ملخص
يقول الأمين العام الجديد لحلف "الناتو" مارك روته إنه حال فعل ترمب ذلك فستضطر أوروبا إلى حذف أميركا من "الناتو"، مما يقودنا إلى تساؤل جوهري يخشى كثر الاقتراب منه، "ما مصير حلف الأطلسي في السنوات الأربع التي سيشغل فيها ترمب البيت الأبيض"؟
الجواب ربما يتجاوز السنوات الأربع، فهناك من يرى أن انتصار الجمهوريين الساحق الماحق في الانتخابات الأخيرة سيرسخ حقبة جمهورية تطول 12 سنة مقبلة.
مع إعلان فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بولاية رئاسية جديدة بدا وكأن هناك قلقاً مكبوتاً في القارة الأوروبية ومخاوف لم يعد أحد قادراً على أن يداريها أو يواريها لأسباب مختلفة ربما لأن الرجل له خبرة سابقة مع الأوروبيين وتوجهات أزعجتهم أيما إزعاج عبر الفترة ما بين 2016 – 2020.
ولعل من نافلة القول القطع إن العلاقات الأوروبية - الأميركية تبدو أمام منعطف مفصلي جديد، فبعد عقود من التحالف الأهم في الحرب العالمية الثانية، والذي قاد إلى النصر على النازية، تلتها عقود من الحرب الباردة، ثم ثلاثة عقود من انفراد الولايات المتحدة بالقطبية الدولية، تبدو هناك تساؤلات عن الحبل السري الذي ربط أميركا بأوروبا، وهل تتهدده الخلافات بين الجانبين، مما يعني إمكانية انفصام عرى العلاقات الوثيقة بين الجانبين، أو فتور العلاقات في أقل تقدير؟
والشاهد أن هذه العلاقات كانت قد بلغت بحلول نهاية العقد الثاني من القرن الحالي حالة مؤسفة من التراجع، لا سيما في ظل ضغوط الرئيس السابق دونالد ترمب على دول الاتحاد ومطالباته بتخصيص قرابة اثنين في المئة من الناتج القومي لكل دولة كمساهمة مالية فعالة في تمويل حلف "الناتو".
وعلى رغم أن الافتراق بين الجانبين وقتها بدا قريباً جداً فإن خسارة ترمب انتخابات عام 2020 في مواجهة منافسه الديمقراطي جو بايدن وتفشي جائحة "كوفيد-19" من جهة، ثم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كلها مثلت قبلة الحياة لـ"الناتو"، ودعم ذلك الاتجاه السياسات اللينة تجاه الأوروبيين، وعودته لاتفاق باريس للمناخ، والتعاون الجدي لمواجهة موسكو ودعم كييف، كلها خفضت من منسوب المخاوف الأوروبية.
على أن الفوز الكاسح لترمب مرة جديدة مع سيطرة شبه كاملة للجمهوريين على الكونغرس الأميركي أعادت الهواجس السابقة، ولهذا بادر قادة عدد من كبريات الدول الأوروبية إلى قمة عاجلة في بوادبست، وبات السؤال: ما مستقبل هذه العلاقة؟ وهل هي ماضية بالفعل في طريق الانفصال؟ أم أن هناك نوازل جديدة تعزز البقاء والاتصال بين الجانبين؟
ربما تتوجب العودة علينا قليلاً إلى الوراء، أي إلى فترة رئاسة ترمب الأولى، والوقوف أمام مشهد هذه العلاقات، ثم الانطلاق منه إلى الوقت الحاضر. من أين نبدأ؟
ماكرون وقوات أوروبية مشتركة
تبقى العودة إلى الخلف البعيد، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع مولد حلف "الناتو"، مؤشراً إلى مواقف بعض الدول الأوروبية التي رفضت أن تراهن بكل قوتها على الحماية الأميركية.
