ملخص
مقترح تأجير أماكن في سجون بلدان أخرى، بما في ذلك دول أوروبا الشرقية، يعود أساساً إلى اقتراح رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كانت قد تحدثت سابقاً عن ضرورة نقل هؤلاء السجناء إلى الخارج مدة تراوح ما بين عام وثلاثة أعوام، قبل ترحيلهم نهائياً إلى بلدانهم الأصلية.
في خطوة مثيرة للجدل وتعكس تعقيدات ملفي الهجرة والجريمة في فرنسا، تدرس السلطات مشروعاً يقضي بنقل السجناء الأجانب وغير معروفي الجنسية إلى سجون خارج البلاد، يرجح أن تكون في دول أوروبا الشرقية، في ظل سياق سياسي متوتر يتزامن مع تصاعد خطاب اليمين المتطرف، مما يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية والدوافع الكامنة وراء هذا التوجه.
ووفقاً لدراسة نشرت في يونيو (حزيران) 2024 من قبل مجلس أوروبا، تعد فرنسا من بين أكثر الدول الأوروبية تضرراً من ظاهرة الاكتظاظ السجني، إذ تحتل مرتبة متقدمة ضمن أسوأ البلدان في هذا المجال.
وتواجه فرنسا أزمة متصاعدة في اكتظاظ السجون، إذ تسجل معدلات إشغال قياسية تشهد ارتفاعاً مستمراً، فاعتباراً من الأول من أبريل (نيسان) الماضي، بلغ عدد السجناء 82921 شخصاً، في حين لا يتجاوز عدد الزنازين المتوفرة 62358، مما يعني كثافة سجنية تصل إلى 133 في المئة.
وفي الأول من مارس (آذار) الماضي، كشف وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان عن إحصاءات مقلقة أظهرت أن معدل إشغال السجون بلغ 130.8 في المئة خلال فبراير (شباط) الماضي، وهو أعلى مستوى يسجل حتى اليوم. والأسوأ من ذلك، أن 18 مؤسسة أو جناحاً سجنياً سجلت معدلات إشغال بلغت أو تجاوزت 200 في المئة، في مؤشر صارخ على عمق الأزمة التي تعانيها المنظومة العقابية في البلاد، ويدفع السلطات إلى البحث عن حلول غير تقليدية، من بينها ترحيل السجناء الأجانب إلى خارج البلاد.
وعلى رغم ذلك، تبقى فكرة نقل السجناء واستئجار زنازين في دول أخرى مسألة معقدة من الناحيتين السياسية والقانونية. فمنذ عام 1980، عرف قانون السجون الفرنسي تطوراً ملحوظاً جعله من أكثر التشريعات شمولاً مقارنة بالأنظمة الأوروبية الأخرى، مما يجعل تطبيقه خارج الأراضي الفرنسية أمراً بالغ الصعوبة، إذ يكفل هذا القانون للمحتجزين حقوقاً أساسية مثل الحق في العمل والمشاركة في الأنشطة ومواصلة التعليم، وهي شروط قد يصعب توفرها بالمعايير نفسها في سجون البلدان المرشحة لتنفيذ هذا المشروع.
وفي هذا السياق، وجهت انتقادات إلى الرئيس إيمانويل ماكرون لعدم التزامه تعهده الذي أعلنه عام 2017 بإنشاء 15 ألف مكان إضافي في السجون. وقد ذكره رئيس بلدية بيزييه، روبير مينار، بأن "فقط 5 آلاف مكان أُنشئت"، في إشارة إلى تقاعس الحكومة عن بلوغ الهدف المعلن. ورد ماكرون بالتعبير عن دعمه فكرة استئجار أماكن في سجون أجنبية إذا اقتضت الحاجة.
وتعمل المديرية العامة لإدارة السجون، بالتنسيق مع المديرية العامة للشؤون الجنائية والعفو، على دراسة الإطار القانوني الذي يمكن أن يسمح بتنفيذ عملية نقل السجناء الأجانب، سواء ضمن القوانين الحالية أو عبر تشريع جديد إن لزم الأمر. وتستوحي هذه المبادرة من التجربة الدنماركية، التي رحلت عدداً من نزلائها إلى كوسوفو.
أداة بيد اليمين ومأزق قانوني
يرى الصحافي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي، حسين الوائلي، أن قرار الحكومة الفرنسية نابع من اعتبارات أمنية واقتصادية متداخلة. فعلى الصعيد الأمني تفتقر السلطات إلى بيانات دقيقة حول هؤلاء الأفراد، ولا تملك تصوراً واضحاً عن علاقاتهم المحتملة مع شبكات الجريمة المنظمة أو التهريب، كذلك يخشى أن يتحولوا إلى أدوات بيد جماعات إرهابية تنشط خارج الأراضي الفرنسية أو الأوروبية.
