ملخص
إيلون ماسك، الذي ارتبط في بدايات ولاية ترمب بعلاقة وثيقة بالرئيس، يجد نفسه اليوم يدفع ثمناً باهظاً لهذا التحالف، بعدما تراجعت أسهم "تيسلا" وتزايدت الضغوط من المساهمين في ظل تعارض سياسات ترمب مع مصالحه التجارية وتدهور صورته العامة.
في لحظة، تكون الرجل الأكثر ثراءً في العالم، عبقرياً، و"ملك التكنولوجيا"، كما يحلو لك وصف نفسك، في مقدورك إعادة صاروخ من الفضاء وتثبيته على منصة الهبوط كما لو كنت تركن سيارة في مرأب، ثم في غمضة عين، تجد المحتجين يقاطعون منتجاتك، وأسهم شركتك تهوي.
إيلون ماسك، الذي طالما بدا، عن جدارة لا مبالغة، أحد أسياد الكون، يظهر لك على حين غرة إنساناً عادياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ظن أنه قادر، بسهولة ودونما أية تبعات، على إضافة دور جديد إلى أدواره الكثيرة الحالية عبر توليه منصباً في إدارة دونالد ترمب، لكن المصير الذي آل إليه اليوم ليس سوى ثمرة غروره. أو لنقل في إشارة إلى أسطورة قديمة لا ريب أنه يعرفها جيداً بحكم شغفه بالسفر عبر المجرات، إنه إيكاروس القرن الـ21 [في الميثولوجيا اليونانية]، الذي اقترب كثيراً من الشمس ظناً منه أنها لن تؤذيه، فما كان إلا أن هوى صريعاً [عندما أذابت أشعة الشمس الشمع المثبت لجناحيه].
معلوم أن ماسك قدم لحملة ترمب الانتخابية الرئاسية 250 مليون دولار، وهو مبلغ زهيد قياساً بثروة الملياردير، ولكنه كافي لاستمالة الرئيس وجذب انتباهه ووده. أوحى ماسك لصديقه الجديد، "الصديق الأول" [شبهاً بالسيدة الأولى]، بأنه قادر على تقليص الموازنة الفيدرالية الأميركية بضربة قلم، مستأصلاً الهدر وقدراً كبيراً من مظاهر التقدمية المفرطة المرتبطة بثقافة "اليقظة" أو "ووك" ما سيؤدي حسب زعمه، إلى انتعاش مالي مذهل، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. صحيح أنه كان مسؤولاً عن تسريح الآلاف من وظائفهم، ولكن حملته العنيفة في تطهير المؤسسات لم تترك أثراً يذكر على الإنفاق العام. وفي غمرة هذه العملية، بات شخصية مكروهة، ورمزاً لنهج اللامبالاة والانفلات الذي يجسده رئيسه. ورافق ذلك أيضاً اضطراره إلى تجرع بقية أيديولوجية ترمب، على رغم تعارضها التام والواضح مع مصالحه التجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعتمد سيارات "تيسلا" المملوكة لماسك على قطع غيار ومواد مستوردة من الخارج. وقد وجه ترمب انتقادات حادة لهذه الصناعة، ولاعتمادها على سلاسل التوريد العالمية المتشابكة، فارضاً عليها رسوماً جمركية باهظة. والمعلوم أن هذه السيارات كهربائية، في حين أن ترمب من أشد المؤيدين للوقود الأحفوري.
في نظر ترمب، أزمة المناخ ليست سوى فكرة من اختراع النخبة الليبرالية المثقفة التي يضمر لها كراهية شديدة. لذا، يرغب في إلغاء الإعفاءات والحوافز الضريبية الممنوحة للسيارات الكهربائية. وبينما يسعى ماسك إلى استقطاب أفضل العقول العلمية في العالم، مهما كانت البلدان التي ينتمون إليها، نجد أن الرئيس الأميركي، على النقيض، قد شن حملة صارمة ضد الهجرة إلى بلاده، وضد منح التأشيرات.
أعرب ماسك عن استيائه، لكن أحداً لم يعره انتباهاً. وتسربت أنباء عن توترات وخلافات تسري في أروقة السلطة في واشنطن، لكن ما كان ينبغي له أن يفاجأ. أن تكون رئيساً يعني أن تنشغل بالأمور الكبرى، لا سيما إذا كنت ترمب. تلقى ماسك صدمة قاسية، أيقظته على حقيقة أنه، على رغم إنجازاته وثروته وكفاءته التي لا يشق لها غبار، يبقى مجرد عنصر ثانوي في آلة جبارة. في الحقيقة، السياسة مجال لا يرحم، ولا أحد يتقن التهكم والسخرية السياسية أكثر من ساكن البيت الأبيض المتعجرف والمتمسك بالمصلحة الذاتية.
إذاً، عاد ماسك إلى عمله اليومي، لكنه سيجد الوضع مختلفاً تماماً عما كان عليه عندما غادر، أو لنقل تحديداً، منذ اللحظة التي توقف فيها عن إعطائه كامل اهتمامه. تراجعت أسهم "تيسلا" بأكثر من 24 في المئة منذ بلغت ذروتها في ديسمبر (أيلول) 2024، وانخفضت مبيعات سياراتها الكهربائية بنسبة 13 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. في الوقت نفسه ترتفع الدعوات المطالبة بتصفية استثمارات الشركة في أوروبا والولايات المتحدة، "تيسلا" التي طالما احتلت مركز الريادة في سوق السيارات الكهربائية، والتي أحدثت ثورة جذرية في صناعة السيارات العالمية عموماً، تواجه الآن منافسة شرسة، فقد لحق بها مصنعون آخرون بسرعة، خصوصاً من الصين. وعلى شركة ماسك أن تواصل الابتكار واستحضار نماذج قادرة على الإنتاج وتحقيق مبيعات كبيرة، وإلا فإن سحر "تيسلا" سيتلاشى.