كان جنرال فرنسا الأشهر والأكبر شارل ديغول أول من تنبه لفكرة الفوقية الأميركية ضمن علاقات حلف الأطلسي، وعلى رغم شراكة فرنسا في سياقات مسارات الحلف، فإنه على سبيل المثال، رفض وضع القوة النووية الفرنسية تحت ظلال قرار "الناتو"، وفضل أن يظل الأمر ضمن السيادة الفرنسية المستقلة.
بعد نحو سبعة عقود من ديغول سيجيء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ويقترح في أواخر عام 2018 تكوين تدخل أوروبية مشتركة لمهام الأزمات، وهي الفكرة عينها التي أيدتها، في ذلك الوقت، المستشارة الألمانية آنذاك أنغيلا ميركل، وإن رأت أنها يجب أن تكون جزءاً مما سمته "هيكل التعاون الدفاعي".
في ذلك العام كان ماكرون قد حذر بالفعل من أن الأوروبيين لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة للدفاع عنهم، ورداً على قرار الرئيس ترمب وقتها بالانسحاب من معاهدة نووية موقعة عام 1987 مع روسيا، والتي تحظر الصواريخ متوسطة المدى التي تطلق من الأرض، قال ماكرون، "من هو الضحية لمثل هذا القرار؟". وأجاب أن أوروبا وأمنها، هم من سيدفعون الثمن الباهظ حكماً.
وفي حواره ساعتها مع إذاعة "فرنسا الحرة" أضاف، "أريد بناء حوار أمني حقيقي مع روسيا، وهي دولة أحترمها، وهي أوروبية أيضاً، ولكن يجب أن تكون لدينا أوروبا القادرة على الدفاع عن نفسها، بمفردها، من دون الاعتماد على الولايات المتحدة".
وفي الحوار عينه تطرق ماكرون لقضية الأمن السيبراني فقال، "علينا أن نحمي أنفسنا في ما يتعلق بالصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة".
كان الغريب والعجيب أن يكتشف الأوروبيون في تلك السنة تجسساً أميركياً سيبرانياً عالي المستوى عبر برنامج "بريسم" الذي راحت ضحيته المستشارة ميركل أول الأمر، وماكرون نفسه تالياً، وكل من فكر في الانسلاخ عن العم سام.
بدت دعوة ماكرون لبذل جهد أوروبي أكبر وأكثر نابعة من مجموعتين من العوامل: دعمه المشروع الأوروبي الأكبر من ناحية، والرعب مما كانت تفعله إدارة ترمب وقتها من ناحية أخرى، لا سيما في ظل إلغائها عديداً من المعاهدات والانسحاب من غيرها من الاتفاقات، وما إلى ذلك.
هل عاد الرعب، مرة أخرى، ليخيم فوق سماوات أوروبا بعد الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري؟
بودابست والطريق لأوروبا المستقلة
بعد يومين من يقين مطلق بأن أوروبا على موعد مع أربع سنوات جدد للرئيس ترمب، دعا نحو 50 زعيماً أوروبياً اجتمعوا في بودابست، إلى موقف دفاعي أقوى في جميع أنحاء القارة، بحجة أنه حان الوقت لتقليص الاعتماد على واشنطن، وإن رحبوا بالرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب.
وأعادت قمة المجموعة السياسية الأوروبية تقييم العلاقات عبر الأطلسي على أمل أن تتجنب رئاسة ترمب الثانية للولايات المتحدة الصراعات التي شهدتها إدارته الأولى. وبدا أن الرئيس الفرنسي من جديد هو حجر الزاوية الأوروبية الحديث، وبما يتسق مع حفيد ديغول، فقد كان قبل نحو بضعة أسابيع، وفي برلين، قد صرح بأن أوروبا لم تعد أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية وأن الاهتمام الأكبر بات منصباً على الصين بالتحديد، ومواجهتها أو التنسيق معها، ضمن قطبية ثنائية قائمة وقادمة، وأن على أوروبا أن تسعى إلى تأمين ذاتها بذاتها.