في ما يتعلق بما إذا كانت الظروف الإنسانية لهؤلاء السجناء ستؤخذ في الاعتبار، يؤكد الوائلي أن ذلك غير وارد، لأن هؤلاء الأشخاص خرقوا القواعد الأساسية للإقامة في الدولة، إذ يعيشون فيها من دون أوراق قانونية، ومن هذا المنطلق، يُتعامل معهم كأشخاص خارجين عن إطار القانون والدولة، ولا تنطبق عليهم المعايير القانونية المعتادة.
لهذا السبب، غالباً ما تتعامل الحكومة الفرنسية والحكومات الأوروبية مع هؤلاء على أنهم يشكلون خطراً جدياً وداهماً على الأمن العام. وعند اتخاذ قرار الترحيل، لا تراعى عادة الاعتبارات الإنسانية، لأن هذه الدول فرنسا وأوروبا عموماً تعتمد في هذه الإجراءات على اتفاقات موقعة مع الدول التي ينتمي إليها هؤلاء الأشخاص.
وفي بعض الحالات، قد تمارس الحكومات الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، ضغوطاً على هذه الدول من خلال فرض عقوبات أو استخدام أدوات ضغط دبلوماسية من أجل إلزامها قبول مواطنيها المرحلين، وقد حدث هذا مع عدد من الدول مثل بنغلاديش وأفغانستان. أما في الحالة السورية فقد أبدى الأوروبيون نوعاً من القبول مقابل تخفيف العقوبات عن الحكومة السورية الانتقالية، وذلك في سبيل إقناعها بقبول المرحلين من السوريين كمثال على هذه السياسة.
يوضح الوائلي أن التعامل مع هؤلاء الأشخاص لا يشهد تبايناً، لأن الغالبية منهم ينتمون إلى دول تعاني فرنسا خلافات سياسية وأمنية معها، مثل الجزائر والمغرب. ويعد أحد أبرز عناصر الخلاف القائم اليوم هو رفض بعض هذه الدول استقبال رعاياها المرحلين، حتى وإن كانوا يحملون جنسياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا فإن المسألة لا تتعلق بتفاوت في المعاملة، بل ترتبط بوجود مفاوضات جارية بين فرنسا وهذه الدول، تستند إلى اتفاقات أمنية تهدف إلى تنظيم عمليات إعادة هؤلاء الأفراد. ويشير أيضاً إلى أن الرأي العام الفرنسي منقسم، لكن الأغلبية تؤيد الترحيل، بخاصة إذا اعتبر هؤلاء الأشخاص مصدر خطر على المجتمع.
يشير الوائلي إلى أن هذا الموقف يعد أحد العوامل التي أسهمت في صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، إذ تستخدم هذه التيارات ملف السجناء أو المهاجرين المتورطين في جرائم كورقة ضغط سياسية. وبحسب الصحافي، لا يحظى هؤلاء بتعاطف شعبي كبير، باستثناء بعض المؤسسات الحقوقية التي ترفع شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، على رغم أن هذا الملف في رأيه لا يدار من منطلق حقوقي، بل يُتعامل معه خلف الكواليس، عبر اتفاقات سرية بين الدول الأوروبية ودول المنشأ.
يوضح الوائلي أن مقترح تأجير أماكن في سجون بلدان أخرى، بما في ذلك دول أوروبا الشرقية، يعود أساساً إلى اقتراح رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كانت قد تحدثت سابقاً عن ضرورة نقل هؤلاء السجناء إلى الخارج مدة تراوح ما بين عام وثلاثة أعوام، قبل ترحيلهم نهائياً إلى بلدانهم الأصلية.
وأوضح أن إيطاليا سبق أن نفذت عملية ترحيل لفئة من السجناء المهاجرين إلى ألبانيا، إلا أن هذه الفكرة لم تكلل بالنجاح، ويعود ذلك إلى أسباب وعقبات قانونية.
وأكد في الوقت ذاته أن هذه المشاريع السياسية تقترح أساساً من قبل الأطراف والحكومات اليمينية المتطرفة، مشيراً إلى أن محكمة العدل الأوروبية هي التي تحول دون تنفيذ مثل هذه المخططات.
انتقادات لكلفتها العالية
وصفت عضو المرصد الدولي للسجون، المحامية جولييت مورو، هذه الخطة بأنها "فكرة جذابة لكنها غير واقعية". ونوهت بالأعباء المالية الكبيرة الناجمة عن عمليات نقل وتحريك السجناء بين الدول، والتي تتطلب موارد ضخمة تضاف إلى الموازنات المخصصة للقطاع العقابي، من دون تحقيق فوائد ملموسة تبرر هذه النفقات.
