ملخص
مسرحية "بايزيد" للكاتب المسرحي الفرنسي جان راسين تستند إلى أحداث "حقيقية" وقعت في الآستانة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية العثمانية نحو عام 1639، وكان سفير فرنسا لدى الباب العالي الكونت دي سيزي، هو الذي روى تفاصيلها لراسين إثر عودته من هناك
من الصعب، طبعاً، اعتبار الكاتب المسرحي الفرنسي جان راسين، واحداً من أولئك الكتاب الاستشراقيين الذين ظهروا في الغرب، في صورة خجولة أول الأمر، ثم بدفق متزايد مع مرور العقود والقرون، ليعبروا في أدبهم - كما عبر الرسامون في لوحاتهم والموسيقيون في مؤلفاتهم - عن افتتان بالشرق وسحره وغموضه، كما - بالتالي - عن الرغبة في الاستحواذ عليه.
راسين كان كاتباً مسرحياً مغرماً بالعصور اليونانية القديمة، وهو كرس معظم مساره المهني لكتابة مسرحيات، تقتبس، وتعيد تفسير الأعمال المأثورة عن اليونانيين. لكنه في الوقت نفسه كان كاتباً شديد المعاصرة في زمنه (القرن الـ17)، كما أنه جعل من مسرحياته - المغرقة في البعد زمنياً - صورة للقيم والأخلاق في موطنه فرنسا. من هنا اعتبرت أعماله دائماً أعمالاً رمزية تستند إلى التاريخ البعيد لتقول الواقع. وقوة استخدام هذا العنصر لقول ما هو حديث، هي التي جعلت راسين يعتبر شكسبير فرنسا. وحسبنا أن نقرأ تحليل رولان بارت لأعمال صاحب "فيدرا" و"أندروماك"، لكي ندرك موطن القوة لدى كاتب يمكن أن نتلمس في المغزى العميق لأعماله نزعة "جانسنية" - معادية للإصلاح الذي حاول أن يجدد في الكاثوليكية - تنكر مبدأ الإرادية الحرة وتركز على الخلاص من طريق العناية الإلهية وحدها.
في هذا الإطار قد يمكننا أن نفهم لجوء راسين إلى تلك الفواجع الإغريقية التي يتحرك فيها القدر - الخارج عن الإرادة البشرية - ليتحكم في مصائر البشر، منكراً عليهم أي ارتكاز إلى إرادتهم الحرة.
مسرحية يائسة ودامية
والحال أن هذا المنطلق يفسر، إلى حد كبير، تلك الرغبة التي استشعرها جان راسين، ذات يوم، في أن يكتب واحدة من أكثر مسرحياته يأساً ودموية. المسرحية الوحيدة التي تدور أحداثها في زمن غير بعيد من زمنه. لكنه، إذ كان اعتاد وضع أحداث مسرحياته في أزمان بعيدة، لم يبتعد هنا كثيراً من تلك الممارسة، إذ أبدل الابتعاد الزمني، بابتعاد في المكان.
نتحدث هنا عن مسرحية "بايزيد" التي تتوسط - زمنياً - العقد في حياة راسين ككاتب، وتستند - إلى حد كبير - إلى أحداث "حقيقية" حدثت في الآستانة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية العثمانية نحو عام 1639، وكان سفير فرنسا لدى الباب العالي الكونت دي سيزي، هو الذي روى تفاصيلها لراسين إثر عودته من هناك. ومن الطبيعي أن يكون راسين وجد في ما رواه السفير، حكاية تصلح لأن يجرب كتابة مسرحية معاصرة، هو الذي كان راغباً منذ زمن طويل في أن يحذو حذو شكسبير، ملهمه الأكبر، ولو لمرة فيقدم موضوعاً معاصراً.
الحقيقة هي أن الأحداث التي ترويها مسرحية "بايزيد" لا تحمل في جوهرها أية خصوصية عثمانية: إنها مسرحية مؤامرات وسلطة وقصور وغدر وحب، من ذلك النوع الذي كان يمكن أن يروى عن أي قصر ملكي في ذلك الزمن الذي كانت فيه الأحداث التراجيدية الكبرى لا تتصور إلا في القصور، ومتمحورة من حول عنصرين أساسيين: السلطة والحب. وفي هذا الإطار تبدو "بايزيد" صالحة بامتياز، مما جعلها دائماً، ومنذ تقديمها للمرة الأولى في باريس أول عام 1672، تعتبر العمل الأكثر تعبيراً عن أقسى درجات الرغبة في الوصول إلى السلطة من ناحية، وأعلى درجات السمو في الحب من ناحية ثانية.
على ذمة الكونت الفرنسي
تروي مسرحية "بايزيد" تلك الحكاية التي قال الكونت دي سيزي إنها حدثت في العاصمة العثمانية، وداخل أروقة الحكم فيها، التي قد تبدو لنا اليوم على ضوء استعادة التاريخ العثماني في التلفزة التركية ومسلسلاتها التي تشهد نجاحات كبيرة، ولا سيما في العالم العربي الذي لا يعرف مسرحية جان راسين على أية حال، حكاية تنتمي إلى ماض أسطوري بصورة أو بأخرى: ونتحدث هنا بالطبع عن الحكاية المتمحورة من حول روكسانا محظية السلطان مراد آمورات وفاتنته، التي حين يكون سلطانها غائباً ذات مرة في معركة يحاصر خلالها بغداد، تفتن، انطلاقاً من إغواء الوزير الأول آكومات، لها، ببايزيد، الشقيق الأصغر للسلطان، الذي كان مأسوراً في القصر ينتظر أن ينفذ فيه حكم إعدام أصدره عليه أخوه السلطان.