في بودابست، قال ماكرون لزعماء الاتحاد الأوروبي عن ترمب "لقد انتخبه الشعب الأميركي، وسوف يدافع عن المصالح الأميركية"، مضيفاً أنه ليس من دور زعماء الاتحاد الأوروبي "التعليق على الانتخابات. والتساؤل عما إذا كانت جيدة أم لا".
ما السؤال عند ماكرون إذاً؟
السؤال هو، والكلام لماكرون، هل نحن على استعداد للدفاع عن المصالح الأوروبية؟ هذا هو السؤال الوحيد: إنها أولويتنا؟ ويمكن للقارئ أن يتساءل: هل هذا توجه فرنسي فقط؟ أم أن هناك أصواتاً أوروبية أخرى ترى ما يرى ماكرون، مما يعني أن الأمر بمثابة رؤية أوروبية جماعية، وليست توجهاً فرنسياً منفرداً؟
يتفق رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة شارل ميشيل على أن القارة في حاجة إلى أن تصبح أقل اعتماداً على الولايات المتحدة، وقال "يتعين علينا أن نكون أكثر تحكماً في مصيرنا، ليس بفضل دونالد ترمب أو كامالا هاريس، بل بفضل أطفالنا".
أما رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس فأشار إلى أن "الوقت قد حان للاستيقاظ من سذاجتنا الجيوسياسية وإدراك أننا في حاجة إلى تخصيص موارد إضافية حتى نتمكن من معالجة التحديات الكبرى. إنها مسألة تنافسية ودفاع أوروبي". فيما قال رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، "إن من المؤكد أن ترمب قال كثيراً من الأشياء أثناء حملته الانتخابية"، مضيفاً "هذه الأشياء لن تظهر كلها في سياساته الرسمية، والتعاون عبر الأطلسي له أهمية قصوى بالنسبة إلى المصالح الأميركية، أيضاً كما الأوروبية".
أوروبا والخوف من الموت التاريخي
ما الذي تخشاه أوروبا قيادة وشعباً في حقيقة الأمر؟ هل يخشون من الأميركيين أو من الروس والصينيين؟ وربما من الشعوب القاطنة وراء الأحراش على حد تعبير المسؤول الأوروبي عالي المستوى جوزيب بوريل، تلك التي تبغي القفز إلى داخل الحديقة الأوروبية؟
من المؤكد أن هناك بعض الاختلالات التي جرت في العقدين الأخيرين، ودفع الأوروبيون ثمنها، لمصلحة العم سام.
البداية من عند روسيا الاتحادية، التي حلم الأوروبيون بتحولها إلى صديق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانطلاقاً من كون روسيا أوروبية باعتراف ماكرون، فقد سادت رغبة في دمجها ضمن السياقات الأوروبية، وقد كانت ألمانيا هي الأقرب جغرافياً وديموغرافياً، روحياً ونفسياً، مجتمعياً واقتصادياً لتحقيق هذا الحلم.
من جانب آخر، بدت الصين، بدورها، على عتبات مرحلة تاريخية غير مسبوقة من التقارب مع أوروبا والدخول في شراكات عضوية، وقد بلغ الأمر حد دولة مثل إيطاليا، أن توثقت علاقاتها مع الصينيين إلى حد زجر بقية دول الاتحاد الأوروبي لها.
على أنه، فجأة، بدت السماء مليئة بالغيوم فوق سماوات أوروبا الحالمة بعصر ذهبي جديد، لا يقل أهمية عن زمن La belle époque أو الحقبة الجميلة التي أعقبت الحروب التاريخية، حرب الـ30 عاماً، واتفاق "ويستفاليا".
خرج الفيروس "كوفيد" ليظهر للأوروبيين، عن عمد أو من دون قصد، لا أحد يعلم حتى الساعة، مدى الهشاشة الصينية، مما أدى إلى تبخر حلم الشراكات مع آسيا، وبزوغ الزمن الأوراسي مرة جديدة.
