ملخص
نكبة لبنان تتجسد على كورنيش العاصمة اللبنانية بيروت حيث افترش النازحون من الجنوب الأرض بحثاً عن ملاذ من ويلات الحرب، وأصبحت العاصمة المثقلة بالمآسي ملجأ للمشردين، ووجوه البؤس تروي حكايات عن غياب الأمل وسط تباين الآراء بين الحرب والسلام.
يغص الكورنيش البحري للعاصمة اللبنانية بيروت بعدد كبير من العائلات النازحة والمهجرة من جنوب لبنان الذي يشهد منذ نحو شهر تصعيداً عسكرياً غير مسبوق، بين قصف دمر قرى بأكملها وتوغل بري إسرائيلي محدود حتى الساعة، وسط مخاوف من أن يتحول اجتياحاً برياً واسعاً.
كذلك تغص العاصمة بأبناء الضاحية الجنوبية الذين غادروها بعشرات الآلاف بعدما تحولت هدفاً يومياً لغارات إسرائيلية عنيفة، تقول تل أبيب إنها تستهدف مخازن أسلحة وصواريخ لـ "حزب الله".
وبالأمس شهد كورنيش بيروت البحري، والذي يعرفه اللبنانيون وكذلك السياح والأجانب جيداً بمنطقة "عين المريسة"، ما قيل إنه إشكال بين عشرات النازحين وقوى الأمن، لتوضح بعدها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في بيان أن ما حصل هو أن بعض الأشخاص عمدوا إلى استغلال الوضع في المنطقة واستحدثوا كثيراً من البسطات المتنوعة مما أدى الى تفاقم الفوضى والازدحام، فعملت قوى الأمن على إزالة هذه المخالفات.
وأضاف البيان أن النازحين الموجودين في المكان سينقلون إلى مكان آخر فور تأمين مأوى لهم بالتنسيق مع الجهات المعنية.
جولة في شوارع بيروت
نزلنا إلى شوارع العاصمة اللبنانية ومنها وصلنا إلى منطقة عين المريسة، الواجهة البحرية لبيروت، والتي إن عدنا عاماً للوراء أو حتى أقل لكان يمكن وصفها بأنها مكان سكن أغنياء لبنان حيث يقدر سعر الشقق السكنية بملايين الدولارات، لكن المشهد هناك تبدل تماماً اليوم، فعلى رصيفها البحري عائلات نازحة وفقراء لم يقدروا على استئجار منازل، فنصبوا الخيم ليبيتوا فيها وفي رصيفها المقابل مبان شاهقة يسكنها "أصحاب الملايين".
هناك التقت "اندبندنت عربية" عدداً من العائلات المنكوبة، والتي على رغم حالها الصعب حملت سجال لبنان الأكبر اليوم معها، بين من يقول إن الحرب لا بد من أن تستمر بوجه إسرائيل، وآخرون يعتبرون أنهم دفعوا ثمن جبهة الإسناد غالياً جداً، وأن النصر يأتي بالدخول بمفاوضات وقف إطلاق النار حقناً لمزيد من الدماء، وعودة العائلات لديارها وأرزاقها سالمة.
على رصيف عين المريسة الذي يعتبر أملاكاً عامة، افترش النازحون اللبنانيون الأرض للنوم منذ أيام تعدت الأسبوع، منهم من استسلم للنوم من دون فرش، وآخرون استطاعوا أن يأتوا ببعضها، فاعتبر وضعهم المأسوي أفضل من غيرهم، وما بين كل هؤلاء أمر مشترك بالتأكيد، وهو وجوههم الهاربة من حرب قاسية، لتصبح متشابهة في الشكل والمعاناة.
عند مرورنا بساحة عين المريسة تتكدس السيارات على أطراف الكورنيش بصورة عشوائية كونها تحولت إلى غرف نوم متنقلة تقطنها العائلات التي لم يحالفها الحظ بالفوز بمكان شاغر ضمن مراكز الإيواء والمدارس التي تستقطب المهجرين قصراً.
أعمدة الكورنيش أصبحت حبالاً لنشر الملابس المغسولة من مياه البحر المالحة، وقبالتها أطفال يجوبون الساحات بأقدامهم الصغيرة العارية، حالمين بعودة قريبة، فيما أهلهم يشهدون على حد وصف أحد كبار العشائر "النكبة الحقيقية الأشد فتكاً بالطائفة الشيعية".
الغاضبون والمصرون على النصر
يهمس بعض سراً، بخاصة أن كل النازحين من أبناء الجنوب أو الضاحية وهي مناطق بيئة الحزب، بأنهم في صدمة وأن ما يشهدونه اليوم لم يتوقعوه حتى في أبشع كوابيسهم، ويقولون "لا قدرة على التحمل، فاتورة الحرب الراهنة أتت أكبر مما توقعنا، والدخول فيها ربما لم يكن القرار الأنسب".
ويسأل أحد النازحين "لماذا لبنان المثقل بأوضاع صعبة واقتصاد منهك عليه أن يدافع عن غزة؟ نحن من نحتاج المساندة اليوم ولا أحد يقاتل لأجلنا، هذه الحرب عرت الجميع وكشفت لنا الحقيقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن فاتن عقيل، هي من إحدى العائلات النازحة من الضاحية الجنوبية لبيروت، لها رأي مختلف، إذ قالت "كل ما خسرناه لا شيء ونستطيع تعويضه، أولادنا الذين قتلوا سبقونا إلى مكان حيث لا وجع ولا ظلمة فيه"، وتهاجم عقيل الجمعيات بمختلف انتماءاتها "لأنها تستغل معاناتنا لتظهرنا للعالم عبر الإعلام بأننا شعب مذلول".
