Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيكاسو وبراك... من "اخترع الفن التكعيبي" قبل قرن وأكثر؟

الباحثون يجيبون: لا هذا ولا ذاك بل سيزان الذي رحل قبل ولادة التيار

من أعمال جورج براك في التيار التكعيبي  (موقع الفنان)

منذ ولادة الفن التكعيبي قبل قرن وأكثر خلال العشرية الثانية من القرن العشرين ثمة سؤال لا يبارح أذهان الباحثين والمؤرخين، بل الناس العاديين من محبي الفن التشكيلي ومتابعي مسيرته، يتعلق بالفنان الذي يجدر اعتباره الأب الشرعي لهذا التيار الذي كان واحداً من التيارات الفنية الأكثر تأثيراً وشعبية طوال القرن الماضي. ويكاد الجواب يتأرجح عادة بين اثنين كانا حينها زميلين وصديقين تتوزع الآراء والترجيحات بينهما، حتى وإن كان ثمة ميل لترجيح كفة أشهرهما، بابلو بيكاسو على كفة الثاني، جورج براك. وغالباً ما يعزو أنصار الرأي الذي يجعل الأبوة للأخير رأي الآخرين إلى شهرة بيكاسو وكونه خاض الإعلام والنضالات السياسية بحيث بدا اسمه غالباً على الدوام.

على هامش معرض أساس

والحال أن هذا السؤال الذي يعود بين الحين والآخر ليشغل الدوائر الفنية، يتاح له أن يزداد صخباً وحدة لمناسبة بارزة من المناسبات. ومن ذلك، مثلاً في عام 1989، حين أقام متحف "موما" (متحف الفن الحديث في نيويورك) واحداً من أكبر المعارض على مدى القرن العشرين كله للحديث عن التكعيبية وعرض أبرز إنتاجتها حتى ذلك الحين. وقد أتت متمثلة في أكثر من 350 قطعة بين لوحة ورسمة ومنحوتة لبيكاسو وبراك وكثر غيرهما جيء بها من مختلف أنحاء العالم لتقدم بانوراما أكثر من شاملة لتلك المرحلة المهمة من تاريخ الحداثة الفنية، التي في رأي المعرض بدأت مع لوحة "آنسات آفينيون" (1907) لبيكاسو ومع "الرجل ذو الغيتار" لبراك (1914) للتواصل عقوداً طويلة بعد ذلك. ولسوف نتناول هذه الاختيارات بعد سطور ولكن بعد أن نشير إلى أن ذلك المعرض الذي انتقل بعد ذلك إلى بال في سويسرا فيما رفض مركز بومبيدو الفرنسي استعادته لأسباب ظلت غير مفهومة، كان مناسبة لصدور عديد من الكتب الدراسية والتاريخية التي أتت في معظمها سجالية تدور تحديداً من حول السؤال الذي نطرحه هنا حول "أبوة" التكعيبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومهما يكن من أمر لا شك أن في وسعنا في هذا الإطار أن نستعيد فكرة أساسية جرى التوافق عليها حينها وهي أنه لئن كانت التكعيبية فد ظهرت أول الأمر كمفهوم بصدد الحديث عن معرض أقيم عام 1908 للوحات لجورج براك كان محكمو الصالون الرسمي قد رفضوها، فعرضها غاليري كاهنفيللر في نوع من التحدي، فإن الأسلوب نفسه قد ولد، ومن دون اسم محدد، قبل ذلك بعام حين شوهدت للمرة الأولى لوحة بيكاسو "آنسات آفينيون".

والدان شرعيان وأكثر!

إذاً، من الناحية الظاهرية والمنطقية، نحن هنا أمام ولادة مزدوجة ووالدين شرعيين، وهو الأمر الذي يبرر ما كان براك نفسه يعلنه حتى آخر أيامه حين يسأل عن الموضوع، فيجيب بشكل غامض، "لقد كانت لدينا على أي حال أفكار مشتركة بين بيكاسو وبيني"، فيما كان بيكاسو يتملص من الإدلاء بأي جواب هو الذي في كل مرة كان يطرح عليه السؤال نفسه يشير إلى كم أن أساليبه تتغير وتتبدل ما يجعله "ينسى" ارتباط مراحله بتواريخ محددة! ومن الواضح هنا أن بيكاسو الذي، وكما قلنا، ستفوق شهرته على مر العقود، شهرة براك بمسافات ضوئية، كان يفضل أن يسمو على السجالات تاركاً للتاريخ أن يصدر حكمه.

