ملخص
يقدر البنك الدولي أن الاقتصاد السوري انخفض بمقدار النصف تقريباً خلال العقد الممتد من 2010 إلى 2021، إلا أن البنك ذاته يرى أن ذلك التقدير أقل بكثير من الواقع، وبحسابات أكثر دقة تظهر أن اقتصاد سوريا انكمش بنسبة 84 في المئة خلال الفترة بين عامي 2010 و2023
وسط دعوات ومطالبات بإلغاء العقوبات الدولية على سوريا كضرورة لمحاولة إنعاش اقتصاد البلاد الذي عانى الفساد، ومن حرب أهلية لنحو 14 عاماً، تواجه القيادة السورية الجديدة تحدياً هائلاً في محاولة إعادة بناء الاقتصاد من جديد. ووصفت بعض التقارير الغربية المشكلة الاقتصادية في سوريا بأنها ربما كانت "أصعب من إزاحة نظام الأسد" نهاية العام الماضي. وتحتاج سوريا إلى مساعدات خارجية كبيرة كي تتمكن من إعادة إطلاق الاقتصاد الذي تدهور بشدة خلال الأعوام الأخيرة.
يقدر البنك الدولي أن الاقتصاد السوري انخفض بمقدار النصف تقريباً خلال العقد الممتد من 2010 إلى 2021، إلا أن البنك ذاته يرى أن ذلك التقدير أقل بكثير من الواقع، وبحسابات أكثر دقة تظهر أن اقتصاد سوريا انكمش بنسبة 84 في المئة خلال الفترة بين عامي 2010 و2023. ويعيش ما يصل إلى 90 في المئة من سكان سوريا البالغ عددهم 23 مليون نسمة عند خط الفقر أو تحته بحسب تقديرات وكالات الأمم المتحدة المختلفة.
وبحسب بيانات المؤسسات الدولية، وصل حجم الاقتصاد السوري عام 2022 إلى 23.63 مليار دولار فحسب، أي ما يساوي حجم اقتصاد ألبانيا أو أرمينيا وليس في كلا البلدين من سكان أكثر من 3 ملايين نسمة.
استمرار تدهور الاقتصاد السوري
وشهد الاقتصاد السوري تدهوراً أشد منذ عام 2019 حين تعرضت الجارة لبنان إلى أزمة مالية أثرت فيه نتيجة العلاقات التجارية والمالية المتشابكة بين البلدين، واضطرت دمشق وقتها لتبني مستويات لسعر صرف العملة، لكن الحكومة الانتقالية الجديدة وعدت بتوحيد نظام سعر الصرف.
وكان سعر صرف الليرة السورية مطلع عام 2011 عند 47 ليرة مقابل الدولار كسعر رسمي، لكن بنهاية فترة حكم نظام الأسد قبل نحو شهرين وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى 22 ألف ليرة، وهذا الأسبوع كان سعر الصرف الموحد في سوريا عند نحو 13 ألف ليرة للدولار.
وبالنسبة إلى احتياطات البنك المركزي السوري صرح رئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير بأنها "قليلة جداً"، وذكرت وكالة "رويترز" نقلاً عن مصادر في البنك أنه لم يكن في خزائن البنك لدى انهيار نظام الأسد سوى 200 مليون دولار و26 طناً من الذهب تصل قيمتها بأسعار السوق الحالية إلى 2.2 مليار دولار.
ويتضح حجم التدهور عند مقارنة تلك الاحتياطات بما كان عليه الوضع عام 2010، حين قدر صندوق النقد الدولي احتياطات سوريا من العملات الصعبة عند 18.5 مليار دولار، وتغطية 3 أشهر من الواردات.
وجمدت الحكومات الغربية مئات ملايين الدولارات من الأصول الخارجية لسوريا مع فرض العقوبات على دمشق، إلا أن تقدير حجم ما هو مجمد من أموال يصعب تحديده بدقة. وسمحت الحكومات الغربية للحكومة السورية الجديدة باستخدام بعض الأصول المجمدة في الخارج لتلبية الحاجات الإنسانية، فيما تتوقع الحكومة استرداد نحو 400 مليون دولار من تلك الأموال لتستخدمها في زيادة الرواتب بنسبة 400 في المئة كما وعدت.
وأدت فترة الحرب الأهلية والعقوبات على دمشق إلى شبه انهيار عائدات البلاد من السياحة والنفط، وهوت تلك العائدات من 18.4 مليار دولار عام 2010 إلى 1.8 مليار دولار فقط عام 2021، بحسب بيانات البنك الدولي. وتراجعت الواردات أيضاً من 22.7 مليار دولار إلى 6.5 مليار دولار خلال تلك الفترة، وفاقم ذلك من عجز الميزان التجاري.
ونتيجة لذلك، كانت الحكومة السورية تلجأ إلى سداد قيمة بعض الواردات بمبالغ نقدية خارج النظام الرسمي لأن مصدرها غير شرعي، ويعتقد أنه كان من تصدير مخدر الكبتاغون المصنع في سوريا، وقدر البنك الدولي حجم تجارة الكبتاغون في البلاد بنحو 5.6 مليار دولار.
تراجع الاقتصاد السوري يؤثر على كافة قطاعاته
لم يقتصر التدهور على السياحة ومصادر عائدات التصدير عامة فحسب، إنما شهدت جميع قطاعات الاقتصاد السوري تدهوراً هائلاً خلال العقد ونصف العقد الأخير، ومن القطاعات التي كانت سبباً في أكبر ضرر اقتصادي قطاع الطاقة، ففي عام 2010 كانت سوريا تنتج 380 ألف برميل يومياً من النفط شكلت مصدراً مهماً للعملة الصعبة، وخلال العام التالي وبداية الحرب الأهلية تبخر هذا المصدر وتقاسمت فصائل متشددة منها "داعش" وغيرها مع الجماعات الكردية المسلحة السيطرة على آبار النفط السورية.
