ملخص
لا يتوانى فليفل عن استعمال كل الأدوات الفلسطينية المتوافرة في عمله، إذ يبدأ الفيلم بجملة لإدوارد سعيد، وفي المنتصف يمرر قصيدة "مديح الظل العالي" لمحمود درويش، يريد لعمله أن يجمع كل فلسطين، من شتات وفكر وشعر.
يكمل المخرج الفلسطيني مهدي فليفل ما بدأه في أعمال سابقة. تلاحق كاميرته الشتات والتغريبة واللجوء والقهر واليأس وعدم الاستقرار. ثمة تيمة حول فلسطين، يريدها أن تبقى موجودة في أعماله، وبلورها في فيلمه الروائي الأول "إلى عالم مجهول".
عمل طويل لكنه ليس مملاً، يتتبع خلاله المخرج رحلة شابين هربا من مخيم في لبنان إلى أثينا ومنها صوب أوروبا.
القصة
شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صباح) قريبان فلسطينيان كانت ألمانيا هدفاً لهما، ولكن من دون مال أو جوازات سفر، وجدا نفسيهما في عالم موحش يعيشان من النصب والسرقات الصغيرة.
بالنسبة إلى شاتيلا، الذي اكتشف جانباً قاسياً في شخصيته، كل شيء مبرر - حتى لو كان ذلك نهب اللاجئين الآخرين - ولكن رضا كان يكره ما أصبح عليه، وهو عار يخفيه بالمخدرات، مضيعاً ما يملكان من مال قليل.
ومع ذلك تبدو الأمور أفضل عندما يلتقيان مالك، وهو صبي صغير يدعي أن عمته ستوفر له المال لتأخذه إلى إيطاليا.
المتابع لأعمال مهدي فليفل السابقة سيشعر أن "إلى عالم مجهول" امتداد لحكاية طويلة بدأها بفيلمه الجميل "عالم ليس لنا" (2012)، الذي رصد فيه محاولات بعض الشباب الفلسطينيين من أقاربه في مخيم الحلوة بلبنان للهجرة إلى اليونان أو أي بلد أوروبي آخر، وما تسفر عنه هذه المحاولات، وهي الرحلة التي تابع نتائجها في أربعة أفلام لاحقة هي "زينوس" (2014) و"عودة رجل" (2016) و"رجل يغرق" (2017)، ثم في "ثلاثة مخارج منطقية" (2020).
لا يتوانى فليفل عن استعمال كل الأدوات الفلسطينية المتوافرة في عمله، إذ يبدأ الفيلم بجملة لإدوارد سعيد، وفي المنتصف يمرر قصيدة "مديح الظل العالي" لمحمود درويش، يريد لعمله أن يجمع كل فلسطين، من شتات وفكر وشعر. ويتميز بقدرته على الانتقال بسلاسة من دراما اجتماعية إلى "إثارة نفسية عالية التوتر".
بيروت - أثينا
ثمة مفارقة غريبة لعب عليها المخرج. تدور كاميرته في أحياء أثينا القديمة والفقيرة، لا تخرج إلى أحياء راقية، ولا نرى أي مشاهد من المدينة، كأنه يريد للمكان أن يكون بيروت، أو المخيم الذي غادره الشابان، إذاً أراد فليفل لأثينا أن تكون بيروت، السجن الكبير للفلسطينيين.
على مدى ساعة و45 دقيقة، نشهد انكسارات كثيرة في الفيلم، يتحول شاتيلا إلى وحش كاسر، يستغل كل شيء وأي شيء، في سبيل العبور إلى أوروبا. بعد فشله في جمع المبلغ الكافي، يلجأ إلى النصب وهي المهنة التي يعيش منها. يحتال على مهاجرين سوريين، يريدون الهجرة أيضاً ويستغل ذلك لسرقة أموالهم.
يبدو هنا شاتيلا فاقداً البصيرة، التبدل الذي طرأ على شخصيته غير طباعه، لم يعد أباً حنوناً لطفل عمره سنتان، ولا زوجاً عطوفاً لفتاة حاربت عائلتها للارتباط به. بات شاتيلا صورة لشعب مهمش يريد العبور من الموت والقلق والاستبداد صوب أوروبا، صوب ألمانيا أو إيطاليا. والمفارقة هنا أن غالبية المهاجرين الذين يصلون إلى اليونان لا يستقرون فيها، بل تكون نقطة عبور فحسب، كأن طبيعتها الشرق أوسطية، تذكرهم بمعاناتهم التي هربوا منها.
الشخصية الثانية في الفيلم رضا، غير مستقرة، وتمثل كل الانكسارات النفسية للمهاجر أو اللاجئ. خائف دوماً من أي مكروه قد يحصل، لا يشعر بالانتماء إلى المكان ولا الأصدقاء، يلجأ إلى المخدرات، لإبعاد نفسه عن الواقع، هذا الواقع القاسي الذي هرب منه وما زال يلاحقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يوافق رضا على تصرفات شاتيلا، لكنه يتبعه لشعوره بالأمان معه، يشعر أن الأخير يحميه ويفكر عنه، وينتشله من ضياعه حين يتعاطى المخدرات.
أداء عفوي وبسيط من الشابين، بلا تكلف أو تصنع، نقتنع بما يقدمانه، مع كثير من العبارات النابية، التي تخدم المشهد، فهكذا يتكلم الشباب بكل هذه العفوية.
تلاحق كاميرا فليفل المجهول الذي يمشي صوبه الشابان، ويشارك المشاهد كل الأوجاع والمآسي التي يمران بها.
الفيلم عاطفي، لكنه مليء بالانكسارات والخيبات التي لا تنتهي. صوت الزوجة التي لا نراها، لكن نسمع صوتها عبر الهاتف وهي تتكلم مع شاتيلا، لا يوحي بالصبر، كلامها المنمق يقول إنها لم تعتد الحياة في المخيم، ولا تريد لابنها أن يكبر هنا، بطريقة ضمنية تشجع شاتيلا على النجاح والهرب من واقعه، تريده أن يأخذها إليه، أن ينتزعها من واقعها المرير.
شارك العمل في أكثر من 100 مهرجان حصل خلالها على ما يزيد على 20 جائزة، وفي أكثر من 40 عرضاً سينمائياً في مختلف أنحاء العالم.
يعد "إلى عالم مجهول" أكثر من مجرد فيلم، فهو شهادة بصرية تكشف معاناة اللاجئين وتضيء على واقع النزوح القسري من زاوية إنسانية جريئة.
يريد مهدي فليفل أن يتكلم عن فلسطين والمعاناة، لكنه يستعمل لغة واقعية صادمة، مبتعداً عن كلاشيهات القضية، لا يريد أن يكون نمطياً ولا غير مباشر.
يهتم بتقديم أعمال عن اللاجئين وعرضها بطرق مختلفة، فهو نفسه لاجئ، ويروي من خلال أعماله قصصاً عاشها بنفسه وتحيط به طوال حياته.
وفي حديث سابق له يقول "يرتكز الفيلم على كثير من الشخصيات التي التقيتها خلال العقد الذي كنت أوثق فيه الأحداث، يحاول بعض الشباب من مخيمات لبنان الوصول إلى أوروبا. قدمت أفلاماً عدة كانت تلقي الضوء على رجال يحاولون الوصول إلى أوروبا. وكانت هناك مصادر إلهام عدة في الفيلم، مثل أشعار محمود درويش وإدوارد سعيد، وقد افتتحت الفيلم باقتباس للأخير". وأوضح أن "محمود بكري لم يكن في البداية مرشحاً لدور البطولة في الفيلم، وهو أصر على إرسال شريط تجريبي فأعدت النظر في قراري واخترته لدور شاتيلا، عندما شاهدت الشريط أدركت أنه هو الشخص المثالي لهذا الدور، وكان العمل معه فرحة، لقد كانت مساهمته في الفيلم فعالة أسهمت في نجاح الفيلم".
المخرج
ولد مهدي فليفل (1979) في دبي، لأبوين فلسطينيين من قرية صفورية المهجرة. نشأ في مخيم عين الحلوة في لبنان، وانتقل لاحقاً إلى الدنمارك، حيث أمضى جزءاً كبيراً من طفولته وشبابه.
تخرج في الجامعة الوطنية للأفلام والتلفزيون من المملكة المتحدة. عام ٢٠١٠ أصبح مؤسساً شريكاً لشركة "نكبة فيلم وركس" التي أنتجت فيلم سيرته الذاتية "عالم ليس لنا" الذي عرض في مهرجان تورونتو العالمي للأفلام وحاز أكثر من ٣٠ جائزة عالمية منها برلينال (ألمانيا) وإدنبرة وياماغاتا، وجائزة لجنة التحكيم- دوك: نيويورك.
في عام ٢٠١٦ حاز جائزة الدب الفضي بفيلمه "عودة رجل"، وشهد فيلمه "رجل غارق" العرض العالمي الأول بمهرجان "كان" السينمائي ٢٠١٧، وحاز جائزة أفضل فيلم قصير في الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون BAFTA عام ٢٠١٨.
"لقد وقعت على عريضة" حاز جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير من مهرجان الأفلام التسجيلية في أمستردام IDFA لعام ٢٠١٨، وترشح أيضاً لجوائز الأفلام الأوروبية عام ٢٠١٨.