وعلى الصعيد الروسي، كانت المخاوف الروسية من المخططات الأميركية الخاصة باقتراب "الناتو" من حدود روسيا الغربية، الدافع الرئيس وراء عملية أوكرانيا العسكرية، مما أرجع الهواجس القديمة وأحيا المخاوف الغابرة عند الأوروبيين من عودة سوفياتية مقنعة أو ملفوفة في قفاز من حرير يرتديه القيصر بوتين.
في الأثناء لم يكن لتخفى عن الأوروبيين حالة الاستقطاب المجتمعي الأميركي، تلك التي صاحبت انتخابات الرئاسة 2024، مع المهددات التي روج لها كثر، في مقدمها الحرب الأهلية بين الأميركيين أنفسهم، وهو تهديد، غالب الظن، لا يزال قائماً لم يتوارَ، ولن يتوارى دفعة واحدة، ما يعني أن أميركا قد تنشغل في الداخل عن مآلات غيرها.
من هنا يتفهم القارئ جدوى التحذيرات التي أطلقها الرئيس الفرنسي ماكرون في خطاب له بجامعة "السوربون" في العاصمة الفرنسية في أواخر أبريل (نيسان) الماضي. ففي خطابه قال ما نصه، "هناك احتمال أن تموت أوروبا التي نعرفها، فلسنا مجهزين لمواجهة الأخطار"، ومحذراً من أن الضغوط العسكرية والاقتصادية وغيرها يمكن أن تضعف وتفتت الاتحاد الأوروبي المكون من 17 دولة.
وتابع ماكرون بالقول إنه لا ينبغي السماح لروسيا بالانتصار في أوكرانيا، ودعا إلى تعزيز قدرة أوروبا في مجال الأمن الإلكتروني وتوثيق العلاقات الدفاعية مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي وإنشاء أكاديمية أوروبية لتدريب كبار القادة العسكريين. يومها قال ماكرون، "يجب أن نظهر أن أوروبا ليست تابعة للولايات المتحدة، وأنها تعرف، أيضاً، كيف تتحدث مع مختلف المناطق الأخرى في العالم". ودعا إلى امتلاك ما أطلق عليه "خيار الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، ذلك الذي يتضمن تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وهو الموقف الذي اكتسب صدى أكبر مع فوز ترمب بالرئاسة الأميركية، لا سيما أنه كثيراً ما اتهم ترمب أوروبا "بإلقاء المسؤوليات الدفاعية على عاتق الولايات المتحدة".
على أن القارئ الجيد للمشهد الأوروبي يدرك أن مخاوف ماكرون ونظرائه من الأوروبيين، وإن غلبت عليها السمة العسكرية، إلا أن هناك نقاطاً أخرى تخاطر أوروبا من أن تضحى "كعب أخيل" بالنسبة لها، ومنها التخلف الاقتصادي في سياق تواجه فيه التجارة الحرة تحدياً من قبل منافسين رئيسين، ولهذا يرى ماكرون وصحبه أنه يجب أن تصبح أوروبا رائدة عالمياً في عالم الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والفضاء التكنولوجي والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة.
ويرى المتخصصون الأوروبيون أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي الاتفاق على إعفاءات من قواعد المنافسة الخاصة به حتى يتمكن من دعم الشركات في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء في مواجهة "الإفراط في الدعم" من جانب الولايات المتحدة والصين.
فوز ترمب هل هو كارثة لأوروبا؟
يبدو أن علامة الاستفهام المتقدمة هذه هل التي تشغل ذهن الأوروبيين حالياً، وفي وقت يجتمعون فيه في بوادبست، لم يعد هناك مفر من مواجهة لحظات الحقيقة ومكاشفة الذات الأوروبية.
يكتب بول تايلور الزميل الأول في مركز السياسة الأوروبية عبر "بولتيكيو" الأميركية يقول إنه لا توجد إلا أخبار سيئة في فوز دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية، وإن السؤال الوحيد هو إلى أي مدى ستسوء الأمور؟
يرى تايلور أنه بات في حكم المؤكد أن الأوروبيين سيعانون استراتيجياً واقتصادياً وسياسياً من جراء الشعار الذي رفعه بايدن "جعل أميركا أولاً وأميركا أفضل"، لا سيما في ظل الجماهير الغفيرة التي دعمته ورفعته إلى البيت الأبيض بفارق ساحق في أصوات المجمع الانتخابي.
