Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن مشروعية الإيمان في زمن الشك

المهدي مستقيم في كتابه "فلسفة الاعتقاد الديني" يتناول فكرة الفلسفة كأداة لفهم الدين وتبريره متى ما كف كل طرف عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة

لوحة بريشة ماكس إرنست (1891 ـ 1976) (موسوعة الفن الكلاسيكي)

ملخص

الاعتقاد الديني ليس انفعالاً عابراً أو قناعة ذهنية، بل هو "نمط وجودي" يحمل معنى حياتياً للإنسان، يشكل رؤيته للعالم وموقعه فيه

في زمن تسوده العلمانية والنزعات الفردية، ويصعد فيه نجم العقل والتفسير العلمي للوجود، يطرح كتاب "فلسفة الاعتقاد الديني"، الصادر حديثاً عن دار "استفهام" للنشر للدكتور المغربي المهدي مستقيم، سؤالاً ملحاً: ما مشروعية الإيمان في زمن تراجعت المؤسسات الدينية وانفلتت القيم والسرديات الكبرى؟

في هذا العمل، يواصل الكاتب ما بدأه في مؤلفاته السابقة من حفر في قضايا العقل والوجود والمعنى، ويقدم رحلة فكرية أنيقة، تتوزع على فصول متسلسلة من تعريف الاعتقاد الديني وطبيعته، إلى علاقته بالفلسفة، من نقد أدلة وجود الله إلى تشخيص أزمة المعنى في العالم المعاصر.

في الفصل الأول، يوضح الكاتب أن الاعتقاد الديني ليس انفعالاً عابراً أو قناعة ذهنية، بل هو "نمط وجودي" يحمل معنى حياتياً للإنسان، يشكل رؤيته للعالم وموقعه فيه. وفي مواطن عديدة، يتأمل الكاتب في الفرق بين الإيمان كمنظومة معرفية والإيمان كحاجة وجودية داخلية.

في فصل العلاقة بين الفلسفة والدين، يفند الدكتور مستقيم الرؤية السائدة التي تنظر إلى الفلسفة كنقيض للإيمان، ويراها بدل ذلك شريكاً نقدياً وأداة لتوسيع الفهم للدين. ويعرض مواقف فلاسفة مثل ديكارت وكانط وباسكال، لتفكيك الخيط الرفيع بين التسليم والتساؤل.

الاعتقاد الديني: من الفكرة إلى الوجود

يضع الدكتور مستقيم سؤال "ما هو الاعتقاد؟" في مقدمة كتابه، لا باعتباره تمهيداً مفاهيمياً فحسب، بل كمدخل ضروري لفهم طبيعة الإيمان الديني. والاعتقاد، من منظور الكاتب، ليس مجرد رأي نقتنع به ولا هو مجرد شعور ذاتي خافت، بل حال مركبة يتداخل فيها العقلي والوجداني، ويتجسد فيها الإنسان بكامل وجوده.

وفي مقاربة دقيقة، يميز المؤلف بين الاعتقاد بمعناه العام، كنوع من التمثل أو الميل نحو فكرة ما، والاعتقاد الديني الذي لا يكتفي بمخاطبة الذهن، بل يصوغ رؤية متكاملة للعالم، ولما بعد العالم. يقول

"الاعتقاد الديني ليس مجرد فكرة نقتنع بها، بل هو رؤية للعالم تحدد تموضعنا فيه وتضفي عليه معنى".

من هنا يتضح أن الإيمان، بحسب هذا التصور، ليس مجرد ترف فكري، بل حاجة وجودية تنبع من عمق الكينونة الإنسانية، وتشكل أفقاً يعاش أكثر مما يستدل عليه.

ويدافع الكاتب عن فكرة أن الاعتقاد الديني لا ينبغي أن يختزل في ثنائية "البرهان أو الوهم"، بل يجب التعامل معه كأحد أنماط الاستجابة الوجودية لأسئلة المعنى والحدود والمطلق. وهو بهذا يقارب الإيمان كحال أنطولوجية بقدر ما هي معرفية، تعيد تعريف الإنسان في علاقته بنفسه وبالآخر وبالعالم.

