Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فضاء فاتن لـ"عروبة" تبناها أمين الريحاني في قلب جبل لبنان

متحف صاحب "ملوك العرب" و"في قلب لبنان" يربط العروبة الحقيقية ببعدها الثقافي

متحف الريحاني في قلب منطقة المتن اللبنانية (موقع المتحف)

ملخص

المحفوظات التي يعرضها متحف أمين الريجاني في جبل لبنان لا تميز بين تاريخ وتاريخ، إذ فيها يستوي "تاريخ نجد" مع تاريخ الأندلس و"قلب لبنان" مع "قلب العراق"

قبل عقود قليلة من الآن، وفي مرحلة شاءت الظروف السياسية والقصور العربي العام لمصر أن تقبع في منأى عن معظم أنحاء العالم العربي، ولا سيما المشرقي منه، حيث كانت السيادة والكلمة الفصل لما سمي بـ"الصمود والتصدي" كإرهاص بشتى أنواع الممانعات التالية. بدت المحروسة، ولا سيما بالنسبة إلينا نحن معشر الذين كان ارتباطنا بالقاهرة يفوق ارتباطنا بمدننا التي ولدنا أو نعيش فيها، بدت شديدة البعد منا، مما أحزننا حقاً وجعل كثراً منا يشعرون بقدر من الفقدان كبير.

في تلك المرحلة وحين انفرط حتى عقد الجامعة العربية الواهي في حد ذاته أصلاً، تمكن رجل بمفرده هو الدكتور جابر عصفور من التعويض عن ذلك الفقدان ولو بصورة رمزية وشديدة النخبوية، تحديداً من خلال تسلمه مقدرات واحد من أهم الصروح الثقافية في القاهرة: الصندوق القومي للثقافة، وبفضل مبادرات شتى، حرص عصفور على جعله نوعاً من مجمع لنخبة المثقفين العرب، ممانعين كانوا أم غير ذلك، يلتقون في مناسبات متنوعة، يمكن أن يكون هو نفسه افتعل بعضها لمجرد أن يبقى في العاصمة المصرية، ذلك الفضاء العربي الجامع إلى درجة أن ابتكرنا له اسماً بدا بالنسبة إلينا بدهياً، لكنه أثار استغراب كثر وهو "بيت العرب"، إذ تحول المبنى المتواضع الواقع في إحدى زوايا الصرح الأوبرالي القاهري المدهش إلى صرح ثقافي وحضاري كبير حل محل جامعة الدول العربية، وصار مقصدنا ومآلنا في قاهرة المعز، وظل كذلك حتى اليوم، مما أمن تواصلاً لنمط حضاري من العروبة يقوم على أرضية ثقافية صلبة، عمل عصفور ومن تلاه من مسؤولين عن الهيئة نفسها، ولا سيما الراحل علي أبو شادي، والمثقف الكبير عماد أبو غازي، على دعمها وتعزيزها، ولا سيما بعد أن تفرع عنها المركز القومي للترجمة، الذي أصدر ألوف الترجمات آتية إليه من شتى أنحاء العالم العربي.

في الجبل اللبناني

كاتب هذه السطور، الذي واكب تجربة جابر عصفور الرائدة، وشارك فيها على غير صعيد، الذي كتب عنها في حينه وربط بينها في مناسبة أخرى ومجال آخر، بتجربة تقل عنها حجماً لكنها لا تقل عنها أهمية، تتعلق هذه المرة بالنشاط الثقافي العربي المشابه الذي قامت به الشيخة مي آل خليفة في البحرين، سواء من خلال تسلمها مقدرات الثقافة في هذا البلد، أم من خلال مشروعها الخاص المتمثل في "مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة". كاتب هذه السطور لم يكن في إمكانه إلا أن يستذكر تجربة جابر عصفور، وفي سياقها تجربة مي آل خليفة، قبل أيام حين أتاحت له ظروف معينة أن يزور للمرة الأولى متحف أمين الريحاني في مسقط رأس هذا الأخير، قرية الفريكة في قلب الجبل اللبناني في منطقة المتن. والحقيقة أنه لا بد لنا في مستهل الحديث عن هذا الصرح، أن نشير إلى ما يميز ذلك المتحف الريحاني، ومن خلال بيئته التي يقيم فيه بصورة خاصة. فالبيئة مسيحية لبنانية خالصة، أي تنتمي إلى قسم من الشعب اللبناني تبدو العروبة وكأنها ليست هماً من همومه، حتى وإن كان لتاريخه سمات تقدم أخرى يمكن ربطها بفكر اشتراكي عريق يمتد من عامية طانيوس شاهين إلى ما تكشفت عنه الحرب اللبنانية التقسيمية منذ سنوات الـ70 من القرن الـ20، من كونه بيئة تحتضن فكراً تقدمياً عريقاً يقوم على النقابات والنضالات السياسية، وما شابه ذلك من علامات تتعلق بتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني قبل قرن من الزمن فيه، وتحديداً على أيدي مناضلين مسيحيين.

في مقابل هذا لم تشتهر منطقة المتن بتفاعلها مع العروبة، أو في الأقل بدت لنا الأمور دائماً على ذلك النحو، في الأقل حتى "اكتشافنا" متحف أمين الريحاني قبل أيام، أي بعد أكثر من 70 عاماً من تأسيس هذا المتحف، وذلك بكل بساطة لأن متحف الريحاني ليس سوى فضاء حقيقي للعروبة في تلك المنطقة من العالم.

العروبة بالمعنى الحضاري

طبعاً يمكن للمرء أن يكتب صفحات متغنياً بجمال المنطقة التي أقيم المتحف فيها، ويمكن له أن يطرب ساعات وساعات، فيما المشرف على المتحف والأمين على تراثه ويدعى على أية حال أمين البرت الريحاني، أي أنه الجامعي والباحث ابن شقيق أمين الريحاني الكبير، وهو يتبرع بالتجوال بكبار الزائرين بين "أجنحة" المتحف، مستعيداً في ذاكرته الفذة من جلس هنا أو تجول هناك أو تمتع بجمال مشهد الوادي الرائع، حيث جلست مي زيادة يوم استضافها الريحاني الكبير أو وقف يتأمل وهو يزور الدار الريحانية، أكان هذا الكبير أو ذاك من أدباء العربية ومبدعيها، غير أن تلك الاستعادة تتضاءل لتصبح مجرد ذكريات غابرة أمام ما هو أكثر حضوراً في ذلك الفضاء التاريخي الفكري الأدبي. الفضاء الذي يعكس حقاً ما كانه صاحب "ملوك العرب" و"الريحانيات"، ذلك المفكر والأديب الكبير الذي إلى جانب إبداعاته الروائية والشعرية، بالعربية والإنجليزية، راح يتجول في الديار العربية يستكشف هذا الحيز منه ويؤكد العلاقة بين جانبين آخرين، وهمه أن يدعو من خلال نشاطه الذي تواصل من دون كلل أو ملل، وعلى رغم المناوئين المغرضين حياة بأسرها كرسها إن لم يكن لوحدة سياسية عربية، فعلى أية حال، لإيمان جامع بوحدة ثقافية عربية اعتبرها وراح يقنع الآخرين بكونها عنصراً أساساً يجمع العالم العربي من أقصى غربه كما في كتابه عن "المغرب الأقصى"، إلى شرقه كما في كتابه "قلب العراق" بل حتى كتاباته عن الأهواز التي يكاد يكون مكتشف عروبتها الأول في القرن الـ20، وذلك تحديداً من خلال حواراته مع زعيم عشائرها الشيخ خزعل، وهي حوارات فريدة من نوعها، لكنها تتواصل على أية حال مع تلك الحوارات التي تملأ كتابه الأساسي "ملوك العرب" ورسائله إليهم، وهي رسائل تهيمن عليها أفكار تقدمية وإنسانية لا ريب أنها تدور جميعاً من حول فكرة العروبة الحضارية التي حملها الريحاني، وراح يدور بها عارضاً إياها على ذوي الشأن من مثقفين وسياسيين وصولاً إلى الملوك العرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بحثاً عن عروبة حقيقية

والحال أن متحف الريحاني بمساحته الضيقة نسبياً، يمكنه أن يقول لنا هذا كله من خلال تلك التفاصيل الصغيرة التي يحدثك عنها القائم عليه الذي يعتبر نفسه ملكاً لاسمه الكبير ولعمه وفكر عمه، فيغوص في تفاصيل التفاصيل، ولا سيما ذات الدلالات الفكرية التي ترشح على أية حال من مئات الكتب والهدايا والسيوف والصور الفوتوغرافية وتلك المرسومة بالألوان الزيتية أو المائية، وتمثل شخصيات رسمها الريحاني الكبير لمحدثيه أو رسمها هؤلاء له أو أمروا فنانيهم بذلك.

وفي تلك المحفوظات لا يعود ثمة فارق بين تاريخ وتاريخ، إذ هنا يستوي "تاريخ نجد" مع تاريخ الأندلس و"قلب لبنان" مع "قلب العراق" وسيف الملك ابن سعود (المهدى من الملك نفسه إلى الريحاني عربون صداقة ووفاء)، مع سيف حميد الدين إمام اليمن. كما تتجاور الثورة الفرنسية مع تذكارات على شكل غلايين وعصي وسرير كان الريحاني ينام عليه، وكرسي كان يقتعده حين يكتب، وطبعات أولى من كتبه روائية كانت أم مفتتحة للشعر الحر، أم شارحة لمفاهيم القومية "عل الملوك والأمراء يتبنونها في سبيل تفاهم عربي مشترك"، من دون أن يفوته حديث "النكبات" وأمور "التطرف والإصلاح"، هذا إن اكتفينا هنا بذكر مؤلفاته العربية علماً بأن لمؤلفاته الإنجليزية وغالباً في طبعاتها الأولى، مكاناً أثيراً في المتحف لا يوجد بعيداً من لوحات زوجة الريحاني التي كانت فنانة بدورها، لا تبرح الدموع عيني الريحاني الأمين على متحف الأمين وعلى ذكراه، وهو يحكي لنا كيف أنها وهي التي توفيت بعد سنوات طويلة من رحيل زوجها (توفي عام 1940 عن 64 سنة بحادثة دراجة هوائية تتفاقم دموع ابن الأخ، وهو يروي تفاصليه وكأنه حدث قبل أيام)، فطلبت أن يدفن رماد جثمانها في قبر زوجها على بعد مسافة يسيرة من ذلك المتحف، الذي بقدر ما هو تذكار لأمين الريحاني يجثم وسط طبيعة لبنانية خلابة ليحسد فكرة العروبة الحضارية وليس الإيديولوجية، كما حملها أمين الريحاني (1876 – 1940) طوال حياته القصيرة والغنية ونادى بها، ودائماً من خلال الأدوات والصفحات والرسائل واللوحات التي تحافظ على فكرته عنها، وربما في آخر مكان يمكن تصور وجودها فيه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة