ملخص
لم تكن غزوة "حماس" فصلاً عادياً في الحروب الإسرائيلية - الفلسطينية حول القطاع، فقد كانت إسرائيل و"حماس" تديران تلك الحروب تحت سقف مصلحة الطرفين، مصلحة الحركة الإسلامية في توطيد حضورها بمواجهة السلطة الفلسطينية التي تقودها "فتح" من جهة، ومصلحة إسرائيل في استمرار الانقسام الفلسطيني ومنع قيام الدولة المستقلة بقيادة تلك السلطة من جهة أخرى.
كسبت الخطة العربية لإعادة إعمار غزة مزيداً من الدعم وهي في طريقها لتصبح خطة دولية بعد أن تبنتها دول "منظمة التعاون الإسلامي" خلال اجتماعها في جدة، ودعم دول أوروبية أساس لها بما يؤشر إلى احتمال تبنيها من جانب الاتحاد الأوروبي بعد استقبالها الإيجابي من قبل دول كبرى أساس حول العالم.
وعلى رغم ذلك لا يبدو أننا أمام تغيير في الموقف الأميركي أو تعديل في الخطط الإسرائيلية، علماً أن مراقبة الموقف الأميركي واحتمالاته تكتسب الأولوية الآن وخلال المرحلة القريبة المقبلة، خصوصاً مع تولي الرئيس دونالد ترمب إدارة تفاصيل سياسة بلاده الخارجية والداخلية.
وفي هذا الإطار كان لافتاً للنظر ما كتبه المحلل الإسرائيلي يورام أتينغر في "صحيفة معاريف الإسرائيلية" عن نظرة ترمب إلى إسرائيل ومحيطها العربي والإقليمي خلال الوضع القائم، إذ يجزم أن الرئيس الأميركي ليس وسيطاً حيادياً بين العرب وإسرائيل ولا بين الفلسطينيين وتل أبيب، فهو يتحرك وفق المصلحة الأميركية وعلى قناعة بأن إسرائيل تشكل قوة مضافة ودولارات إضافية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً.
ويعتبر ترمب، بحسب الكاتب، "الإرهاب الإسلامي" تهديداً للديمقراطيات الغربية ومن بينها الولايات المتحدة، ويدرك ضعف حلف شمال الأطلسي وعدم استعداده للتحرك عسكرياً وسياسياً ضد هذا "الإرهاب"، وكذلك هو يعتبر أن إيران هي مصدر الإرهاب وراعيه الذي يهدد المنطقة وحلفاء الولايات المتحدة ومن هنا كان استنتاجه وهو ما سبقته إليه بطريقة أو بأخرى الإدارات الأميركية المتعاقبة، أن إسرائيل حليفة مفيدة وموثوق بها ولديها خبرة أكثر من الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، خصوصاً في وقت يتطلع فيه ترمب إلى تقليص الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط.
يعرف ترمب أن الشرق الأوسط هو المكان الذي يتركز فيه 48 في المئة من مخزون النفط في العالم، وهو مفترق طرق تجاري وحيوي بين آسيا وأوروبا الغربية وبين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وفي حال تخفيف أو انسحاب القوات الأميركية منه فإن إسرائيل هي الحليف الوحيد القادر على ملء الفراغ.
وفي سياق هذا المنطق ينسف ترمب كل المفاهيم السابقة المتصلة بجوهر مشكلة المنطقة الذي يفترض إنجاز حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وبالتالي العربي - الإسرائيلي، ويأخذ الأمور إلى أبعاد أخرى لا تستبطن تسوية لهذا الصراع بقدر ما تحاول فرض هيمنة شاملة قوامها الإلغاء وفرض هيمنة توفرها الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة كلياً من الولايات المتحدة الأميركية.
مدخل ترمب المفاجئ والمريع لفرض رؤيته ينطلق من اعتباره غزة دولة إرهابية يتعاطف سكانها مع الإرهاب دينياً وتربوياً وإعلامياً، وهو ما دفعه إلى عرض اقتراحه غير القابل للجدل في شأن تهجير سكانها وتوزيعهم على بلدان أخرى، بما يضمن مكاسب عقارية من جهة ويحقق رغبات الحلفاء الإسرائيليين في الخلاص من الوجود المادي للشعب الفلسطيني وقضيته من جهة ثانية.
ولا يتعارض سلوك ترمب تجاه الصراع إثر فوزه بالرئاسة مرة جديدة مع نظرته إليه خلال ولايته الأولى، ففي تلك المرحلة همش الرئيس الأميركي سياسة وزارة الخارجية ودورها إلى الحد الأقصى، وأطاح بالثوابت المعلنة عن حل بالتفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستعاض عن جهاز الوزارة بمبعوثيه الخاصين وفي مقدمهم صهره جاريد كوشنر، ولم يعد الاهتمام الأميركي منصباً على إيجاد سبل تنفيذ القرارات الدولية كما كانت توحي وتعلن الإدارات السابقة، بل تركز على تخطي هذه القرارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعترف ترمب في تلك الأوقات بضم الجولان إلى إسرائيل وجعل القدس عاصمة لها، وعمل على إنجاز ما سماه "اتفاقات السلام الإبراهيمي" بين تل أبيب وعدد من الحكومات العربية، مطيحاً مشروع السلام الفعلي الذي رسمت خطوطه قرارات الأمم المتحدة وأقرته المبادرة العربية إلى جوارير النسيان، وبقيت السعودية وحيدة في طليعة الجبهة العربية المتمسكة بمبادرة السلام العربية وأولوية قيام الدولة الفلسطينية، في وقت كانت دول المشرق الممزقة تخضع لإرهاب المشروع الإيراني الذي سعى إلى توحيد ساحات ملاقاة المشروع الإسرائيلي في قتال لا يتصل بأية فكرة دولية أو عربية أو فلسطينية عن تسوية مقبولة.