بين العقل والوحي: عندما تتبادل الفلسفة والدين الأدوار

في الفصل الثاني من كتابه، يتوقف الدكتور مستقيم عند العلاقة الملتبسة والخصبة في آن، بين الفلسفة والدين. علاقة طالما صورت في الوعي العام كصراع مزمن، لكن المؤلف يسعى إلى تفكيك هذه الثنائية الجاهزة، مشيراً إلى أن الفلسفة لم تكن دوماً خصماً للدين، بل كثيراً ما كانت مرآته النقدية، أو حتى أداته لتجديد خطابه.

"ليست الفلسفة بالضرورة معادية للدين، بل قد تكون أداة لفهمه وتبريره، متى ما كف كل طرف عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة"، يقول الدكتور مستقيم في عبارة تختصر روح هذا الفصل. وهنا، لا يسعى الكاتب إلى التوفيق الساذج بين العقل والوحي، بل إلى كشف الطابع الديناميكي لهذا التوتر، بما هو جزء من مغامرة الفكر الإنساني ذاته.

ينطلق الكاتب مستقيم من تحليل تاريخي ونظري، يتتبع فيه كيف تموضعت الفلسفة تجاه الدين عبر العصور، مستعرضاً مواقف فلاسفة كبار مثل ديكارت الذي راهن على "الوضوح والتميز" في إثبات وجود الله، وباسكال الذي أقام إيمانه على رهانه الشهير بين القلب والعقل، وكانط الذي فصل بين الدين الأخلاقي والدين التاريخي، مؤكداً أن "العقل لا يستطيع إثبات وجود الله، لكنه يحتاج إلى الإيمان به ليكتمل القانون الأخلاقي".

ما يميز هذا الفصل ليس فقط تنوع المراجع، بل الطريقة التي تُحلل بها هذه المواقف في ضوء سؤال مركزي: هل يستطيع العقل أن يبرر الإيمان، من دون أن يلغيه أو يخنقه؟ وهل الدين، من جهته، قادر على الإصغاء للفلسفة من دون أن يشعر بالتهديد؟

في هذا السياق، يتحول الصراع بين الفلسفة والدين إلى شكل من "الجدل الخلاق"، إذ يسائل كل منهما الآخر ويغنيه. فالدين يذكر الفلسفة بحدودها أمام المطلق، فيما تنبه الفلسفة الدين إلى خطر الجمود والادعاء المطلق للمعرفة. وما بين التحذير والتذكير، تتشكل مساحة حوار هي الأهم، لا لأنها تحسم الخلاف، بل لأنها تؤكد استمراريته وضرورته.

الإيمان كبحث عن المعنى: قراءة وجودية

في معالجة الكاتب لمفهوم الاعتقاد الديني، تتضح جذور وجودية عميقة، تجعل من الإيمان ليس مجرد مسألة معرفية، بل استجابة أنطولوجية لقلق المعنى. هنا، يستحضر السياق الفلسفي شخصيات مثل الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد، الذي رأى في الإيمان قفزة وجودية تتجاوز حدود العقل، تتأسس في لحظة مفارقة تقف فيها الذات أمام الله بكل توترها وضعفها ورجائها. بالنسبة لـكيركيغارد، لا يكون الإيمان ثمرة برهان، بل تجربة ذاتية مشبعة بالقلق والخطر، لا تهرب من الشك بل تسكنه وتتجاوره.

ومن الضفة الكاثوليكية، يلتقي هذا التصور بما يقدمه غابرييل مارسيل الذي لا يرى في الإيمان مجرد تصديق، بل تواطؤاً داخلياً مع الوجود. ويميز مارسيل بين "المشكلة" و"السر"، بين ما يمكن حله بالعقل، وما لا يمكن الإحاطة به إلا بالانخراط فيه. والإيمان بالنسبة إليه ينتمي إلى منطقة "السر"، لأنه لا يفهم من الخارج بل يُعاش. وفي هذا الأفق، يصبح الاعتقاد استجابة لحاجة الإنسان إلى أن يكون "مقبولاً" و"مسموعاً"، أن يشعر بأن وجوده ليس عبثاً، بل يحمل مغزى متجاوزاً.