فضلاً عن ذلك فإن على الأوروبيين أن يخشوا من نهجه غير المتوقع والمعاملاتي في الشؤون العالمية، بدءاً من إمكانية تقويض حلف "الناتو"، مروراً بتشجيع القوميين غير الليبراليين في كل مكان، وإذكاء جذوة الحرب التجارية عبر الأطلسي، والمعركة المنتظرة حول التنظيم الأوروبي لمنصات التواصل الاجتماعي الأميركية، تلك التي باتت تشكل، بالفعل، خطورة حقيقية على مقدرات القيم والمنظومات الأخلاقية الأوروبية التقليدية.
أما المجالات التي ستمثل النوازل بالنسبة إلى الأوروبيين ففي مقدمها عالم الذكاء الاصطناعي بما يحمله من مهددات للأمن القومي الأوروبي، من جهة، ولمقدرات الحياة الاقتصادية، بنوع خاص، من جانب آخر.
وفي عالم المال والأعمال، هناك أزمات لقضايا تتجلى في الأفق مثل العملات المشفرة، وهل يمكن أن تنهي سطوة الذهب والفضة، ناهيك بنظام مالي لـ"بريتون وودز" استقر واستمر، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.
ولأن الأوروبيين يدركون تماماً أن ترمب يعد الصين العدو الاستراتيجي الأول لهم، لذا فإنهم يخشون من خطر التورط في صراع تجاري متفاقم بين الولايات المتحدة والصين مع احتمال التعرض لضغوط شديدة من واشنطن لتقليص العلاقات الاقتصادية مع بكين في حين تواجه فيضاناً محتملاً من السلع الصينية الرخيصة التي يتم تحويلها بسبب التعريفات الجمركية الباهظة من السوق الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل انتهت إذا أزمنة الوفاق الأوروبي - الأميركي بصورة حقيقية؟
الجواب بالمطلق قد يتجاوز الواقع، لكن في كل الأحوال لا يمكن للمرء أن يغفل ما صرح به، نهاية الأسبوع الأول شهر نوفمبر الجاري، رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، أحد زعماء يمين الوسط الأقوياء القلائل في الاتحاد الأوروبي، من أن "عصر الاستعانة بمصادر خارجية جيوسياسية قد انتهى"، وأن أوروبا في حاجة إلى أن تنضج أخيراً وتؤمن بقوتها الخاصة.
في هذا السياق يبدو جلياً أن دول الاتحاد الأوروبي تدير سياساتها التجارية بصورة مشتركة، لذا فقد أنشأت المفوضية الأوروبية فريقاً خلف الكواليس استعد بقوة لعودة ترمب. غير أن السؤال الذي لا يبدو الجواب عليه واضحاً حتى الساعة، هو ما إذا كانت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية ستكون قادرة على حشد دول الاتحاد الأوروبي الـ27 خلف خط مشترك، لا سيما أنه قد يكون هناك تكرار للاندفاع غير اللائق إلى واشنطن الذي شهدته أوروبا خلال فترة ترمب الأخيرة لكسب ود البيت الأبيض ومحاولة تأمين شروط أفضل للدول الأوروبية الفردية، ربما من خلال شراء مزيد من الأسلحة الأميركية.
في رسالة تهنئتها لترمب بمناسبة فوزه، كتبت فون دير لاين تقول، "ملايين الوظائف ومليارات الدولارات في التجارة والاستثمار على جانبي الأطلسي تعتمد على ديناميكية واستقرار العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبروكسل". غير أنه، وعلى رغم هذه اللغة التصالحية والتسامحية من جهة فون دير لاين، فإن معظم زعماء أوروبا موقنون بأن ترمب رئيس مهووس بمسألة اختلال التوازن في تجارة السلع مع أوروبا، بخاصة السيارات الألمانية، وأن رهان ترمب الرئيس هو الاقتصاد الذي قاده إلى البيت الأبيض بقوة، ولهذا فإنه لن يقيم وزناً للعسكرة بقدر اهتمامه بالاقتصاد، وهو أمر يتسق مع كونه رجل اقتصاد وليس رجل سياسة، وقد جاء من خارج المؤسسة السياسية الأميركية، ويؤمن، في قرارة نفسه، بأن الشعوب تمشي على بطونها، وأن من يعطي الخبز يعطي الشريعة أيضاً.
لكن، وعلى رغم نقاط الافتراق المتقدمة، فإن هناك علامة استفهام تبدو في الوقت الحاضر هي الأخطر بالنسبة إلى أوروبا، وهي متعلقة بأوضاع الصراعات العسكرية، وما إذا كانت أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها، مما يعني بالفعل انقطاع الحبل السري مع الولايات المتحدة الأميركية، أم أنها ستظل في حاجة ماسة إلى مد الجسور العسكرية مع الولايات المتحدة إلى أجل غير مسمى؟
الجيوش الأوروبية من دون مدافع أميركا
كشفت الحرب الروسية في أوكرانيا عن الحالة التي وصلت إليها الجيوش والصناعات الدفاعية الأوروبية بعد عقود من جني ثمار السلام، فضلاً عن اعتمادها العميق على الولايات المتحدة.
من هنا، يرى كبار الاختصاصيين في عالم الدفاع الأوروبي من أمثال كاميل غراند الزميل السياسي المتميز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ورئيس مبادرة الدفاع والأمن والتكنولوجيا في المنظمة، أن رئاسة ترمب الثانية قد تؤدي إلى تقليص الدعم الدفاعي الأميركي لأوروبا بصورة كبيرة، ولكن بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن تدهور البيئة الأمنية الأوروبية وتغير أولويات الولايات المتحدة يعنيان أن أوروبا في حاجة إلى الاستعداد لتحمل المسؤولية عند دفاعها.
هل يعني ذلك أن أوروبا لا تمتلك بالفعل أي قدرات دفاعية وأن الحاجة إلى الدعم العسكري الأميركي، هو فرض وليس نافلة، إن جاز التعبير؟
للوهلة الأولى تبدو أوروبا تمتلك الوسائل الدفاعية اللازمة للدفاع عن نفسها فقد أنفق حلفاء "الناتو" الأوروبيون ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعين ما يزيد على روسيا بأربعة إلى واحد على الدفاع عام 2023، وقواتهم العسكرية المجمعة أكبر من قوات روسيا أو الولايات المتحدة، وتنتج صناعات الدفاع الأوروبية بعضاً من أكثر أنظمة الأسلحة تقدماً، وتوجد ست دول أوروبية بين أكبر 10 دول مصدرة للأسلحة في العالم. وأخيراً، وليس آخراً، فإن الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا أكبر بـ10 مرات من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا وفي المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. غير أنه وبعد عقود من "أرباح السلام" والانتفاع المجانية من القيادة العسكرية الأميركية والاستعداد لأصعب السيناريوهات في أوروبا، وتوفير القدرات الأساسية، فإن ضمور القوات العسكرية والصناعات الدفاعية الأوروبية على مدى عقود من الزمان، جعل مساعدتها لأوكرانيا معقدة وبطيئة، والآن تبدو إعادة بناء الجيوش الأوروبية صعبة للغاية.
والثابت أن الهجوم الروسي الكامل على أوكرانيا عام 2022 كان بمثابة جرس إنذار لعديد من الأوروبيين، لكن البيئة الأمنية في أوروبا كانت في الواقع تتدهور منذ فترة أطول بكثير.
هنا، وبصرف النظر عن نتائج الحرب على أوكرانيا فمن المعقول أن نفترض أن العلاقات بين روسيا والغرب ستظل مواجهة في المستقبل المنظور، سواء في نهاية المطاف في وضع جديد من الحرب الباردة، أو مع مزيد من الأزمات أو الصراعات القادمة.
