 عندما أحرق فلسطينيون المكان ورفعوا العلم الفلسطيني عليه، رداً على اقتحامات المستوطنين المتكررة في المسجد الأقصى، وبعدما أعادت السلطة الفلسطينية ترميم المكان فرضت إجراءات أمنية مشددة في محيطه، وخلال عام 2022 تصاعدت الأمور أكثر وخرجت عن السيطرة عندما اقتحم أكثر من 100 شاب فلسطيني القبر وقاموا بتحطيم القبر الرخامي الذي يتوسط إحدى غرفه، ومن ثم أشعلوا النار فيه احتجاجاً على اعتداءات الجيش المتكررة على مدن الضفة الغربية.
ووفقاً لتصريحات وزارة السياحة الفلسطينية، فقد أحدث المستوطنون تغييرات متعددة داخل القبر، بدأت منذ عام 2003 عندما غيروا وجهة القبر، وعام 2011 عندما أحضروا حجارة كبيرة تقلها شاحنات، وأدخلوها إلى القبر، وعام 2021 بنوا أدراجاً سرية تؤدي إلى أسفل القبر، ومغطساً (حفرة تملأ بالماء) طقوسياً.
ظلم تاريخي
ووفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، فإن شخصيات بارزة في المستوطنات تقوم بتعزيز فكرة الوجود اليهودي في "قبر يوسف" منذ أعوام ويعد الحاخام دودو بن ناتان، رئيس المعهد الديني "بري هآرتس" في مستوطنة "رحاليم"، أحد أهم وأبرز المبادرين لهذه الخطوة إضافة إلى رئيس مجلس المستوطنات شمال الضفة يوسي دغان الذي يعد شخصية مقربة من وزراء في حزب "الليكود" وصاحب نفوذ سياسي، والنائب السابق في الكنيست الإسرائيلي تسفي سوكوت من حزب "الصهيونية الدينية"، الذي ضم لنفسه عدداً من الصلاحيات المتعلقة بالإدارة المدنية في الضفة.
ويزعم المبادرون لخطة العودة وإعادة فرض السيطرة التامة على القبر، أن الوجود اليهودي الدائم في نابلس سيحقق الأمن للمستوطنين وسيخلق ردعاً، وأن التخلي عن "قبر يوسف" في الماضي كان "هرباً من الإرهاب".
وقال دغان "عندما نعود إلى قبر يوسف سنعيد إنشاء المعهد الديني هناك، هذه رسالة مفادها بأن شعب إسرائيل هنا لكي ينتصر، الهرب لا يجلب السلام".
من جهته قال سوكوت، إن "إسرائيل تخلت عن قبر يوسف وتركته لحشد عربي عبث به"، وأضاف "من هناك هربنا للمرة الأولى من الإرهاب، وحان الوقت للإصلاح".
ودعا الحاخام بن ناتان إلى العودة الكاملة إلى الموقع، وعدها خطوة ضرورية لتصحيح "ظلم تاريخي"، على حد تعبيره.
وبحسب التقديرات، فإن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش على دراية تامة بالخطة.
وتبلغ مساحة قبر يوسف كاملة بمختلف مرافقه ما يقارب 662 متراً مربعاً، وله مدخل رئيس ووحيد من جهته الشمالية، ويقع بداخله غرفتان، بناهما أهالي المنطقة قبل أكثر من 50 عاماً، الأولى تقع إلى الشرق كانت تخصص لتقديم الخدمات، والثانية إلى الغرب كانت معدة لتدريس الأطفال، إلا أنهما تستخدمان اليوم من قبل المستوطنين لأداء شعائرهم الدينية، أما الغرفة الرئيسة التي تضم القبر وتعلوه قبة فتعود للفترة العثمانية، وفيها محراب إسلامي.