ملخص
المشكلة ليست في إعادة سرد "بياض الثلج"، بل في ذلك الإصرار على تصحيحه، والتعديل هنا لا يخلق إبداعاً، بل رقابة معكوسة، خوفاً من زلة، لا شجاعة في مواجهة، والنتيجة: حكاية بلا روح، بلا دهشة، في خلفية كل هذا، تعود غزة ويعود دونالد ترمب، وتعود النيران من كل الجهات
كانت الحكايات في الماضي تُروى لتغفو عليها الأجيال، اليوم تستفيق تلك الحكايات محملة بكل ما لم يكن فيها أصلاً، أجندات وحساسيات ومحاكمات أخلاقية وغبار أيديولوجي كثيف، "بياض الثلج" (سنو وايت) بالإنجليزية، في نسخته الأخيرة التي طرحتها "ديزني" أخيراً، يبدو اختباراً لقياس حرارة الزمن الحالي، أكثر منه فيلماً ترفيهياً للكبار والصغار، وانتهى به الأمر إلى انتكاسة تجارية ونفور نقدي غير مسبوقين لفيلم من إنتاج الاستوديو العملاق.
منذ اللحظة التي أعلنت فيها "ديزني" نيتها إنجاز نسخة حية لفيلم التحريك الكلاسيكي الذي خرج في الصالات في عام 1937، لم يكن الحديث عن الفن أو السينما هو الطاغي، فالخبر أطلق تفاعلات سياسية وهوياتية واجتماعية على منصات العالم الرقمي، بعدما اختار صناع العمل أن يعيدوا إنتاج قصة من ثلاثينيات القرن الماضي، مدعين التحديث والجرأة، إلا أن النتيجة جاءت بمثابة إيقاظ شبح خائف من صورته في المرآة.
حوصر الفيلم بسجالات لا تنتهي، ممثلة أميركية من أصل لاتيني في دور بياض الثلج، وغال غادوت، نجمة إسرائيلية بخلفية عسكرية، في دور الملكة الشريرة استُدعي كل ما يمكن تصوره إلى ساحة النقاش، اللون والأصل والموقف من فلسطين وتاريخ "ديزني" نفسه والمزاج السياسي المتقلب، مثال آخر على كيفية توظيف عمل فني لخدمة معارك أخرى.
بعد منعه في عدد من الدول العربية، من بينها لبنان بسبب حضور الإسرائيلية غال غادوت فيه، أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم مدفوعاً بفضول أثاره لديَّ ما كنت قرأت عنه من مراجعات سلبية جداً، لكن في الحقيقة لم تكن التجربة كارثية كما تردد، ولا ساحرة كما أريد لها أن تكون، بل يمكن القول إن "بياض الثلج" فيلم عادي لا يخيب ولا يصيب، ولا يستحق الضجيج الذي واكبه، من الواضح أن كثيراً من الانتقادات لم تولد من مشاهدة حقيقية، إنما من استباقات سياسية وعقائدية، كما لو أن الفيلم حمل ذنباً ما قبل أن يُولد حتى.
خضع الفيلم لتعديلات كثيرة، وكلها تهدف ظاهرياً إلى مجاراة "الزمن الجديد"، وحذفت كلمة "أقزام" من العنوان، واستبدل بالأقزام السبعة كائنات هجينة أنتجت بالكمبيوتر، الأمير لم يعد بطلاً مخلصاً أو فارس الأحلام، بل شريكاً باهتاً في مغامرة بلا بوصلة، "بياض الثلج" نفسها لم تعد تنتظر الإنقاذ، بل تصوغ مصيرها بيدها، كما تملي الموجة النسوية الجديدة، ولو على حساب منطق الحكاية، إنها بكل بساطة، رؤية جزء من الليبرالية الغربية لحكاية تنتمي إلى التراث الشعبي العالمي.
ومع ذلك لم تُرضِ هذه التغييرات أحداً، فالمحافظون رأوا فيها تطاولاً على "التراث"، والليبراليون اتهموها بالسطحية والانتهازية، وحتى أنصار ثقافة "الووك" (الصحوة)، الذين يفترض أنهم أول المستفيدين، بدوا منقسمين مشككين، الكل غاضب في النتيجة، والكل يشعر بالخيانة.
هكذا، تحولت محاولة إحياء حكاية إلى جثة يسحب جسدها على قارعة الطريق، لماذا؟ لأن "ديزني" لم تسأل السؤال الأهم: ألا تزال هذه الحكاية تهم المشاهدين في 2025؟ هل تنتمي حبكة قصصية كهذه، بكل ما فيها من رموز مبسطة إلى هذا العالم المعقد والمتشعب؟ أم أننا أمام فيلم نُلبسه قناعاً جديداً كي نخدع أنفسنا أن ما تغير هو الجوهر لا المظهر؟
الجيل الجديد نبذ "بياض الثلج" لأنه لا يحتاج إلى حكاية كهذه، لم يعد ينتظر فارساً أبيض، ولا يكترث بزوجة أب شريرة، بل يحاول فقط أن يفهم العالم من دون أن يحقن بحكايات مبسطة عن الخير والشر، وربما اكتشف هذا الجيل خدعة زج النساء المتمكنات والقويات في كل فيلم، بدلاً من قصص ذكية ولمَّاحة وملتبسة، وشخصيات ذات قوام داخلي، لا مجرد تنويعات على أفكار قديمة وإعادة تدوير لكليشيهات قديمة بمفاهيم ما بعد حداثية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المشكلة ليست في إعادة سرد "بياض الثلج"، بل في ذلك الإصرار على تصحيحه، والتعديل هنا لا يخلق إبداعاً، بل رقابة معكوسة، خوفاً من زلة، لا شجاعة في مواجهة، والنتيجة: حكاية بلا روح، بلا دهشة، في خلفية كل هذا، تعود غزة ويعود دونالد ترمب، وتعود النيران من كل الجهات.
غال غادوت (الملكة الشريرة) وجه تجاري ومؤدلج في آنٍ معاً، تستفز داعمي القضية الفلسطينية، ورايتشل زيغلر بوقوفها إلى جانب الفلسطينيين تستفز بدورها جمهوراً آخر، الفيلم نفسه الذي يفترض أن يكون نصاً خيالياً لا يمُتُّ إلى الواقع بصلة، صار وثيقة محاكمة على الشاشة، لا أميرة تنجو، بل شبكة من القضايا المتشابكة التي تخنق القصة قبل أن تبدأ.
وسط هذا كله لا يمكن إنكار لحظات جمال معينة، بعض الأغاني تنساب بسلاسة، وبعض المشاهد تنبض بحرفية فنية، هناك لحظات متعة لا شك، لكنها عابرة، كأنها تنتمي إلى فيلم آخر، النتيجة؟ فيلم متوسط في أحسن الأحوال، متردد، جسده في الماضي، ورأسه في الحاضر، يقف في منطقة رمادية، ليتحول لقطة بعد لقطة إلى مرآة لزمن مرتبك، ولعل أهمية عمل كهذا هي أنه يفتح شهيتنا على العودة إلى النسخة الأصلية.