Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مايو 1968: حين قال طلاب فرنسا للجنرال ديغول "لا"!

بدأ الحراك بعيداً من أحزاب اليسار التي هاجمته أولاً ثم ركبت موجته وتوسع مع انضمام العمال إليه

بدا واضحاً، أنه من الصعب السيطرة على جيل عالمي من الشباب، نزل إلى الشوارع ليقول لا: للحرب والكبت والفقر (أ ف ب)

ملخص

بحلول النصف الثاني من الستينيات بدأت فرنسا تدخل في أزمة اقتصادية خانقة ارتفعت معها معدلات البطالة إلى مستويات قياسية بلغت نحو نصف مليون عاطل عن العمل ما أدى إلى اندلاع احتجاجات عنيفة انطلقت من الجامعات

"عندما وقعت أحداث مايو (أيار) 1968، حملت شيئاً لا يصدق حقاً: ليس لأن ما حدث لم يكن متوقعاً وحجمه مفاجئ، ولكن لأنه جعل الكلمات المكبوتة مسبقاً مسموعة علناً أو حتى غير متخيلة، ولأنه وقع في الساحات العامة وعلى مرأى الجميع".

بتلك الكلمات، لخص الكاتب الفرنسي والمتخصص في مجال العلوم السياسية بوريس غوبي، في كتابه "مايو 68" التمرد الطلابي الذي انطلق من باريس ووصل إلى كل المدن الفرنسية، مشعلاً اضطراباً كبيراً أفضى إلى أزمة وطنية حقيقية، إذ عطلت الاعتصامات والإضرابات، لفترة وجيزة، الاقتصاد العام في البلاد وأعمال الحكومة، ومهدت لإصلاحات وقرارات جديدة انعكست على كل نواحي الحياة في فرنسا.

لكن ما حقيقة ما نعرف عن وقائع مايو 1968 في فرنسا؟

وقفة تاريخية

في أوائل ستينيات القرن الـ20، حظيت فرنسا بفترة استقرار عامة بسطتها الجمهورية الخامسة التي بدأ عهدها مع الجنرال شارل ديغول في عام 1958، وتمكن الدستور الجديد من التعامل مع الأزمة الجزائرية بعد فشل نظام الجمهورية الرابعة، وذلك بعد أن سمح بإنهاء المستعمرات الأفريقية، فانتهى احتلال دام نحو 13 عقداً للجزائر.

تقاطع هذا الاستقرار السياسي مع "الثلاثينيات المجيدة" التي شهدت فيها غالب الدول المتقدمة، ومن بينها فرنسا، نمواً اقتصادياً، أسست على أثرها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 1961 ومقرها باريس.

غير أن هذا الانتعاش الاقتصادي لم يعرف طريقه إلى بيوت الفرنسيين، وبحلول النصف الثاني من الستينيات بدأت فرنسا تدخل في أزمة اقتصادية خانقة ارتفعت معها معدلات البطالة إلى مستويات قياسية بلغت نحو نصف مليون عاطل عن العمل، وأكثر من مليونين آخرين غير راضين عن أجورهم.

وبدأ العمال منذ عام 1967 يحتجون بصوت مرتفع على استبداد أرباب العمل ويطالبون بزيادة أجورهم وتقليص عدد ساعات العمل، وحدث أن أضربوا واحتلوا مصانع يعملون فيها.

على الجانب الآخر كان طلاب الجامعات الفرنسية يشعرون بالتهميش والاستياء، ويعانون نقص الدعم والتمويل، إلى جانب نقص فرص العمل، وكثير ما شعروا بالغضب من القيود التي فرضتها عليهم المؤسسة التعليمية التقليدية، حتى إنه في عام 1966 صدر بيان عنوانه "البؤس الطلابي ومقترح متواضع لعلاجه" من قبل طلاب جامعة ستراسبورغ، لم يتطرق إلى أزمة الجامعات في فرنسا فحسب، بل إلى الأزمة في أوروبا بالعموم.

 

وفي كتابه ذاته "مايو 68" أشار غوبي إلى أن حجم الاتحاد الطلابي الرئيس للجامعات راح يتقلص تزامناً مع ارتفاع عدد الطلاب، ففي حين ضم الاتحاد 100 ألف عضو في عام 1960، بمعدل طالب واحد من كل اثنين، انخفض العدد إلى ما بين 30 و50 ألفاً في عام 1965، بمعدل طالب من كل 10. لذا أخذ دور الاتحاد يتراجع شيئاً فشيئاً وانخفض دعمه أيضاً، مما وضعه في ضائقة مالية وعزله سياسياً ودفعه إلى حالة من الفوضى.