والآن، إذا استعنا بحكم التاريخ لنحظى بجواب حاسم هل سيسعفنا هذا الحكم؟ الواقع أن نوعاً من "جواب حاسم" أتى في ثنايا الدراسات العديدة التي صدرت لمناسبة المعرض النيويوركي الذي أشرنا إليه. وتكمن المفاجأة في أن ذلك الجواب أوضح ما كان كثر من الباحثين والمدققين الأكثر دقة يرددونه منذ زمن في سياق "المفاضلة" بالنسبة إلى المسألة المطروحة بين بيكاسو وبراك، لا هذا ولا ذاك! لقد أبدع كل منهما حقاً في فنه التكعيبي، وأنتجا كل على حدة أعمالاً فنية خالدة قلبت كل المعايير الأسلوبية في القرن العشرين، لكن أياً منهما لم يكن الرائد والبادئ في هذا المجال. صحيح أن براك كان مبتكراً في مجال تشكيليته، وصحيح أن بيكاسو كان يقر دائماً بأنه يدين كثيراً وقبل أي شيء آخر للتماثيل الأفريقية البدائية التي أولع بها باكرا وأراد أن يحاكيها على مساحات لوحاته ذات البعدين مضيفاً إليها البعد الثالث الذي شكل عصب التكعيبية الأساس، لكن براك وبيكاسو معاً إنما يمكن اعتبارهما هنا مجرد مكملين لما كان بدأه بول سيزان قبلهما.

 

مفاجأة غير متوقعة

أجل كان ذلك هو الجواب الأكثر صحة ودقة بالنسبة إلى عدد لا بأس به من الدراسات التي صدرت حول هذا الموضوع لمناسبة معرض "الموما". الجواب الذي يبرهن بما لا يدع مجالاً لأي شك بأن سيزان كان أول من حول مساحات لوحاته إلى أشكال تبدو كالمكعبات بالأحجام الغامضة والأسطوانات والأقماع مركبة فوق بعضها البعض أو في تشابك مع بعضها البعض أو حتى في تجاور تظهر من خلالها مشاهد طبيعية مؤلفة من بيوت وتلال وربما شباب سابحين، وعديد من المكونات التي تبدو من مختلف جوانبها ولكن دون أن يكون ثمة من يرى فيها تلك المكعبات الخالصة التي كان الباحثان غليز وميتسنغر قد تحدثا عنها، وربما بشيء من السخرية على النمط الذي استخدمه ذلك الصحافي الناقد يوم عرضت لوحة "انطباع شمس مشرقة" لمونيه قبل ذلك بنصف قرن وأطلق صفة "الانطباعية" ساخراً على ذلك التيار لتلتصق الصفة بالموصوف وينسى حس السخرية الذي ولدها. هذه المرة أيضاً التصقت صفة "تكعيبية" بالتيار بأكمله دون أن يكون المبادرون إلى خلقه، من سيزان إلى بيكاسو وبراك وخوان غري وغيرهم كثر، راغبين في أن يطلق على أعمالهم، لكن الذي حدث حدث وراح السجال كما بدأنا أول هذه الكلام، لا يطاول التسمية، بل الفضل الذي لهذا الرائد أو ذاك. ولعل ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو واقع ألا بيكاسو ولا براك وطبعاً لا سيزان من قبلهما، استخدم التسمية أول الأمر، بل إن الباحثين الذين أشرنا إليهما، سيؤكدان دائماً أن التكعيبية "ليست على أي حال تياراً فنياً أو صياغة يمكن وضعها نصب العين حين يبدأ العمل على لوحة ستسمى لاحقاً (تكعيبية)، بل هي ممارسة فنية لا تحمل اسماً أو صفة إلا حين ينجزها الفنان ويعرضها أمام الجمهور"

مخترع على الرغم من أنفه

ومن المؤكد أن ثمة فارقاً كبيراً في التعاطي مع المسألة برمتها بين جورج براك (1882 – 1963) الذي بدأ حياته عاملاً مع أبيه في طلاء البيوت ليكتفي طوال سنوات عمله، وصولاً حتى إلى آخر سنوات مجده وحياته، برسم نوع واحد من لوحات ارتبطت دائماً بالتكعيبية، فكان من الطبيعي أن يحاول الارتباط بها ليس كممارس فقط، بل كمؤسس أيضاً، وبين بابلو بيكاسو (1881 – 1973) الذي، وكما نوهنا أعلاه كانت فنونه من التعدد والتنويع بحيث إن لم يحتج إلى ذلك المجد الذي أسبغ عليه بوصفه "مخترع التكعيبية" فالتصق به.

وفي المقابل لا شك أن بول سيزان (1839 – 1906) لم يعش حتى الزمن الذي ولد فيه المصطلح بالتالي مات قرير العين غافلاً عن أن ثمّة باحثين سيعتبرونه لاحقاً الوالد الشرعي لتيار تشكيلي، وربما غير تشكيلي أيضاً، لم يسمع به ولم يفكر في حياته أن في الإمكان أن تكون له به علاقة!

الفن وما حوله

مهما يكن من أمر يبدو أن كل هذا لم يعد مهما الآن. كل ما يهم في الأمر أنه قادر على أن يغذي حكايات ما بعدها من حكايات وأن يزود الباحثين بما يمكنهم من أن يجدوا سعادتهم (!) في دراسات لنكن أقل لؤما ونقول أنها ترضي قراءهم وتنورهم بصدد تاريخ فني يغوصون فيه بقدر ما تفعل اللوحات والإبداعات الأخرى التي يشاهدونها في معارض تستعيد فنون الماضي ولمناسبتها صراعات الماضي وسجالاته ما يبقي الفن قضية دائمة الحضور على الرغم من متحفيتها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة