Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غزة في البدء كانت وفي الختام كأن لم تكن

العيون التي كانت مصوبة تجاهها حتى أسابيع قليلة مضت انصرفت إلى المواجهة بين إيران وإسرائيل وربما تبقى هناك لحين إشعار آخر

نجحت حلقة أخرى من حلقات الصراع في المنطقة في سحب بساط الاهتمام من تحت أقدام غزة وأهلها وتوجيهه بعيداً (أ ف ب)

ملخص

في تحرك ذكي ومن دون الإشارة المباشرة إلى نجاح المواجهة بين إيران وإسرائيل في تحويل الاهتمام العالمي بعيداً من غزة، جدد مسؤولون في الأمم المتحدة قبل ساعات دعواتهم التقليدية في مثل هذه الأوضاع إلى ضبط النفس وغيرها، لكنهم أشاروا غير مرة إلى تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران وسط أزمة إقليمية أوسع نطاقاً تفاقمت بسبب حرب غزة، وتدهور الوضع الإنساني الذي يواجهه المدنيون الفلسطينيون، بحسب بيانات وتصريحات عدة.

أكثر من 55 ألف قتيل ونحو 128 ألف مصاب و1.9 مليون نازح، أي نحو 90 في المئة من السكان، نزحوا أو في حال نزوح مستمر، لم تضمن بقاء العيون كلها على غزة، إذ جاء تفجر المواجهة بين إسرائيل وإيران وقرار الولايات المتحدة الأميركية الأخير بالضلوع في الحرب ليتحول الشعار إلى "كل العيون بعيدة من غزة"، وعلى مدى 19 شهراً هي مدة حرب القطاع وحتى بداية المواجهة بين إسرائيل وإيران، نجح قتلى غزة ومصابوها ونازحوها وجائعوها في إبقاء أنظار العالم مثبتة عليها، وهي مدة قياسية في الحفاظ على اهتمام العالم قلما تحظى بها حرب، مهما بلغت من عنف ودمار وجنون.

الإنهاك العاطفي

ويجمع خبراء الرأي العام على أن الاهتمام العام بمتابعة الحروب والصراعات يتضاءل مع مرور الوقت، فالحرب القصيرة التي لا يتعدى أمدها بضعة أسابيع أو أشهر، على أبعد تقدير، تضمن اهتمام الرأي العام بدرجات متفاوتة وبحسب قرب أو بعد مكان الحرب، ومدى تأثيرها اقتصادياً واجتماعياً في المتابعين، ومدى دمويتها، فكلما زادت وحشية الحرب جذبت مزيداً من الاهتمام، سواء بغية التعاطف أو لتوافر عنصري الأدرينالين والإثارة، شأنها شأن أفلام العنف والـ "أكشن".

 

"أكشن" غزة لم يفتر يوماً على مدى أشهر الحرب الـ 19، وما فتر وانحسر هو الاهتمام العالمي بها على مدى الساعة، إذ تجتهد نظريات عدة في تفسير انحسار اهتمام العالم بحرب على رغم عدم فقدانها أياً من العوامل التي جذبتهم إليها وقت تفجرها.

العوامل النفسية تطل برأسها حيث طبيعة بشرية تدفع كثيرين إلى ما يسمى بـ "الإنهاك" أو "الإحباط العاطفي"، والذي ينجم عن شعور المتابع بقلة الحيلة وعدم القدرة على تغيير الواقع والمشاهد الصعبة التي يراها، فيقرر إغلاق الشاشة أو التحول عن الحرب إلى قضايا ومتابعات أخرى.

 ويشير بعضهم إلى أن تغير الأولويات أو تضاربها، حيث السعة الاستيعابية لأولويات البشر، ولا سيما غير الضالعين بصورة مباشرة في الصراع الدائر، تظل محدودة بين مسائل شخصية واهتمامات عائلية أو عملية ومشكلات أخرى اقتصادية أو سياسية داخلية، وهكذا ينصرف الاهتمام بعيداً من أولوية متابعة الحرب.

