ملخص
تعاني بريطانيا ضعفاً كبيراً في منظومتها الدفاعية خصوصاً في مواجهة التهديدات الروسية غير التقليدية، مثل الهجمات السيبرانية والتخريب. إن غياب الاستعداد الجدي قد يجعل المملكة المتحدة هدفاً سهلاً في حال تصاعد المواجهة مع موسكو.
بدأت الحكومة البريطانية تدرك، أخيراً، التهديد المتزايد لهجوم مباشر من أعداء الخارج، والفجوات الهائلة في دفاعات البلاد عند التعامل مع مثل هذه التهديدات. فقد بات من الواضح تدريجاً خلال الأعوام القليلة الماضية أن الحرب لم تعد أمراً يقتصر على أماكن بعيدة تصيب "الآخرين" فحسب، بل يمكن أن تطال البريطانيين على أرضهم مباشرة.
فعلى مدى أعوام، استثمرت قوى معادية مثل روسيا موارد ضخمة في تطوير وسائل لضرب أهداف على مسافات هائلة، لا يقتصر الأمر على صواريخ يصل مداها إلى آلاف الكيلومترات، بل يشمل أيضاً وسائل هجوم سرية يصعب تحديد الجهة التي تقف وراءها، مثل الهجمات السيبرانية وتجنيد وكلاء لتنفيذ عمليات حرق متعمد وتخريب واغتيال.
وقد جاءت التحذيرات واضحة وجلية، من داخل الحكومة وخارجها، بأن المملكة المتحدة غير مستعدة للدفاع عن نفسها ضد مثل هذه الهجمات، أو للتعامل مع نتائج فشل الدفاعات في صدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي أبريل (نيسان) الماضي، تحدث مسؤول رفيع المستوى في سلاح الجو الملكي عن القصور الشديد (وفي نظر البعض، الغياب شبه التام) لدفاعات بريطانيا الجوية والصاروخية، وذلك بعد عقود من قيام روسيا بإرسال طائراتها القاذفة بعيدة المدى بشكل دوري قرب الأجواء البريطانية.
هذا الأسبوع، عد الوزير بات ماكفادين الهجمات السيبرانية التي تعرضت لها متاجر بريطانية كبرى بمثابة "جرس إنذار" جديد، يؤكد الحاجة إلى تعزيز الدفاعات السيبرانية في البلاد.
وكان رئيسا كل من جهاز الأمن الداخلي "أم أي 5" (MI5) والاستخبارات الخارجية "أم أي 6" (MI6) صريحين بشكل متزايد في تحذيراتهما من حملات تخريب روسية "متهورة جداً"، إذ وصف رئيس جهاز الأمن الداخلي كين ماكالوم مهمة روسيا بأنها تهدف إلى إثارة "فوضى مستمرة" في الشوارع البريطانية.
وعلى رغم أن الهجمات السيبرانية وعمليات التخريب والاغتيال التي نفذت حتى الآن في أوروبا هي هجمات صغيرة ومحدودة الأثر تم تنفيذها بشكل منعزل بهدف اختبار القدرات، فإن خطر تحولها إلى كارثة واسعة النطاق بتنفيذها بشكل متزامن ومنظم يبقى قائماً. والأكثر إثارة للقلق هي التقارير التي تشير إلى أن روسيا أجرت تجارب لزرع عبوات حارقة على متن طائرات، مما يكشف عن استعدادها لإيقاع خسائر بشرية كبيرة تتجاوز حدود أوكرانيا، بل وتصل إلى حد التدرب على استهداف رحلات جوية متجهة إلى الولايات المتحدة وكندا في تصعيد خطر.
قد يتساءل الناس في بريطانيا وبشكل منطقي عن سبب مهاجمة روسيا لهم في عقر دارهم، وعن المكاسب التي قد تجنيها موسكو من ذلك. وفي محاولة لفهم هذه الدوافع، لا يمكن إغفال الحملات الإعلامية الروسية الشرسة التي تستهدف بريطانيا عبر شاشات التلفزيون، حيث يروج إعلاميون لأوهام تتغذى على تصورات أسطورية لـ"الأنغلو-ساكسون" باعتبارهم قوة تاريخية تسعى إلى تقويض جميع تطلعات روسيا.