تعرضت صالات عرض "تيسلا" لهجمات واحتجاجات، وأعلن مساهمو الشركة أن صبرهم قد نفد. بعدما كانوا يثنون على ماسك ويتغاضون عن كل تصرفاته غير المرغوبة، بما في ذلك تجاهله القواعد المعتادة لحوكمة الشركات، ها هم يسعون الآن إلى التغيير. وفي خطوة علنية للتحدي والتمرد، يطالبونه بتكريس 40 ساعة من وقته أسبوعياً للعمل في "تيسلا".
ينطوي طلبهم على سخرية مقصودة، إذ إن ماسك نفسه صرح سابقاً بأنه يتوقع من موظفي الدولة العمل 40 ساعة أسبوعياً كحد أدنى، لكن المشكلة التي يواجهها المستثمرون أن ماسك ليس عاملاً عادياً، وأسبوعه بعيد تماماً من شكل أسبوع العمل المعتاد. إنه يعمل نحو 80 ساعة أسبوعياً، بل وصل عدد ساعات عمله إلى 120 ساعة بعد استحواذه على منصة "إكس" ("تويتر" سابقاً) والمباشرة بمساعدة ترمب. في الواقع، يتولى الملياردير إدارة أربع شركات كبرى ومؤسسة خيرية.
حتى من دون منصبه في إدارة ترمب، يبقى ماسك، بكل المقاييس، منغمساً في مسؤوليات متشعبة وعدد كبير من الالتزامات والمهام والمشاريع. كثير من المنظمات تتطلب توجيهاً دقيقاً، "تويتر"، المعروفة الآن بمنصة "إكس"، تتخلف عن اللحاق بركب منافسيها، فقد خسرت 11 مليون مستخدم في أوروبا وحدها. وواجهت "ستارلينك" حالات إلغاء للعقود في كندا والمكسيك. أما "سبيس إكس" فتخضع لتحقيقات رسمية. وكل هذه المحن تحدث، على رغم أن الشركات، إلى جانب مشروعه المبتكر "نيورالينك" Neuralink لزراعة الشرائح الدماغية، بدت ذات يوم كأنها ضمن أولى الجهات المستفيدة من وصول ترمب إلى سدة الرئاسة.
ولما كان ماسك يملك قدرة كبيرة على التنقل السلس بين مشاريعه المختلفة، ليس مستبعداً أن يعود إلى الواجهة بقوة، ولكنه لم يقطع صلاته بترمب تماماً، إذ يقول إنه سيستمر في تخصيص يوم أو يومين للعمل في الشأن الحكومي، "ما دام الرئيس يرغب في ذلك".
بدهائه السياسي يجيد ترمب استباق العثرات المحتملة. إنه شخصية حذرة تحسب خطواتها بدقة وتتأمل في عواقبها. وعلى رغم الخلافات بينه وبين ماسك في بعض القضايا، من شبه المؤكد أنه يفضل وجود هذا الملياردير البارز، والواسع النفوذ، ذو الحضور الإعلامي الطاغي، في صفه. كذلك يريد أن ينعم ببريق الإنجازات المستقبلية التي سيحققها ماسك. لذا، من المتوقع أن ماسك، على رغم اتساع الفجوة بينهما، لن ينسحب تماماً من الشأن الحكومي في الوقت الراهن، وفق تصريحاته.
في ظل هذه المسؤوليات الجسيمة، كيف يَسَع ماسك المذهل، الذي يظل أولاً وأخيراً إنساناً، أن يدير وقته بما يتماشى مع مطالب مساهمي "تيسلا"؟ قلما نجد رئيس شركة يتحمل عبئاً مماثلاً من المهام.
يبرز هنا السؤال: إلى متى سيتسامح المساهمون مع هذا الوضع. عندما كانت الأمور تسير بسلاسة وانسيابية، كانوا مستعدين، بل وسعداء، بمنح ماسك بعض التساهل، ولكن مع تصاعد المشكلات وتراكمها، بدأوا يفقدون هذه المرونة. لذا، تسلط رسالتهم الضوء على مخاوف متصلة بحوكمة الشركة، وتتساءل عما إذا كان لديه خطة جاهزة لخلافته. شركات أخرى تضع مثل هذه الخطط، فلماذا لا تحذو "تيسلا" حذوها؟
كذلك يبرز سؤال حاسم آخر، يقلص ماسك من تدخله الحكومي، والمتوقع في هذه الحال أن يتوقف العداء تجاهه وتجاه علاماته التجارية، ولكن هل سيتوقف فعلاً؟ ستتوقف الاحتجاجات المنظمة، ولكن في الذاكرة الجمعية سيظل ماسك مرتبطاً إلى الأبد بالفترة الأولى من ولاية ترمب الثانية، المتسمة بالفوضى والاستعراض الصاخب، وأحياناً بالعدائية والعنف. ربما لا يسارع المستهلكون إلى شراء منتجاته. وربما يكون الضرر قد وقع، والأوان قد فات.
كانت الأمور حيناً تمضي على نحو جيد، ولكنه أراد ما فوق الكفاية. والنتيجة هي أن قصة ماسك المعاصرة تنطوي على عبرة واضحة.
© The Independent