إيران سحبت البساط

ويظل الوضع الحالي مختلفاً، فقد نجحت حلقة أخرى من حلقات الصراع في الشرق الأوسط في سحب بساط الاهتمام من تحت أقدام غزة وأهلها وملفها وتوجيهه بعيداً، وإن ظل قريباً جغرافياً، صوب المواجهة الدامية الحالية بين إيران وإسرائيل مع دخول أميركا على خط الصراع، وفي تحرك ذكي ومن دون الإشارة المباشرة إلى نجاح المواجهة بين إيران وإسرائيل في تحويل الاهتمام العالمي بعيداً من غزة، جدد مسؤولون في الأمم المتحدة قبل ساعات دعواتهم التقليدية في مثل هذه الأوضاع إلى ضبط النفس وغيرها، لكنهم أشاروا غير مرة إلى "تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران وسط أزمة إقليمية أوسع نطاقاً تفاقمت بسبب حرب غزة، وتدهور الوضع الإنساني الذي يواجهه المدنيون الفلسطينيون"، بحسب بيانات وتصريحات عدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دقت على الوتر الذي بات يتسبب في قدر هائل من القلق والترقب في كثير من دول العالم، والناجمين عن التخوف من استقبال موجات من الهاربين أو النازحين أو اللاجئين، فالمفوضية التي تواجه مصاعب مالية جمة بسبب نقص التمويل مع ارتفاع أعداد اللاجئين، دعت إلى "تهدئة الصراع المتصاعد بصورة خطرة بين إسرائيل وإيران، والذي تسبب بالفعل في نزوح سكاني في كلا البلدين، كما أشارت إلى تقارير تفيد بتحركات بشرية من طهران ومناطق أخرى من إيران، إذ اختار بعضهم العبور إلى الدول المجاورة، كما دفع القصف آخرين في إسرائيل إلى البحث عن مأوى في أماكن أخرى داخل البلاد، وفي بعض الحالات خارجها.

غزة المنسية

وفي السياق نفسه دق المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني على وتر "غزة المنسية" خلال كلمته أمام الدورة الـ 51 لمجلس وزراء خارجية "منظمة التعاون الإسلامي" في إسطنبول، وقال إن مليوني شخص في غزة يتعرضون للتجويع، مضيفاً أن ما يسمى بـ "آلية المساعدات التي أُنشئت أخيراً هي عمل بغيض يذل ويهين الناس اليائسين، وهي عبارة عن فخ للموت يؤدي إلى فقدان أرواح أكثر مما ينقذ، كما يستخدم الغذاء كسلاح ويجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وهذا يمثل ذروة 20 شهراً من الرعب والتقاعس والإفلات من العقاب، 20 شهراً تعرض فيها السكان المحاصرون للقصف والحصار والتهجير بصورة متواصلة".

ويشار إلى أن شعار صفحة "أونروا" الرسمية يتشح بشريط الحداد الأسود منذ الـ 22 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حين وصل عدد من قتلوا من "أعضاء الفريق" في غزة إلى 20 شخصاً، وقالت مديرة الاتصال في "أونروا" جولييت توما إنه تخليداً لذكراهم جرت إضافة الشريط الأسود لشعار "أونروا" والاحتفاظ به منذ ذلك الحين مع استمرار سقوط مزيد من الضحايا، وتشير الوكالة إلى أن عدد موظفيها الذين قتلوا على مدى أشهر حرب القطاع الـ 20 تعدى حاجز الـ 300 شخص.

كل العيون على غزة

20 شهراً إلا شهراً أو أقل، شعار ونداء "كل العيون على غزة" وتنويعاتها بحسب الأحدث، وأبرزها "كل العيون على رفح"، تبددت اليوم على حلبة الصرع الإيراني - الإسرائيلي - الأميركي، فمنذ تأججت الحرب في القطاع بدأ بعضهم يستخدم عبارة على منصات الـ "سوشيال ميديا" على سبيل جذب الاهتمام وإعلان التضامن مع غزة وأهلها، ولكن كان ذلك بصورة متفرقة، في تدوينة هنا ومنشور هناك وصورة فوتوغرافية، سواء من واقع غزة أو مصنوعة بالذكاء الاصطناعي، في صورة "بروفايل" على "فيسبوك" أو "إنستغرام" وغيرها من الاستخدامات المختلفة من قبل أشخاص حول العالم، ففي مايو (أيار) عام 2024 اجتاحت منصات الـ "سوشيال ميديا"، ومنها إلى وسائل الإعلام التقليدية، صور تتضامن مع مدينة رفح الفلسطينية ومن فيها بعدما قفزت أعداد القتلى والمصابين، سواء بين سكان رفح أو من نزحوا إلى المدينة بناء على التحذيرات الإسرائيلية، بصورة كبيرة جراء عمليات القصف لمخيم للنازحين، وهو القصف الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ بـ "الخطأ المأسوي".