هنا يبدو وكأن الرئيس الفرنسي ماكرون قد امتلك بالفعل أعين اليمامة بحديثه عن الصراع الأوكراني الذي غير العصر في مختلف أنحاء القارة. كيف ذلك؟
في مارس (آذار) 2022، وعبر خطاب مدته 14 دقيقة على شاشة التلفزيون الفرنسي، وفي وقت الذروة، حذر ماكرون من أن فرنسا تواجه اضطرابات وأسعاراً أعلى، وأن البلاد وشركاءها الأوروبيين يجب أن يستثمروا للتخلص من الاعتماد على الغاز الروسي وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الطاقة، إضافة إلى معالجة قضايا الدفاع والأسئلة حول إنتاج الغذاء. يومها قال ماكرون، "لم يعد بوسعنا الاعتماد على الآخرين لإطعامنا أو رعايتنا أو إعلامنا أو تمويلنا". غير أنه توقف طويلاً أمام فكرة الاعتماد على الآخرين في الدفاع عن الأوروبيين، سواء على الأرض أو في البحر، أو تحت سطح البحر، أو في الجو، أو في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية، ناهيك بالمعارك القادمة في عالم الفضاء الإلكتروني. هل من رؤية بعينها تحكم ماكرون وتدفعه في طريق إطلاق بوق قرن الإنذار للدفاع عن أوروبا الموحدة، وربما بعيداً من الولايات المتحدة الأميركية؟
يقطع ماكرون بأن الحرب في أوروبا لم تعد تنتمي إلى كتب التاريخ أو الكتب المدرسية، بل إنها هنا أمام أعين الأوروبيين أنفسهم، وإن الديمقراطيات لم تعد تعتبر أنظمة تقبل الشك، بل أصبحت موضع تساؤل أمام أعين الجماهير الغفيرة في نهايات العقد الثالث من القرن الـ21، كما أن حريات الأوروبيين ومستقبل حريات أطفالهم لم تعد أمراً مفروغاً منه، كما كانت الحال بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
هل الأوروبيون يخشون من أن يتمدد هجوم القيصر الروسي ليطاول بلادهم، وعليه يبدو سؤال الجيش الأوروبي كبديل للبقاء في دائرة القوة العسكرية الأميركية؟
المؤكد أن الدعم الأوروبي العسكري لأوكرانيا تحديداً، هو ما فتح الباب واسعاً أمام الهواجس الأوروبية من عمليات عسكرية روسية، وهو أمر واقع في حقيقة الأمر، بل إن بعض الجنود الروس، وفي لحظات من سخونة الرؤوس قالوا إنهم عما قريب سيصلون إلى برلين إن استمر الدعم العسكري الألماني لكييف.
هنا يطفو على السطح تساؤل مثير وخطر، هل قصة الدفاع الأوروبي موصولة حكماً بوجود "الناتو"؟
مؤكد أنه ما من "ناتو" من دون أميركا، لكن ماذا لو حمل ترمب في جعبته مبادرات إلزامية لكييف تدفعها للتخلي عن بعض من أراضيها، إرضاءً للقيصر؟
من المؤكد أن استراتيجية ترمب المعلنة والخفية، ستسعى إلى إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية بأي ثمن، فسيد البيت الأبيض هدفه الرئيس حصار الصين ومواجهتها، لا إثارة الدب الروسي.
يقول الأمين العام الجديد لحلف "الناتو" مارك روته إنه حال فعل ترمب ذلك فستضطر أوروبا إلى حذف أميركا من "الناتو"، مما يقودنا إلى تساؤل جوهري يخشى كثر الاقتراب منه، "ما مصير حلف الأطلسي في السنوات الأربع التي سيشغل فيها ترمب البيت الأبيض"؟
الجواب ربما يتجاوز السنوات الأربع، فهناك من يرى أن انتصار الجمهوريين الساحق الماحق في الانتخابات الأخيرة سيرسخ حقبة جمهورية تطول 12 سنة مقبلة.