كذلك أكدت مورو أن تطبيق هذه الخطة يؤدي إلى انقطاع تام بين المحتجزين في الخارج وبيئتهم الأصلية. وأوضحت أن هذه السياسة تفتقر إلى إجراءات حقيقية لدعم إعادة إدماج هؤلاء السجناء في المجتمع بعد انتهاء فترة احتجازهم، إضافة إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، مثل حق استقبال الزيارات العائلية التي تعد ضرورية للحفاظ على الروابط الأسرية وتوفير الدعم النفسي.
واستعرضت جولييت مورو تجربة بروكسل بين عامي 2010 و2016، حين استأجرت بلجيكا سجن تيلبورغ في هولندا القريبة من الحدود، وبدأ نقل السجناء في فبراير 2010. وأوضحت أن هذه العملية تسببت في كلف باهظة، إذ خصصت الحكومة البلجيكية 300 مليون يورو لهذا الاستئجار، إضافة إلى أن نقل السجناء لحضور جلسات محاكمتهم في بلجيكا كان "مكلفاً للغاية".
وفي هذا السياق، يجب تنفيذ خطة فرنسا لنقل السجناء الأجانب وعديمي الجنسية إلى خارج البلاد ضمن إطار قانوني واضح، يستند إلى المعاهدات الدولية المعترف بها، وبخاصة اتفاق مجلس أوروبا لنقل الأشخاص المحكوم عليهم الذي صدقت عليه فرنسا عام 1985. ويسمح هذا الاتفاق بتبادل السجناء بين الدول بشرط ضمان توفير ظروف احتجاز متكافئة تحترم حقوقهم الإنسانية والأساسية.
أغلبية الفرنسيين تؤيد الفكرة
أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز معهد الدراسات التسويقية والرأي العام لمصلحة وسائل إعلام خاصة أن 52 في المئة من المشاركين يؤيدون تأجير أماكن في السجون خارج البلاد كوسيلة لمواجهة مشكلة الاكتظاظ في السجون المحلية.
وتوضح النتائج أن 53 في المئة من الرجال يؤيدون فكرة نقل السجناء إلى خارج حدود البلاد، مقابل 50 في المئة من النساء اللاتي يشاركنهم الرأي.
وبالنسبة إلى الفئات العمرية، تظهر نسب التأييد توازناً نسبياً: إذ تبلغ نسبة الموافقة بين الفئة العمرية من 25 إلى 34 سنة 45 في المئة، وتصل إلى 50 في المئة بين الفئة من 35 إلى 49 سنة، وترتفع إلى 55 في المئة بين الأشخاص الذين تراوح أعمارهم ما بين 50 و64 سنة، في حين تنخفض إلى 47 في المئة فقط بين من تجاوزوا 65 سنة. أما الفئة العمرية بين 18 و24 سنة فتمثل استثناءً واضحاً، إذ أبدى 71 في المئة منهم تأييدهم لتأجير أماكن في السجون بالخارج، وهي من أعلى النسب التي سجلها هذا الاستطلاع.
في ضوء الآراء السياسية، يظهر انقسام واضح بين اليسار واليمين، إذ يؤيد 41 في المئة من اليساريين تطبيق هذا المقترح، منهم 25 في المئة من ناخبي حزب فرنسا غير الخاضعة و50 في المئة من الحزب الاشتراكي، و39 في المئة من حزب الخضر. أما المؤيدون لليمين، فيبلغ معدل تأييدهم 62 في المئة، منهم 63 في المئة من ناخبي حزب الجمهوريين، و68 في المئة من الأشخاص الذين يصوتون لحزب التجمع الوطني.
ضرورة التوازن في سياسات السجون والهجرة
في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها فرنسا في مجالي الأمن والهجرة، لا يمكن إنكار الدور الحيوي الذي تضطلع به الدولة والأجهزة الأمنية في حماية المجتمع والحفاظ على النظام العام. يصبح البحث عن حلول مبتكرة لمعالجة أزمة الاكتظاظ في السجون أمراً ضرورياً، لا سيما مع تزايد أعداد المحتجزين من الأجانب وعديمي الجنسية.
ومع ذلك، يجب أن تنفذ هذه الإجراءات ضمن إطار قانوني واضح يحترم القوانين الدولية والحقوق الأساسية للمحتجزين، ويضمن توفير ظروف احتجاز إنسانية تتيح إعادة إدماجهم بشكل فعال في المجتمع. فالنجاح الحقيقي لأية سياسة عقابية لا يقاس فقط بفرض النظام، بل بمدى احترامها الكرامة الإنسانية، مما يسهم في تعزيز الأمن والاستقرار على المدى الطويل.
في النهاية، على الدولة أن توازن بين متطلبات الأمن وحماية حقوق الإنسان، بحيث لا يتحول ملف السجون والهجرة إلى مجرد أداة في لعبة السياسة، حيث تعاد صياغة السياسات الوطنية تحت ضغط الملفات الأمنية والاجتماعية على حساب حقوق الإنسان والكرامة.