وافق مجلس الشيوخ الأرجنتيني صباح أمس الخميس على مشروع إصلاح الدولة المقدم من جانب الرئيس الليبرالي المتشدد خافيير ميلي الذي حصل للمرة الأولى على دعم من البرلمان منذ وصوله إلى السلطة قبل ستة أشهر. وأتى تصويت المجلس على المشروع الإصلاحي غداة أعمال شغب أسفرت عن إصابة نحو 10 أشخاص بجروح، وبعدما أقره مجلس الشيوخ بصورته العامة فيفترض أن يناقش أعضاء المجلس النص بالتفصيل وأن يصوتوا على بنوده الـ 238.
المصادقة التاريخية
وبعد إقرار هذه البنود فمن المفترض أن يصوت المجلس مجدداً على النص بأكمله حتى يحال بعدها على مجلس النواب لإقراره بصورة نهائية.
من جانبها رحبت الرئاسة الأرجنتينية بما وصفته بـ"المصادقة التاريخية" على هذا القانون الرئيس لحكومة ميلي في شأن الضوابط التنظيمية للاقتصاد، واصفة إياه بأنه "الإصلاح التشريعي الأكثر طموحاً خلال الـ 40 عاماً الماضية".
وفي مارس (آذار) الماضي رفض المجلس نفسه "مرسوم الضرورة والطوارئ"، وهو مرسوم ضخم نشر في مطلع رئاسة ميلي ولا يزال سارياً جزئياً. ويمثل حزب خافيير ميلي "ليبرتاد أفانسا" ذو الأقلية في البرلمان، مع سبعة مقاعد وحسب من أصل 72 مجلس الشيوخ، فيما هو ثالث أكبر حزب في مجلس النواب بـ 38 نائباً.
وقالت رئيسة المجلس ونائبة رئيس البلاد فيكتوريا فيلارويل، "إلى الأرجنتينيين الذين يعانون وينتظرون ولا يريدون رؤية أطفالهم يغادرون البلاد، صوتوا بالإيجاب".
الصوت الحاسم
وكان صوت نائبة الرئيس حاسماً، إذ حصل النص المعدل على عدد متساو من المؤيدين والمعارضين بلغ 36 صوتاً لكل معسكر، وبعد التصويت بدأ أعضاء مجلس الشيوخ درس إصلاح ضريبي كان في البداية جزءاً من "مرسوم الضرورة والطوارئ"، لكنه فصل لمناقشته على حدة خلال الجلسة نفسها.
غضب الشارع
وأُقر النص بينما كانت تجري ضده أمام مقر الكونغرس الأرجنتيني تظاهرات غاضبة، تخللتها صدامات بين المحتجين والشرطة أوقعت سبعة جرحى بعد اشتباكات ما بين الشرطة ومتظاهرين مناهضين لميلي في بوينس أيرس العاصمة.
وقال المتظاهر والمحامي فابيو نونييس ( 55 سنة)، "لا يمكننا تصديق أننا نناقش في الأرجنتين قانوناً سيعيدنا 100 عام للوراء".
في الأثناء أفادت وزارة الصحة بأن سبعة أشخاص من بينهم خمسة نواب معارضين، نقلوا إلى المستشفى بعد تعرضهم للغاز المسيل للدموع، فيما عولج العشرات في موقع الاشتباكات، وبينما أحرقت سيارات ردت الشرطة على مقذوفات بإطلاق الرصاص المطاط واستخدام خراطيم المياه.
وتعليقاً على ذلك قال متحدث باسم وزارة الأمن إنه أوقف 10 أشخاص في الأقل، فيما أصيب تسعة شرطيين بجروح، ومع حلول الليل استعادت الشرطة السيطرة على الشوارع.
من جهتها نددت الرئاسة الأرجنتينية بما وصفته بـ "جماعات إرهابية حاولت باستخدام العصي والحجارة وحتى القنابل اليدوية، القيام بانقلاب".
والقانون المثير للجدل رفض من قبل بصيغته الأصلية التي تضم 600 مادة، واعتمد بعد تعديلات طاولت 238 مادة أدخلها مجلس النواب في أبريل (نيسان) الماضي، وينص من بين أمور أخرى على مرونة سوق العمل، وهي إصلاحات اعتبر السيناتور المعارض ماريانو ريكالدي أنها تعيد بلاده للقرن الماضي عندما لم يكن للموظف أي حقوق، على حد وصفه، وكذلك يتضمن حوافز مثيرة للجدل للاستثمارات الأجنبية تتجاوز 200 مليون دولار، مع مزايا ضريبية وجمركية لـ 30 عاماً، وحول ذلك قال السيناتور مارتين لوستيو "نحن نقدم شيكاً على بياض لمدة 30 عاماً ولا نعرف كلفتها".
نظام الاقتصاد الكلي سيستمر
أما وزير الاقتصاد لويس كابوتو فاعتبر من وجهة نظره أن القانون عامل مسرع ومحفز لتعافي الوضع الاقتصادي، قائلاً خلال مؤتمر عبر الفيديو إن "هذه الحكومة لن تغير مسارها، ونظام الاقتصاد الكلي سيستمر".
وخلال المؤتمر الذي عرض فيه ميلي رؤيته للاقتصاد، فقد حث الملياردير الأميركي إيلون ماسك من جانبه الأرجنتينيين على تقديم دعمهم الكامل للرئيس لتنفيذ هذه الخطة. والتقى الرئيس التنفيذي لشركة "تيسلا" لصناعة السيارات الكهربائية ميلي مرات عدة، وأظهر اهتمامه بالأرجنتين التي تملك احتياطات كبيرة من الليثيوم، وهي مادة أساس للبطاريات.
العلاج بالصدمة
وعن تمرير القانون من مجلس الشيوخ يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي مدحت نافع إن "مرور هذا القانون من مجلس الشيوخ يمثل تحدياً كبيراً للرئيس الأرجنتيني، خصوصاً أنه جاء بفارق صوت واحد وهو لم ينجح في تمرير قانون واحد منذ توليه الحكم، مما يؤكد صعوبة فترته الرئاسية"، موضحاً لـ "اندبندنت عربية" أن "الإجراءات التقشفية التي يرغب ميلي في تنفيذها تواجه بغضب واحتجاجات عارمة في الشارع الأرجنتيني".
وبعيداً من الأزمة التشريعية فإن "العلاج بالصدمة" الذي أعلنه ميلي يقوم على إجراء خفوض كبيرة في الإنفاق الحكومي ضمن محاولة للسيطرة على التضخم، وبدأت تظهر تأثيراته منذ ديسمبر (كانون الأول) 2023، في صورة انخفاض حاد في قيمة البيزو (عملة الأرجنتين)، وتحرير الأسعار والإيجارات وإنهاء الدعم على النقل والطاقة وتجميد المشاريع العامة مع خفوض شاملة في الموازنة.
وبموازاة ذلك يعلن الرئيس بانتظام أن التضخم الشهري تحت السيطرة، مع تباطؤ متواصل منذ خمسة أشهر من 25 في المئة شهرياً إلى 8.8 في المئة في أبريل الماضي، وفائض غير مسبوق منذ 16 عاماً في الموازنة خلال الربع الأول، لكن في المقابل يخنق التقشف الاستهلاك، فيما انهار النشاط الاقتصادي وبدأ الركود مع انكماش الاقتصاد 5.3 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، مع عدم وجود بوادر انتعاش وشيكة.
أزمة اقتصادية حادة
وعلى أية حال فإن الأرجنتين تعاني أزمة اقتصادية حادة منذ أعوام، إذ ارتفع التضخم السنوي أخيراً إلى ما يقارب 290 في المئة، وهو واحد من أعلى المستويات في العالم، وتمثل ديونها نحو 27 في المئة من الدين الإجمالي المستحق لصندوق النقد الدولي والبالغ 152.2 مليار دولار، وهو ما يعادل 113.32 مليار وحدة حقوق سحب خاصة حتى نهاية يوليو (تموز) 2023، بحسب بيانات صندوق النقد، إذ توسعت محفظة قروضه بعد عدد من خطط الإنقاذ المتفق عليها أخيراً للاقتصادات النامية المتعثرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويستخدم "النقد الدولي" حقوق السحب الخاصة كوحدة حسابية لتقييم قيمة الدعم الذي يقدمه للبلدان الأعضاء فيه، وتساوي الوحدة الواحدة 1.34305 دولار أميركي.
وتعد الأرجنتين من أكثر دول العالم مديونية للصندوق الدولي بأكثر من 40 مليار دولار، تليها مصر بـ 18 مليار دولار وأوكرانيا وباكستان والإكوادور، إذ تمثل ديون الدول الخمس نحو 57.25 في المئة من إجمال حجم الائتمان المعلق للصندوق، على رغم وجود ما مجموعه 94 دولة مدينة له بالمال.
ويتبنى الرئيس الأرجنتيني الذي تولى مقاليد الحكم في ديسمبر 2023 سياسات مختلفة كلية عن سابقه لعلاج الأزمة الاقتصادية الأصعب في بلاده، من طريق رؤيته الخاصة بـ"العلاج بالصدمة"، وعبر تدابير شديدة الصعوبة للإسراع بالخروج من النفق المظلم الذي تواجهه البلاد، وهي التدابير التي تواجه معارضة واسعة في البلاد واحتجاجات متكررة.
ثورة السوق الحرة في اقتصاد متعثر
ويعتمد ميلي ما وصفه في أكثر من مناسبة بـ"ثورة السوق الحرة في اقتصاد متعثر"، وقد قدم للكونغرس قانوناً شاملاً يلخص رؤيته للإصلاح الاقتصادي في البلاد، بما في ذلك تقليص دور الدولة في ظل تعثر الاقتصاد الأرجنتيني وبلوغه معدلات هي الأعلى خلال 32 عاماً، في وقت يعتبر متخصصون أن فوز ميلي كان صدمة كبيرة لكثير من المراقبين والمحللين الدوليين، إذ إنه أتى من خارج المؤسسة السياسية ولا ينتمي للأحزاب الرئيسة التي تناوبت حكم الأرجنتين خلال العقود الماضية.
واتخذ ميلي قرارات اقتصادية وإدارية عدة في غضون ستة أشهر، منها تقليص عدد الإدارات الحكومية من 18 إلى تسع إدارات، إضافة إلى خفض الدعم الحكومي للطاقة والنقل، علاوة على إيقاف المناقصات المتعلقة بالأشغال العامة الجديدة وخفض قيمة العملة المحلية بأكثر من 50 في المئة، وإلغاء ومراجعة أكثر من 200 قانون تتعلق بالتنظيم الحكومي للاقتصاد.
وعلى رغم كثرة القرارات إلا أن تلك السياسات تسببت في ارتفاع الأسعار وتفاقم معدل التضخم في ظل توقعات بأن يواصل الارتفاع، مما أدى إلى سخط النقابات العمالية بعد أن نظمت كثيراً من التظاهرات والاحتجاجات على قرارات ميلي.
رفع أسعار مترو الأنفاق 360 في المئة
السخط والاحتجاجات في الشارع الأرجنتيني لها ما يفسرها، ففي الـ18 من مايو (أيار) الماضي زادت أسعار مترو الأنفاق 360 في المئة ضمن زيادة ضخمة وسط حملة تقشف قاسية ينفذها الرئيس ميلي.
وتعد أسعار ركوب النقل العام قضية حساسة في جميع أنحاء أميركا اللاتينية حيث ترسخ عدم المساواة بعمق، وأدى الغضب الناجم عن ارتفاع أسعار مترو الأنفاق إلى إثارة اضطرابات اجتماعية في السابق، مثل الاحتجاجات الحاشدة في تشيلي عام 2019، وفق ما نقلته وكالة "أسوشيتد برس".
ويعمل ميلي على خفض الإنفاق العام على كل شيء، بدءاً من الإعانات إلى الشركات الحكومية، كجزء من تجربة السوق الحرة الجذرية التي تهدف إلى إعادة بناء صدقية الأرجنتين لدى المستثمرين الأجانب وترويض التضخم المفرط.
خفض أسعار الفائدة ستة مرات
أما عن السياسة النقدية في الدولة التي يقترب عدد سكانها من 50 مليون نسمة، فقد خفض البنك المركزي الأرجنتيني منتصف الشهر الماضي أسعار الفائدة ستة مرات إلى 40 في المئة من 50 في المئة، وهو ما يمثل تغيراً في السياسة النقدية للبلاد منذ تولي ميلي مقاليد الحكم، إذ سجلت أسعار الفائدة في الشهر نفسه من تولي ميلي نحو 133 في المئة.