وعندما بدا أن مفاوضات السعودية مع إدارة الرئيس السابق جوزيف بايدن حول اتفاق شامل ينص على الربط بين السلام وقيام الدولة، شنت "حماس"، العنصر البارز في المحور الإيراني وساحاته الموحدة، عمليتها ضد إسرائيل، فاندلعت حرب غزة المدمرة وحرب لبنان مع "حزب الله"، ليتبدل المشهد الإقليمي كلياً عشية تسلم ترمب مهماته في ولايته الثانية، وينتقل النقاش من الحاجة إلى تسوية حقيقية بين شعبين إلى اقتراح إلغاء شعب لضمان مصالح شعب آخر، هو شعب المستوطنين في فلسطين.
لم تكن غزوة "حماس" فصلاً عادياً في الحروب الإسرائيلية - الفلسطينية حول القطاع، فقد كانت إسرائيل و"حماس" تديران تلك الحروب تحت سقف مصلحة الطرفين، مصلحة الحركة الإسلامية في توطيد حضورها بمواجهة السلطة الفلسطينية التي تقودها "فتح" من جهة، ومصلحة إسرائيل في استمرار الانقسام الفلسطيني ومنع قيام الدولة المستقلة بقيادة تلك السلطة من جهة أخرى، وعندما تخطت "حماس" بدعم من المحور الإيراني قواعد الاشتباك المترسخة منذ سيطرتها على القطاع عام 2007، فتحت أبواب المشروع الجهنمي التدميري الإسرائيلي على مصاريعها، فجرى تدمير غزة وتشريد أهلها وضرب "حزب الله" في لبنان الذي عادت له قوات الاحتلال بعد انسحابها منه عام 2000، وساعدت هذه التطورات في الإطاحة بنظام الأسد في سوريا وإخراج الإيرانيين وميليشياتهم منها.
لقد حققت إسرائيل بنتيجة طوفان محور الممانعة ما كانت تحلم به دائماً، فانتصاراتها العسكرية تجسدت في الأرض الفلسطينية ولبنان وسوريا، وهي تنتظر ترجمة هذه المكاسب الحربية في إنجازات سياسية يستعجلها ترمب على طريقته، ولم يعد سراً ما يفكر فيه ترمب في شأن الشرق الأوسط، فإضافة إلى "مشروع ريفييرا غزة" فإن رموز إدارته لا يخفون، ومنهم وزير خارجيته ماركو روبيو، عزمهم على إنجاز اتفاقات سلام إسرائيلية مع كل من لبنان وسوريا، إضافة إلى السير في مشروع الاتفاق مع السعودية الذي توقف البحث فيه بعد اندلاع حرب القطاع.
وبديهي ألا تكون الأمور بهذه البساطة، فالقمة العربية التي سبقتها اجتماعات تحضيرية في الرياض أعادت إيقاف المشكلة على رجليها وحددت أولوية المدخل الفلسطيني للحل، وخطوته الأولى اقتراح بديل عملي لخطة ترمب التهجيرية قوامه إعادة إعمار غزة بقيادة لجنة من التكنوقراط تمهد لعودة السلطة الفلسطينية لإدارة القطاع، لكن إسرائيل سارعت إلى رفض المشروع العربي الذي اعتبرته واشنطن غير واقعي، وجددت تمسكها بخطة ترمب.
لا يمتلك الجانب العربي سوى التمسك بالمبادئ التي أعاد تأكيدها خلال "قمة القاهرة"، لكن إسرائيل والولايات المتحدة تواصلان السير على خط نقيض انطلاقاً من أن المجموعة العربية لم تحسم مسألة استمرار "حماس" كتنظيم مسلح يتحكم بمستقبل غزة، وهذه النقطة بالذات تنتظر قراراً فلسطينياً يحسم الجدل حول التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني، ويخول قيادة موحدة التفاوض حول مستقبل القضية الفلسطينية.
ومع تأخر البت في هذه المسألة ستسعى إسرائيل إلى مواصلة تنفيذ برنامجها السياسي والعسكري، وتمضي إدارة ترمب الغاضبة من عدم الاستجابة لخطتها الغزاوية في تشجيع هذا المنحى بما يحقق طموح الهيمنة الإسرائيلية، ويمتحن قدراتها كبديل عن نشر الجيوش الأميركية، وهو ما أعلن ترمب مراراً أنه يسعى إلى ضبطه وخفضه إلى الحدود القصوى.
وفي الواقع العملي تقوم إسرائيل بتنفيذ إستراتيجيتها العسكرية في هذه الأثناء على جبهات ثلاث بانتظار مآلات العلاقة مع إيران، وتتضمن هذه الإستراتيجية كما يقول المحلل الإسرائيلي رون بن يشاي، ثلاث منظومات دفاعية، استحكامات وعوائق في أراضي إسرائيل، ومنظومة دفاع متقدمة في أرض العدو، وطلب تجريد السلاح من مناطق تشكل تهديداً.
وهذه الخطط هي ما تنفذه إسرائيل الآن عملياً في غزة وجنوب لبنان والجنوب السوري متمتعة بحماية ودعم أميركيين كاملين، وهدفها المعلن القضاء على أي تهديد مسلح من هذه النقاط الثلاث، مع علمها ومن وراءها إدارة ترمب أن الحسابات في لبنان وسوريا ستختلف في النهاية عن الحساب الذي لا مفر منه في فلسطين، وهذا ما قاله اجتماع القمة العربية عندما أكد أبعد من معالجة قضية غزة، أن لا سلام فعلياً خارج حل الدولتين.