كان آكومات يتوخى من خلال تعزيزه للعلاقة بين الأمير الأسير والمحظية الفاتنة، أن يزوجهما ويضع بايزيد على العرش، مما يجعله قادراً على ممارسة قدر من السلطة أكبر بكثير من ذاك الذي يمارسه تحت حكم مراد. تقع روكسانا في غرام بايزيد، ويدعي هذا - للوهلة الأولى - أنه بدوره أغرم بها، مع أنه في الحقيقة كان مغرماً بالحسناء آتاليد، التي تطلع على ما يحدث وتقرر المساعدة على إنقاذ حبيبها لاعبة - تمثيلاً - دور الوساطة بينه وبين عاشقته روكسانا. غير أن هذه الأخيرة تتردد من دون المشاركة في بلورة المؤامرة ضد مراد: إنها تريد أن تتأكد من الأمور بأن يتزوجها بايزيد أولاً، يرفض بايزيد فيستبد الغضب بروكسانا، وتزعم أنها في سبيلها إلى تنفيذ حكم مراد بإعدام بايزيد. هنا ترجو آتاليد هذا الأخير بأن يستجيب ويزعم القبول بزواج روكسانا ريثما يتم إنقاذه، لكن بايزيد لا يريد أن يزعم شيئاً.
اكتشاف الخديعة
في تلك الأثناء تكتشف روكسانا أن آتاليد كانت تخدعها، وأن هذه الأخيرة هي محبوبة بايزيد الحقيقية. هنا تلعب روكسانا لعبتها الكبرى حين - وهي على وشك قتل بايزيد - تقترح عليه أن يتزوجها وأن تعدم آتاليد. هنا يرفض بايزيد ويقول إنه إذا كان ثمة من سيقتل فإنه يفضل أن يكون القتيل هو نفسه. وبالتوازي مع هذا، يعرف الوزير بما يدور، ويغضبه أن تختار روكسانا آتاليد لتجعل منها قرباناً لحبها، فهو نفسه كان مغرماً بآتاليد ولا يريد لها أن تقتل. وهكذا يتحرك آكومات ويحرك رجاله نحو السرايا، لكي يضع بايزيد على العرش بالقوة. ولكن الأوان يكون فات: فروكسانا، إذ يئست تماماً، أصدرت أمرها بقتل بايزيد ونفذ الأمر. لكنها لم تنج بفعلتها، إذ يسارع إلى قتلها موفد السلطان مراد الذي كان - من البداية - على علم بكل ما يحدث. أما آتاليد فإنها، إذ تعلم بمقتل حبيبها، تنتحر، في الوقت الذي سيكون آكومات على وشك أن يبدي آخر ضروب المقاومة، فيما السلطان يعود لعاصمته لتسوية الأمور كلها.
على رغم مناخها الاستشراقي وغرابة ديكوراتها والملابس، اعتبرت "بايزيد" أولاً، وأخيراً، قصة حب. ونظر المبدعون دائماً إلى مزاجها الرومنطيقي، ومن هنا كانت تلك المحاولات الكثيرة التي جرت لتحويلها إلى أوبرا، غير أن النجاح لم يكن حليف المحاولين، بحيث ظل العمل الذي كتبه راسين للمسرح، مرغوباً على هذا النحو. مهما يكن، فإن هذه المسرحية فتحت الباب واسعاً أمام كتاب قلدوها وقلدوا أجواءها دائماً، بحيث صار هناك تراث كامل من مسرحيات تدور أحداثها في قصور الشرق، لكن "بايزيد" ظلت العمل الأفضل في هذا المجال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيرة شكسبير فرنسي
بقي أن نتذكر أن جان راسين نفسه الذي حقق له تاريخ المسرح الفرنسي ما كان هو يتمناه منذ اتخاذه الكتابة المسرحية التراجيدية مساراً له وهو أن يعتبر معادلاً لشكبير، ولكن على الطريقة الفرنسية، كان ويبقى واحداً من أكبر الكتاب المسرحيين الذين عرفتهم فرنسا في عصره، وهو يعتبر واحداً من ثلاثة أسسوا المسرح الفرنسي حقاً، إلى جانب موليير وكورناي. وهو ولد عام 1639 في قرية صغيرة تقع قرب مدينة سواسون غير البعيدة من باريس. ونشأ راسين يتيم الأب والأم في أحضان الجانسينيين الذين ظل متأثراً بأفكارهم حتى حين حرر نفسه منهم. وهو كتب أعظم أعماله بين عام 1666 و1677 وأكثرها مستقى من التراث الإغريقي - الروماني، ومنها "أندروماك"، و"إيفجيني" و"فيدرا" و"برتنانيكوس" و"بيرينيس"، كما كتب أعمالاً مستقاة من العهد القديم. أما الموضوع الأساس الذي هيمن على كتابته ككل فكان الجنون الأعمى للعاطفة، والإخفاق الذي هو من نصيب الجنس البشري في نهاية الأمر. وراسين رحل في عام 1699 مكللاً بالمجد، كواحد من كبار المتعمقين في دراسة أخلاق البشر وتصرفاتهم من خلال مسرحه.