ومن خلال ربطه بين الاعتقاد والمعنى، يلتقي الدكتور مستقيم مع هذه النزعة الوجودية من دون أن يصرح بها صراحة. فحين يرفض اختزال الإيمان في "البرهان أو الوهم"، ويؤكد طبيعته المعنوية والكينونية، فإنه يضعنا في قلب المعضلة الوجودية التي عالجها هؤلاء المفكرون: هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا أفق متعال؟ وما الذي يتبقى من الإنسان إذا اختفى الإيمان من خريطته الوجودية؟

الإنسان في مواجهة الفراغ: أزمة المعنى بعد غياب المقدس

في فصل عميق من الكتاب، يتوقف الدكتور مستقيم عند أزمة المعنى في العالم المعاصر، رابطاً بين تراجع حضور الدين في الحياة العامة وفراغ روحي لم تنجح الفلسفة ولا الفنون في ملئه. فمع الانسحاب التدريجي للمقدس، وبخاصة منذ القرن الـ19، حاولت الفلسفة أن تقدم بديلاً عقلانياً، وحاول الفن والأدب أن يصوغا معنى جديداً للوجود. غير أن هذه البدائل، وإن أغنت التجربة الإنسانية، لم تستطع أن تسد الحاجة الوجودية العميقة إلى المطلق والانتماء.

يتساءل الكاتب، ضمنياً، ما إذا كانت محاولة إحلال الفلسفة أو الفن محل الدين كُتب لها الفشل منذ البداية، لأنهما يشتغلان على مستويات مختلفة من الوعي والكينونة. وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا "مقدس"؟ يبدو أن الجواب الذي يلمح إليه الكاتب هو النفي، لا استناداً إلى نوستالجيا دينية، بل انطلاقاً من فهم عميق لحاجة الإنسان إلى ما يتجاوز اليومي والعابر.

ويقول الكاتب في جملة كاشفة "حين غاب الإله لم يمت السؤال عنه، بل عاد بأقنعة جديدة: في الروحانية، وفي الحداثات الزائفة، وفي الذات المتورمة".

هنا، يكشف الدكتور مستقيم كيف أن السؤال عن الله لم يمح من الوعي المعاصر، بل أعاد تشكيل نفسه في صور جديدة، أحياناً مشوهة أو سطحية، لكنها تعبر عن نفس الجوع الروحي العتيق. في مجتمع يطفح بالخيارات ويغيب عنه اليقين، تتحول الذات المعاصرة إلى ساحة صراع، تطلب المعنى لكنها لا تجد له مقاماً ثابتاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 تأمل هادئ في زمن مضطرب

ما يميز أسلوب الدكتور مستقيم في هذا العمل هو قدرته على المزج بين الدقة الفلسفية والعمق التأملي. لا يكتفي بالتنظير المفاهيمي، بل يضفي على كتابته نبرة أدبية هادئة تجعل من القراءة تجربة فكرية وإنسانية في آن. لغته متوازنة، تتجنب التعقيد المفرط من دون أن تفرط في المعنى، وتجنح إلى الإيضاح من دون السقوط في التبسيط. لا يبحث عن بهرجة الأسلوب، بل عن صفاء الفكرة.

وفي زمن تتنازعه العدمية والنسبية والعلمنة الجافة، يأتي هذا الكتاب كـصوت متزن يبحث عن مسار ثالث بين الإقصاء والتقديس. لا يدعو إلى العودة الساذجة للدين، ولا إلى إقصائه من المشهد، بل إلى تأمل حضاري في موقعه ودلالاته في الوعي المعاصر. ومن خلال تتبعه لتطور الاعتقاد الديني، وللعلاقة المعقدة بين العقل والإيمان، يفتح لنا أفقاً لفهم أعمق للتحولات التي طرأت على تجربة الإيمان في العصر الحديث.

في ظل صعود الروحانيات الفردية، وتراجع الأطر التقليدية للانتماء، يظل هذا العمل وثيق الصلة بقلق الإنسان اليوم، ويعيد بعناية طرح السؤال الذي لا يزال يؤرقنا، على رغم كل الضجيج: لماذا نؤمن؟

المزيد من كتب