الرغبة بالإصلاح التعليمي ليست القضية الوحيدة التي شكلت وقتها المزاج الطلابي الغاضب بفرنسا، فهناك أيضاً تلك النظرة الناقدة تجاه حكومة الجنرال شارل ديغول "المحافظة" وأساليب إدارتها "الديكتاتورية" للبلاد وتضييقها على المفكرين، إلى جانب قضية الحرب الأميركية في فيتنام التي قوبلت بسخط شديد بين أوساط الطلبة والمثقفين الفرنسيين.

وكتبت الباحثة والمؤرخة جينيف دريفوس أرماند في العدد الشهري 330 من مجلة LHistoire: "في فرنسا منذ عام 1966 كانت التعبئة الطلابية الرئيسة ضد التدخل الأميركي في فيتنام، فهي تبلور تطلعات الشباب بأكمله بصورة أفضل لأنها تحدث خارج اليسار التقليدي".

"منذ بداية 1967 أصبح المناخ الاجتماعي ككل متصلباً. وظهرت أنواع جديدة من الصراعات: العمال الشباب، الذين غالباً ما كانوا يأتون في الآونة الأخيرة من المناطق الريفية، يشتبكون أحياناً مع الشرطة ويحتلون المصانع. في الوقت نفسه، تشهد البيئة الطلابية تغيراً عميقاً: فقد تضاعف عدد الطلاب الذي راح يتجاوز نصف المليون خلال سبع سنوات، في حين باتت هياكل التدريس التقليدية غير مناسبة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

متى وأين انطلقت شرارة الأحداث؟

على رغم اقتران انتفاضة عام 1968 بشهر مايو، فإن بعض الأحداث بدأت قبل أسابيع، وتحديداً من جامعة "نانتير" في غرب باريس التي افتتحت في عام 1963، لتخفيف الضغط عن جامعة "السوربون" العريقة والراسخة في قلب العاصمة، ولعل عزلة الحرم الجامعي الجديد في منطقة فقيرة وضخمة، هي ما جعله مكاناً مناسباً لاحتضان الحركات السياسية الطلابية الغاضبة، ولانطلاق أولى شرارات الأزمة.

هذا تحديداً ما أوضحته الكاتبة والصحافية ميشيل كوتا في كتابها "الدفاتر السرية للجمهورية الخامسة، 1965 ـ 1977"، مؤرخة ليوم الـ22 من مارس 1968 بالعبارات التالية "لم أعرف الحركة الطلابية جيداً، ومع ذلك فإن الجميع كان يعلم أن الأمور كانت تحدث في ’نانتير‘ منذ بداية العام، وهي جامعة أنشئت أخيراً قرب الأحياء الحديثة".

وأشارت في عرضها لما حدث في ذلك اليوم إلى مشادة كلامية حصلت في الجامعة بين وزير الشباب والرياضة الفرنسي فرانسوا ميسوف، والطالب دانييل كوهن الذي دان علناً "نظاماً فاشياً يمثله الوزير"، ثم قالت "تم اليوم اعتقال طلاب في الحرم الجامعي لمشاركتهم في تظاهرة مناهضة لأميركا في فيتنام، ونتيجة لذلك أسس رفاقهم حركة تحررية أطلقوا عليها اسم حركة ’22 مارس‘ وقرروا احتلال مباني جامعة نانتير".

نعم، تتفق مصادر عدة أن الشرارة الأقوى كانت في الـ22 من مارس، حين احتل نحو 100 طالب المبنى الإداري في جامعة "نانتير". وولدت حركة جديدة بقيادة كوهن بنديت، كرد فعل على عنف الشرطة ضد متظاهرين رافضين للحرب في فيتنام.

وخلال الأيام التالية أصبحت الحركة مسؤولة عن عديد من الصدامات بين الطلبة وممثلي المؤسسة الجامعية، بسبب قضايا تخص المجتمع الطلابي. لكن وبعد زيادة الحوادث والصدامات صدر قرار بإغلاق الجامعة في الثاني من مايو.

 

بإغلاق "نانتير" انتقل النشاط الجامعي إلى وسط باريس، وما كان سلسلة من الصدامات اليومية، تحول إلى أزمة بدأت تتصاعد عندما فرقت الشرطة بوحشية تجمعاً احتجاجياً نظمه طلاب في باحة جامعة "السوربون" في الثالث من مايو. وسرعان ما تضامن المجتمع الطلابي كله مع الـ500 طالب الذين اعتقلتهم الشرطة، فتحول الحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية إلى ساحة معركة، تسلح خلالها الطلاب بالمتاريس وزجاجات المولوتوف، ووصلت ذروتها في الـ10 والـ11 من مايو، إذ سقط قتلى وجرحى.

انضم العمال إلى الأحداث المتصاعدة، وبعد أن سئموا من الإضرابات العرضية والمفاوضات غير المثمرة، أعلن في الـ13 من مايو إضراب عام شامل غير مسبوق استمر لأسابيع، متسبباً بحالة من الشلل والجمود اجتاحت البلاد. وعمت الفوضى ووصلت المقاطعة إلى كل نواحي الحياة، وعلى سبيل المثال أوقف بعض صانعي الأفلام مثل جان لوك غودار الدورة الـ21 من مهرجان كان السينمائي في الـ19 من مايو تضامناً مع الشارع.

 

كيف انتهت الأزمة؟

في الـ20 من مايو تم تقدير عدد العمال المضربين بحسب صحيفة "لوموند" بـ10 ملايين عامل. كما تشهد أرقام القتلى وعدد لا يحصى من الجرحى، بعضهم خطر للغاية، والأضرار المتعددة للممتلكات المادية، عن العنف الذي وقع أثناء المواجهات بين عناصر الشرطة والمتظاهرين في الشوارع الفرنسية.

وحين أدركت الحكومة أن فرنسا ستتجه نحو حرب أهلية حتمية، قد يتعين على أثرها سقوط الجمهورية الخامسة، رأت أنه من المفترض التعامل مع الانتشار الطلابي في الساحات العامة بجدية أكثر.

حاول رئيس الوزراء جورج بومبيدو حل الأزمة مع النقابات، وجرى توقيع "اتفاقات غرينيل" في الـ27 من مايو، حققت للعمال زيادات في الأجور بلغت نسبة 35 في المئة. أما الجنرال ديغول الذي كان رافضاً بداية "الاستسلام أمام الشغب"، أعلن في الـ30 من مايو حل الجمعية الوطنية ودعا إلى انتخابات تشريعية جديدة فاز فيها "الديغوليون" بـ294 مقعداً من أصل 485 مقعداً.

الفوز الانتخابي الكبير لم يمنع ديغول من الاستمرار في "العملية الإصلاحية" استجابة لحل الأزمة، وفي الـ10 من يوليو 1968 استبدل وزير الحكومة جورج بومبيدو بموريس كوف دو مورفيل ودعا إلى استفتاء على إصلاح مجلس الشيوخ واستكمال سياسة اللامركزية.

من جهتها، توحدت كل القوى "المناهضة للديغولية"، من اليسار إلى الجمهوريين المستقلين، وصوتت بـ"لا" في الاستفتاء الذي جرى في الـ27 من أبريل (نيسان) 1969، ولما جاءت الغالبية رافضة بنسبة 52 في المئة أعلن ديغول استقالته من منصبه وغادر السلطة في اليوم التالي.

 

هل كان حراكاً مسيساً؟

ارتفعت في مايو 1968 شعارات مناهضة للاستبداد والرأسمالية والنزعة الاستهلاكية. ويمكن القول بأنها مثلت الفكر اليساري على أرض الواقع، إلا أن الأمر كان أكثر تعقيداً في ما يخص الارتباط الطلابي والعمالي الفعلي والمباشر بأحزاب اليسار.

وتؤكد عديد من المراجع المؤرخة لتلك الفترة أن الحزب الشيوعي الفرنسي شن في بداية الحراك الطلابي هجوماً لاذعاً على الطلاب الذين يقودونه، واصفاً إياهم أحياناً بالرعاع والهمجيين، على رغم تشابه الشعارات التي يرفعونها مع تلك التي يتبناها الحزب.

هدأ الهجوم بانضمام قادة يساريين إلى الحراك، مظهرين تعاطفهم مع الطلاب ومطالبهم الساعية إلى إلغاء القيود المفروضة من قبل الحكومة على الفرنسيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وحول ما يتعلق بارتباطات الحراك الطلابي مع الأحزاب السياسية كتب جيرد راينر هورن، أستاذ التاريخ السياسي في معهد العلوم السياسية بباريس، في مقال له نشر على موقع "SciencePo Bibliotheque": "الأمر معقد: ففي عام 1968 أصبحت الأحزاب اليسارية التقليدية (الشيوعيين والاشتراكيين، والديمقراطيين الاجتماعيين) معتدلة إلى حد كبير. حتى عام 1968 تحرك الطلاب أكثر نحو منظمات اليسار الجديد. لكن منذ عام 1968 بدأت الماوية والتروتسكية تشكل نقطة جذب لهؤلاء الطلاب".

كذلك صرح هورن أنه وفي مايو 1968 كان الحزب الشيوعي الفرنسي معادياً للطلاب بصورة علنية لذا فإن الوسط السياسي الذي يوجه الناشطون الجامعيون أنفسهم إليه بصورة تلقائية هو اليسار الجديد. لكن خيبات الأمل في مايو 1968 أسهمت في استمرار تطرف الطلاب، ونتيجة لذلك بدأ اليسار الراديكالي (بخاصة الماوية والتروتسكية) في التضخم.

من جهة أخرى، تحدث هورن في المقال نفسه عن القضايا التي حركت طلاب الجامعات الفرنسية، فقال "لقد أصبح هذا الجيل أيضاً مسيساً للغاية في الغرب حول مسائل الفقر والثروة في العالم الثالث. منذ منتصف الستينيات وحتى 1968 ـ 1969 أصبح عديد من الطلاب متطرفين حول هذه المسألة. إن نظرتهم للعالم الثالث تعطيهم صورة عالم بعيد من الكمال. وهو النقص الذي سيربطونه بعمل الدول الغربية المسؤولة عن التخلف. ومن خلال هذا ’الالتفاف‘ عبر العالم الثالث بدأ هذا الجيل بالنظر إلى مجتمعه بعين ناقدة. بل أصبح الأمر أكثر وضوحاً في الفترة من 1969 إلى 1970: كان الشباب مهتمين في البداية بالعالم الثالث، لكن انتقاداتهم أصبحت أكثر فأكثر قاسية تجاه مجتمعهم. وهكذا لعبت دول العالم الثالث دور المحرضين على التفكير النقدي".

 

هل كان حراكاً دولياً؟

في كثير من الأحيان تختزل أحداث "1968" في بعدها الباريسي والطلابي مقتصرة على شهر مايو وحده، الأمر الذي لا يزال واضحاً مثل "كليشيه" في عديد من الأعمال الفنية التي تناولت الأحداث، وحتى في الكتب والمقالات.

وفي فرنسا، أيضاً تحجب الأحداث البارزة في شهري مايو ويونيو (حزيران) التي تظل راسخة في الذاكرة الجماعية ما قبلها وما بعدها.

هنا، تؤكد جينيف دريفوس أرماند أن الاحتجاج لم يظهر فجأة في مايو 1968 ولم ينته عند هذا الحد، بل قد ظهرت الاحتجاجات تدريجاً في الستينيات واستمرت حتى السبعينيات عندما غيرت الحركات الاجتماعية الجديدة المجتمع بصورة عميقة.

وعلى حد قولها "يتعين علينا أن نعيد إلى ’سنوات 1968‘ مدتها، بل وأيضاً امتدادها الجغرافي، فباريس لا تحتكر الاحتجاج الفرنسي، كما أن ’الفضاء 68‘ كان ينتشر خارج الحدود على المستوى الدولي. خلال الستينيات والسبعينيات من بيركلي إلى طوكيو، ومن أمستردام إلى المكسيك، ومن روما إلى مدريد ووارسو، نشأت حركات احتجاجية برز فيها الشباب كفاعل اجتماعي جديد".

أما جيرد راينر هورن فيقول "بالطبع يمكننا أن نتحدث عن حركة دولية. حتى لو لم نتمكن، من ناحية التنظيم، من تحديد مقر دولي. نحن نميل إلى النظر إلى فرنسا باعتبارها الموقع المركزي لحركات مايو 68. ومن الواضح أن السبب وراء ذلك هو الإضراب العام. لقد أدى هذا الإضراب العمالي العام الذي بدأ في منتصف شهر مايو إلى تركيز انتباه العالم على فرنسا. في الواقع، عندما كان الطلاب وحدهم هم المضربين، لم يتعطل المجتمع! ولكن عندما أضرب العمال أيضاً، نظر الجميع حقاً إلى فرنسا".

ربما لم تكن هناك حركة دولية منظمة، ولكن مع ذلك كانت هناك ديناميكية دولية عفوية إلى حد ما. الأفكار انتشرت بين الدول وأثرت الحركات بعضها في بعض، إذ بدا واضحاً، أنه من الصعب السيطرة على جيل عالمي من الشباب، نزل إلى الشوارع ليقول لا: للحرب والكبت والفقر.

المزيد من تقارير