 

اجتياح الشعار في ذلك الوقت تميز بضلوع عدد من المشاهير ومعهم ملايين الأشخاص حول العالم في تبني عبارة "كل العيون على رفح"، وخلال 48 ساعة فقط وصل انتشار الصورة المكتوب عليها بالعربية ولغات أخرى "كل العيون على رفح" إلى أكثر من 47 مليون شخص، وقال ممثل "منظمة الصحة العالمية" في الأراضي الفلسطينية ريتشارد بيبيركورن خلال لقاء صحافي في فبراير (شباط) 2023 إنه يخشى "كارثة إنسانية لا يمكن تصورها إذا قررت القوات الإسرائيلية التوغل بصورة واسعة النطاق في مدينة رفح الفلسطينية"، مضيفاً أن "كل العيون على رفح"، ومنذ ذلك الوقت وبعضهم يستخدم العبارة بصورة متفرقة، ولكنها تحولت إلى حملة عالمية عنكبوتية بعد ثلاثة أشهر حين قصفت إسرائيل مخيم النازحين.

نزوح الاهتمام

نزوح من نوع آخر شهده الرأي العام والاهتمام العالمي، من غزة إلى إيران وإسرائيل، فمنذ الـ 13 من يونيو (حزيران) الجاري جاء التحول فجائياً وحاداً، والأسوأ إنه حدث من دون أن يترك أثراً على صعيد الاهتمام بغزة وملفها، وأورد تقرير نشرته "رويترز" قبل أيام تعبير عدد من سكان غزة عن القلق البالغ من تجاهل معاناتهم مع تحول التركيز إلى التصعيد الدائر بين إسرائيل وإيران، وجاء في التقرير على لسان أحد السكان قوله إن "الانتباه والاهتمام كله انتقل إلى الحرب بين إيران وإسرائيل، وإن الاهتمام بغزة انحسر كثيراً هذه الأيام".

 

وفي تلك الأثناء وبينما المواجهة محتدمة داخل الحلقة الأحدث من حلقات الصراع في الشرق الأوسط، تمضي الأمور في حرب القطاع رافعة راية "بيزنس كالمعتاد" (Business as usual)، فعداد قتلى القصف أو الاستهداف يعمل كالمعتاد، غارة جوية تقتل 21 شخصاً، وإطلاق نار يقتل 40 شخصاً، وعدد من قتلوا في محاولة الوصول للغذاء منذ تغيير منظومة المساعدات الشهر الماضي بلغ نحو 400 قتيل، والوتيرة تسير ربما بسرعة أقل قليلاً من المعتاد لكنها تسير.

قدر من العيون

واللافت أن الآثار شبه الوحيدة الملموسة لإبقاء ولو "قدر من العيون على غزة" تتمثل في مقالات وتقارير ولقاءات إعلامية تتناول مسائل مثل أثر الصراع الإيراني - الإسرائيلي في سيناريوهات حرب غزة، فالحرب على إيران كشفت هشاشة إسرائيل وإمكان انتصار الفلسطينيين في غزة، والمواجهة بين إيران وإسرائيل كشفت هشاشة إيران وضياع غزة، وهل البرنامج النووي لإيران هو محرك المواجهة الحالية؟ أم أن غزة هي كلمة السر؟ وإسرائيل ترفض تقرير الاتحاد الأوروبي حول غزة وتصفه بـ "المنحاز"، وجداريات الأمل والمقاومة على جدران غزة، ونتنياهو يقول استعادة الرهائن من غزة ستستغرق وقتاً إضافياً، وغيرها من زوايا وأسئلة يبدو وكأنها تتعلق بغزة، لكن يبقى أهل غزة ومصير القطاع وما يجري فيه تزامناً مع المواجهة المثيرة بين إيران وإسرائيل وأميركا، أموراً غائبة بصورة شبه تامة.