هناك أيضاً شعور حقيقي للغاية بأن المملكة المتحدة كانت مشكلة بالنسبة إلى روسيا. فقد كانت بريطانيا هي التي حفزت، في المراحل الأولى من الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، العزيمة الأوروبية وحتى الأميركية لدعم كييف، وضخت الأسلحة إلى البلاد عندما كان آخرون قد استبعدوا فرص صمود أوكرانيا.
والآن، يبدو أن المملكة المتحدة، جنباً إلى جنب مع فرنسا، لا تزال تتشبث بطموح قيادة ما يطلق عليه "تحالف الراغبين" للتمركز في أوكرانيا بهدف إحباط المخططات الروسية لاستئناف الصراع هناك في حال توصل إلى أي صورة من صور وقف إطلاق النار. وسواء كانت هذه الخطط قابلة للتحقيق على أرض الواقع أم لا، فإن روسيا تسعى إلى ثني هاتين الدولتين عن المضي قدماً في هذا المسار.
وفي هذا السياق بالتحديد، تبرز نظريات روسيا العسكرية في مجالي الردع والإكراه.
يميل منتقدو فكرة أن روسيا قد ترغب في "مهاجمة الناتو" إلى رفضها بصور كاريكاتيرية سخيفة، مثل ظهور مظليين روس فوق تلال ساوث داونز، أو تقدم فرق مدرعة على الطراز السوفياتي عبر سهول أوروبا. هذا شكل أقل احتمالية للهجوم من العقيدة التي تطورها روسيا والقائمة على الإكراه بدلاً من الغزو، إلحاق ضرر كاف بدولة مستهدفة من بعد بحيث تغير مسارها السياسي من دون الحاجة بالضرورة إلى تحريك الدبابات عبر حدودها.
وتعلمنا من المأساة في أوكرانيا وسوريا أن استراتيجية "الإكراه" الروسية تتجاوز استهداف وشن ضربات على المنشآت العسكرية. إنها تنطوي على تكتيك يركز على إلحاق أكبر قدر من الألم والمعاناة بالمدنيين. وهذا يشمل تدمير البنية التحتية الأساسية، وقصف المستشفيات، وتعطيل شبكات الطاقة، وغيرها من المرافق الضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة، بهدف واضح هو كسر إرادة المجتمع، لا سيما الفئات الأكثر ضعفاً، وإظهار الثمن الباهظ لمعارضة موسكو.
وبالنسبة إلى كثيرين في بريطانيا، لا يزال تصور سقوط صواريخ روسية على مدن مثل لندن أو ليفربول بشكل مفاجئ ومن دون إعلان حرب سيناريو مستبعد. وكان كذلك لعقود طويلة، في ظل الثقة بتماسك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واليقين بأن أي اعتداء مماثل سيستدعي رداً حازماً من الولايات المتحدة ضد موسكو.
لكن للأسف، فإن تعامل التخطيط الدفاعي البريطاني مع الفكرة على أنها بعيدة الاحتمال، يزيد من احتمالية حدوث هذا السيناريو، إذ يزيد من احتمالية اعتقاد روسيا بنجاحه. وهذه مشكلة في أوضاع عالمية جديدة قد تعتقد فيها موسكو، سواء كان ذلك صحيحاً أم لا، أنها يمكن أن تفلت بفعلتها بمهاجمة المملكة المتحدة دون إثارة رد أميركي مدمر.
وفي ضوء هذه الأخطار المتزايدة، ليس من المستغرب أن يوجه محللون عسكريون واستراتيجيون انتقادات لاذعة للتقاعس المستمر من جانب الحكومات البريطانية المتعاقبة عن وضع أي خطط أو اتخاذ إجراءات استباقية لمواجهة احتمال حدوث اضطرابات واسعة النطاق في الداخل نتيجة لأعمال عدائية.
وكشفت جلسة استماع عقدتها لجنة الدفاع بمجلس العموم الأسبوع الماضي عن حقيقة مقلقة هي أن التهديدات التي تواجه الأراضي البريطانية تتطور بسرعة تفوق بكثير قدرة أو رغبة الحكومة البريطانية في اتخاذ خطوات فعالة لمواجهتها.
إن إعلان الحكومة الأخير عن نيتها دراسة هذه المسألة الحيوية جاء متأخراً للغاية. والآن، يبقى أن نترقب بتفاؤل حذر ما إذا كانت هذه الخطوة ستترجم إلى إجراءات عملية وفعالة على أرض الواقع.
كير جايلز هو مؤلف كتاب "من سيدافع عن أوروبا؟ روسيا اليقظة وقارة نائمة"
© The Independent