وتضيف، "إحدى الجمعيات الدولية التي جاءت صباحاً قدمت لي مساعدة مادية تبلغ 50 دولاراً أميركيا بشرط أن تلتقط صوراً لي ولأفراد عائلتي النازحة".
من ناحيته قال حسين جعفر، وهو أحد النازحين، "نزحنا هرباً من الجنوب تاركين وراءنا كل ما نملك، ومنذ يومين نزحنا أيضاً من الضاحية"، مضيفاً "نحن لا نريد أية مساعدة، فمعنا سيارة واحدة ومعنا سبعة أشخاص، نريد فقط سقفاً أو مسكناً يأوينا مهما كان ثمنه، وهناك من يعدنا بأنه سيبحث لنا عن مسكن، ولكن حتى الساعة لم نتلق أي خبر في هذا الشأن".
واللافت أن بعضهم يحمّل الدولة مسؤولية ما آلت إليه الأحوال، بخاصة أن المصارف ابتلعت أموالهم وهم في أمس الحاجة إليها الآن، كما يقولون.
حسن كرنيب يتدخل مقاطعاً بالقول "سننتصر حتماً سنتتصر"، وهو يحمل قفصاً في داخله عصفور، لينسحب ممتعضاً من استكمال الحديث.
وما بين الرافض لحاله والقائل إن هذا الوضع كان يمكن ألا يحصل، ومن يعتبر أن النصر آت على رغم الخسائر الكبرى، تبقى بعض الوجوه محايدة في مقاربتها لما يحصل، معتبرة أن لبنان اليوم بالنتيجة هو من يدفع الثمن الأكبر، بغض النظر عن كل التفاصيل، ويختار هؤلاء أن يشغلوا وقتهم بمساعدة نازحين آخرين ويوزعون الطعام بمبادرات فردية، ويقول جواد "العالم لبعضها بعضاً، وما نحن إلا خدم على هذه الكرة الأرضية".
ويصر هذا الشاب العشريني على أن يقدم لنا القهوة من مطبخه المتواضع في حافلة صغيرة أصبحت اليوم منزله الثاني، كما لم يشأ أن نغادر من دون أن يهدينا البيض البلدي من مزرعته التي تركها وهو على يقين بأنه سيعود لها، متوقعاً "نفوق الدجاج هناك لعدم توافر من يمدهم بالماء".
مدارس لاستقبال النازحين
في بيروت افتتحت مدرسة البطريركية التابعة للطائفة المسيحية أبوابها لتستقبل العائلات النازحة، وقد استقبلت مدرسة البطريركية 350 لبنانياً منذ أن فتحت أبوابها للنازحين، وفي غضون يومين فقط امتلأت شأنها كسائر المدارس المحيطة بها.
وفي حديثنا مع أحد المنظمين في مدرسة البطريركية يقول "نعمل على فتح المساجد وعدد آخر من المدارس، فعدد النازحين كبير جداً ونحاول جاهدين خدمتهم، وهنا في البطريركية لسنا بحاجة إلى أي شيء، فالغذاء والكهرباء والماء متوافرة بكثرة وتوزع بكميات عادلة ومنظمة".
ورداً على سؤال عن وجود مشكلات بين النازحين وأهل المنطقة كما أشيع في مواقع التواصل الاجتماعي، يجيب قائلاً "لا، بل هم من يساعدوننا في التنظيم ومد يد العون للمهجرين".
تختزل هذه الأوضاع صورة مؤلمة ومليئة بالتحديات التي يواجهها اللبنانيون في ظل الحرب والنزوح، بين مشاهد الفقر والمعاناة وبين آمال الصمود والعودة، وفي مواجهة هذه النكبة تظهر روح التضامن بين اللبنانيين، سواء في استقبال النازحين أو توفير الدعم المادي والغذائي، إلا أن هذه الجهود الفردية تبقى غير كافية في ظل غياب الحلول السياسية والمساعدات المستدامة.
أرقام النزوح غير مسبوقة
في حديث لـ "اندبندنت عربية"، يكشف المدير التنفيذي لشركة "ستاتيستكس ليبانون" ربيع الهبر أن "لبنان يستضيف 1.2 مليون نازح، معظمهم متمركزون في منطقتي جبل لبنان والشمال، وفي المقابل بلغ عدد النازحين من لبنان إلى سوريا نحو 340 ألفاً حتى الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري بينهم أكثر من 256 ألف سوري".
وأضاف الهبر أن "لبنان يحوي حالياً 900 مركز إيواء، وهذا العدد في تزايد مستمر، بينما تقدر الحاجات الطارئة بنحو 474 مليون دولار، ويبلغ عدد المسجلين في مراكز الإيواء 700 ألف شخص".
الهبر أشار إلى أن "هناك تحديات كبيرة بخصوص موسم الشتاء المقبل بعد أسابيع قليلة، إذ تُلقيت أموال كبيرة كتمويل من دول عربية عدة، ولكن لبنان لا يزال بحاجة إلى 374 مليون دولار إضافية، وجميع هذه الهبات والمساعدات تذهب مباشرة إلى الدولة اللبنانية".
وفي ما يتعلق بمسألة استغلال النازحين التي نوقشت خلال الأيام الماضية، وفيها أن لبنانيين أو سوريين غير نازحين عمدوا إلى ترك منازلهم لتأجيرها بمبالغ كبيرة وتوجهوا إلى مراكز الإيواء للاستفادة أيضاً من المساعدات، استبعد الهبر ذلك مشيراً إلى أن "الوضع تحت السيطرة بفضل قاعدة البيانات التي توضح مكان تسجيل كل نازح والقرية التي ينحدر منها".