المرحلة الحالية من الكابوس

"أتلانتيك كونسيل" أو "المجلس الأطلسي"، وهو مؤسسة بحثية في الشؤون الدولية مقرها واشنطن، طرحت قبل أيام 20 سؤالاً تتعلق بالمواجهة بين إيران وإسرائيل أجاب عنها خبراؤها، والسؤال العاشر يتعلق بالأثر الذي يمكن أن تتركه المواجهة الحالية في فلسطينيي غزة، وقد أجابت الزميلة في "مركز رفيق الحريري والشرق الأوسط" التابع لـ "أتلانتيك كونسيل"، أروى دامون، بأن الخوف يسود غزة من أن تصرف الحرب الإسرائيلية - الإيرانية الانتباه عن الضوء الخافت أصلاً على استمرار تجويع المدنيين وتعرضهم للقتل، مضيفة أنه يخشى أيضاً من أن تؤدي المواجهة الحالية إلى "مزيد من الإفلات من العقاب وتصعيد القصف الإسرائيلي على غزة"، ومشيرة إلى أن بعض سكان غزة ممن تحدثت معهم يشعرون "بالرعب من مستوى الفوضى الذي قد تسببه الضربات الإيرانية، ولا سيما احتمال امتداد هذا الصراع إلى المنطقة، مما قد يسفر عن حرب أطول أمداً داخل غزة"، لكنها تشير أيضاً إلى أن بعضهم يعتقد أو يأمل بأن تسهم هذه المواجهة في "إنهاء هذه المرحلة من الكابوس، مع أنهم لا يعرفون بالضبط ما هي النهاية".

 

وفي المقابل يرى الباحث ورئيس مشروع "إعادة المحاذاة من أجل فلسطين" التابع لـ "أتلانتيك كونسيل" أحمد فؤاد الخطيب أن حركة "حماس" تتخيل أن حرباً إسرائيلية - إيرانية قد تخفف إستراتيجياً بعض الضغط الذي تعانيه في قطاع غزة، وذلك مع إعادة الجيش الإسرائيلي توزيع قدراته الاستخباراتية والهجومية على مسرح العمليات الجديد، ويقول إن "من المرجح أن تحافظ إسرائيل على وتيرة ثابتة من القصف والعمليات البرية ضد أهداف يشتبه في أنها تابعة لـ'حماس' في غزة، كما فعلت منذ بدء الأعمال العدائية مع طهران"، مرجحاً ألا تستفيد الحركة من الحرب الحالية بأي شكل من الأشكال، سواء التكتيكية أو الجيو-ستراتيجية، ومتوقعاً أن يتدهور وضع "حماس" الإقليمي بصورة أكبر بسبب ضعف داعمها الرئيس في طهران.

وتمضي التحليلات والقراءات القليلة المستمرة حول الوضع في غزة، بين تحليل ينحاز إلى الجانب الإسرائيلي وقراءة تميل إلى الجانب الفلسطيني، أما العيون التي كانت كلها على غزة ورفح حتى أسابيع قليلة مضت، فقد نزحت صوب المواجهة الحالية بين إيران وإسرائيل، ويتوقع أن تبقى هناك لحين إشعار آخر، ولتبقى "كل العيون" بعيدة من غزة وأهلها ومصيرها ومصيرهم، مركزة على إيران وإسرائيل وأميركا لحين نهاية المواجهة الحالية، وحتى بعد نهاية الحلقة الحالية من الصراع تبقى عودة "كل العيون" إلى غزة رهينة العمر الافتراضي، بغية الإبقاء على الرأي العام والاهتمام العالمي منصباً على قضية ما، مهما بلغت من مأسوية، وكذلك طول أمد الصراع الحالي والسعة الاستيعابية للمتلقين.

المزيد من تحقيقات ومطولات