وأصبحت حكومة دمشق منذئذ مستورداً للطاقة، وبسبب العقوبات لم يكن بإمكانها الاستيراد من السوق لحظر تعاملها المالي مع الخارج ضمن العقوبات. حتى الفصائل المسلحة التي سيطرت على آبار النفط وجدت صعوبة في تسويقه، باستثناء الجماعات التي عقدت اتفاقات مع القوات الأميركية شرق وشمال شرقي سوريا لتجارة النفط من الآبار التي تسيطر عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتمدت سوريا خلال تلك الفترة على استيراد الطاقة من حليفتيها إيران وروسيا، وبحسب ما ذكرت كبيرة المستشارين في شركة استشارات الأخطار "هورايزون إنغيج" راتشيل زيمبا أن سوريا كانت تستورد ما بين مليون إلى 3 ملايين برميل من الوقود شهرياً من إيران، لكنها توقفت بحلول ديسمبر (كانون الأول) 2024 مع انهيار نظام الأسد.
القطاع الآخر المهم للاقتصاد السوري الذي شهد تدهوراً شديداً كان قطاع الزراعة، فنتيجة الحرب والدمار داخل البلاد تقلص عدد المزارعين، وتضافر ذلك مع موجات جفاف متتالية وانهيار سبل الري وصعوبة الحصول على البذور والسماد.
وهكذا هوى الإنتاج الزراعي إلى مستويات غير مسبوقة خلال عامي 2021 و2022، وعلى سبيل المثال انخفض إنتاج القمح إلى نحو مليون طن من أكثر من 4 ملايين طن قمحاً كانت تنتجها سوريا قبل الحرب الأهلية، واعتمدت دمشق على استيراد الحبوب من روسيا، لكن هذه أيضاً توقفت مع انهيار نظام الأسد.
الإدارة السورية تتجه لتقليص عدد العاملين في الدولة
أجرت وكالة "رويترز" مقابلات مع خمسة من وزراء الحكومة الانتقالية الجديدة يشكلون مجموعتها الاقتصادية، وتبين أن أولى وأسرع الخطوات التي تعتزم الحكومة اتخاذها تقليص العاملين داخلها، والتخلص ممن وصفوهم بأنهم "موظفون أشباح" أي يتلقون رواتب مقابل عدم القيام بأي عمل أو بأقل قدر ممكن.
وتشير تقارير في الإعلام الغربي إلى أن الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا تتجه نحو إعادة هيكلة الاقتصاد بهدف تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، وجذب المساعدات التي تحتاج إليها بشدة. ففضلاً عن عشرات المليارات التي تحتاج إليها إعادة بناء ما دمرته الحرب هناك حاجة لتأهيل جميع قطاعات الاقتصاد المتضررة بشدة، وإطلاق مشروعات توفر الوظائف وتؤدي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وبحسب ما ذكره وزراء الحكومة الجديدة فإن 900 ألف فقط من نحو 1.3 مليون موظف يذهبون إلى أعمالهم، من ثم سيجرى التخلص من 400 ألف موظف، إما لا يذهبون لمكاتبهم أو يقومون بأعمال في غاية الضآلة.
ويشير وزير التنمية الإدارية محمد السقاف إلى أن جهاز الدولة في حاجة فقط لما بين 550 و600 ألف موظف، أي أقل من نصف العدد الحالي. ويخشى كثير من المراقبين، حتى بعض المنظمات الدولية، من أن تؤدي سرعة الحكومة الجديدة في تقليص عدد العاملين إلى إثارة مشكلات، فهناك مخاوف من التخلص من العاملين في الدولة على أسس طائفية وليس على أساس الكفاءة والحاجة والضرورة، علاوة على أن إحالة مئات الآلاف إلى وضع البطالة في ظل الظروف القاسية التي يمر بها الشعب السوري سيولد ضغائن تجاه السلطة الجديدة.
توجه لخصخصة القطاع العام
وتتجه الحكومة الجديدة إلى خصخصة شركات ومصانع القطاع العام في سياق تخفيف الدولة من أعباء الإنفاق من ناحية، وعلى أمل تشجيع القطاع الخاص المحلي والأجنبي على ضخ الأموال في الاقتصاد السوري المنهار.
يقول وزير الطاقة باسل عبدالحنان إن لدى سوريا 107 شركة صناعية كلها تقريباً تعاني الخسائر. ومع أنه وعد بأن تحتفظ الدولة بالقطاعات "الاستراتيجية" مثل الطاقة والنقل، إلا أن التوجه هو نحو خصخصة تلك الشركات والمصانع، وتشمل الصناعات الأهم في سوريا الطاقة والأسمنت والصلب.
صحيح أن إعادة الهيكلة والخصخصة وبيع شركات ومصانع القطاع العام تعد توجهاً في كثير من الدول، إلا أنه في حال سوريا وفي ظل اعتماد مئات آلاف الأسر على عمل عائليها في الحكومة أو القطاع العام ستكون تبعات الخصخصة اجتماعياً وسياسياً أوسع نطاقاً من غيرها من الدول.
ومن غير الواضح إن كان التخلص من العاملين ومحاولة بيع الشركات والمصانع للقطاع الخاص ستؤدي إلى النتائج التي ترجوها الحكومة الجديدة، فحتى الآن ما زال المانحون والمستثمرون من الخارج ينتظرون بترقب استقرار الحكم الجديد ووضوح سياساته وتوجهاته، قبل أن يلتزموا بتقديم الأموال إما لإعادة الإعمار أو لإعادة إحياء الاقتصاد.