ملخص
كان الرسام الروسي الفرنسي مارك شاغال طوال القرن الـ20 الذي عاشه بكل إبداعاته وقيمه، ولكن أيضاً بكل تقلباته وتناقضاته واحتكاكه الدائم بكل ما في عالم السياسة وحلبات الأيديولوجيا من خطوط حمر وخطوط بكل الألوان الأخرى، كان فنان السياسة بامتياز
في هذه الأيام بالذات ولمرة نادرة في تاريخ المعارض الفنية الفرنسية بل الأوروبية حتى، ليس هناك معرض محدد لأعمال مارك شاغال يقصده ألوف الهواة ليشاهدوا فيه بعض أعمال فنانهم المفضل. ويبدو هذا الأمر غريباً في الأقل منذ رحيله في عام 1985عن 98 سنة، الرحيل الذي حرك مساراً طويلاً لإعادة اكتشاف من بات يعتبر واحداً من فناني الزمن الراهن الكبار. لكن غياب معارض شاغال الكبرى خلال هذه الأيام القليلة تحديداً حتى في المتحف المركزي الخاص به والقائم في مدينة نيس في الجنوب الفرنسي ليس سوى أمر خادع. فالحقيقة أن ثمة أسابيع انتقالية قليلة جداً تمضي الآن بين مرحلة مدريدية لمعرض ربما يكون أهم مناسبة لاستعراض جانب بالغ الأهمية من تراث شاغال أقيم في "مؤسسة نامفري" الإسبانية (بين الثاني من فبراير - شباط الماضي، والخامس من مايو - أيار الجاري)، وبين نسخة فرنسية من المعرض نفسه ستقام في المتحف الوطني لأعمال شاغال في نيس في الجنوب الفرنسي بدءاً من الأول من يونيو (حزيران) المقبل تمتد حتى أواخر هذا الصيف. أما الحقيقة التي لا يمكن المرور بها مرور الكرام وتجاهلها فهي أن هذا المعرض إنما يأتي ليجيب أخيراً عن مجموعة أسئلة لا بد أن محبي أعمال شاغال ما برحوا يطرحونها على أنفسهم منذ بدايات القرن الـ20، لكنه يأتي ليثير لدينا هنا والآن تحديداً جملة من أسئلة ربما تكون حائرة وربما مشاكسة.
طموح كبير
ويقيناً أن السؤال الأول الذي يمكن القول إنه مطروح بقوة هنا هو ذاك الذي يلوح تحديداً من خلال هذا المعرض نفسه، وذلك منذ أقيمت نسخته الأولى التي أطلقت في مدينة روبيه الفرنسية طوال خريف العام الماضي، فبدت أول الأمر متواضعة على رغم طموحها الكبير. بل حتى بدت وكأنها "أخرجت" فن هذا الرجل من الإطار "السريالي" الضيق نسبياً الذي كان حشر فيه حشراً ضيع حينها السؤال الأساسي: هل كان شاغال فناناً مسيساً أم رساماً سريالياً وحسب؟
الحقيقة أن هذا السؤال يبدو اليوم غير ذي جدوى من الناحية التاريخية، فألوف المتفرجين الذين شاهدوا لوحاته ومئات القراء الذين تمعنوا في الكتب العديدة والدراسات الأكثر عدداً بكثير التي صدرت عنه للمناسبة باتوا يملكون يقيناً تاماً حول الأمر الذي يمكن اختصاره بجملة واحدة: بالتأكيد أن شاغال كان طوال القرن الـ20 الذي عاشه بكل إبداعاته وقيمه، ولكن أيضاً بكل تقلباته وتناقضاته واحتكاكه الدائم بكل ما في عالم السياسة وحلبات الأيديولوجيا من خطوط حمر وخطوط بكل الألوان الأخرى، كان فنان السياسة بامتياز بل تحديداً فنان السياسة التي قد تصب في نهاية المطاف في الإنسان، لكنها تنطلق دائماً من الأرض والطبيعة ومما تختزنه ذاكرة الفنان نفسه من طفولته وطفولة وطنه. ولكن هنا: أي وطن؟ أهو وطنه الروسي الذي يسم ولادته وجذوره؟ أم وطنه الأوكرني الذي يطبع ولادته وطفولته؟ أم وطنه الوهمي، إسرائيل، الذي سـ"يكتشفه" لاحقاً جداً فيقدم له خدمات لن تكون في نهاية الأمر سوى تذكير بتراث يهوديته التي لم ينظر إليها أكثر من كونها تكريساً لوحدة الأديان السماوية كما سيذكر في مصر حين أشرف على الأبعاد التشكيلية البصرية لباليه "دافني وكلوي" الفرنسي، الذي دعاه الدكتور ثروت عكاشة إلى تقديمه في مصر، وأصدر عنه للمناسبة كتاباً رائعاً ضخماً اعتبره شاغال هدية العرب له، اعترافاً بصواب اختياراته الإنسانية التوحيدية بحسب ما صرح هو نفسه حينها؟ أم حتى وطنه "السوفياتي" الذي تبناه بعد الثورة الروسية مباشرة، ولكن لسنوات سريعة تولى فيها مناصب سياسية - فنية ضمن توجه بلشفي ندر أن كان ثمة ما يماثله في ذلك الحين؟
أوطان متناقضة
حسناً كل هذه "الأوطان" قد تبدو لنا اليوم متناقضة يلغي بعضها بعضاً بالنسبة إلى من سيكونون على صواب حين يتساءلون بعد ثلث قرن وأكثر من رحيل شاغال مكللاً بمجد جامع ومجمع عليه، قد تبدو متناقضة أمام السياسات العالمية اليوم. فهل تستجيب الحرب الروسية - الأوكرانية إلى ما تقتضيه جذور شاغال الروسية - الأوكرانية المزدوجة؟ وكيف يمكن للحرب المريعة التي يشنها اليمين الإسرائيلي على شعب غزة أن تبدو لتلك المثالية التي ربما يكون شاغال وجدها بين احتفائه بخدماته الفنية لإسرائيل موصلاً إياها إلى ذروة مدهشة في رسومه المعروضة اليوم ودائماً على جدران وسقوف الكنيست (مجلس النواب) الإسرائيلي، وبين سروره البادي في القاهرة حين كرمته السلطات واستقبله الشعب المصري مرحباً؟
والحقيقة أننا نجدنا هنا أمام سؤالين اثنين من عشرات يمكن طرحها ونحن نتأمل العنوان الذي اختير للنسخ الثلاث من المعرض الذي نشير إليه، "صرخة الحرية: شاغال سياسياً". وهذان السؤالان بقدر ما يبدوان صائبين في النظر، كما يفعل المعرض المذكور، إلى فن شاغال كما يبدو في معروضات يمتد تاريخها طوال القرن الـ20، قد تكون صائبة في طرحها للفكرة الواردة في العنوان بالنظر إلى أن شاغال عبر دائماً عن "صرخة الحرية" منذ بداياته ما قبل - الثورية في روسيا، حتى دفاعه الشرس عن الحرية والإنسانية والتعلق بالجذور الموحدة بين البشر، فإنها ستبدو في نهاية الأمر مثالية وهمية بل حتى ساذجة في وضعها أمام امتحان الواقع وحقائقه.
سذاجة مستشرية
ولعله يجدر بنا هنا أن نفتح هلالين لنشير إلى أن هذه السذاجة ربما تكون مستشرية في صفوف أعداد كبيرة من فنانين ملأوا القرن الأخير صخباً حول مثالياتهم والقيم الإنسانية و"وحدة البشرية" و"المعارك الضارية بين البشرية وقوى الشر التي تجابهها"، وصولاً إلى ما هناك من أفكار وقيم كبرى، ولكن الأمر انتهى بهم دائماً للعودة لمقولة توماس هوبس اللعينة التي "تكرم" بها على البشرية قبل ثلاثة قرون، ومفادها بأن "الإنسان ليس سوى ذئب لأخيه الإنسان". ويروى عادة أن شاغال نفسه، وأمام أسئلة طريفة ومسلية كانت تلقى عليه وتتعلق بكثرة الحيوانات في رسومه هو الذي كان يهتم برسمها أكثر من اهتمامه حتى برسم البشر، كان يجيب: "غايتي أن أكذب ما قاله توماس هوبس يوماً!". فهل يجدر بنا اليوم أن نستنج أن السنوات الـ40 الأخيرة التي انقضت على وفاة شاغال - الذي لا شك أن عالم الفن سيحتفل في العام المقبل بأربعينيته هذه -، شهدت انتصار هوبس ليس فقط على شاغال، بل حتى على هذا الأخير ومثله الأعلى "اليهودي المنشق" باروخ سبينوزا متضامنين متكافلين؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سياق زمن جديد
ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من القول إن هذا كله إنما يأتي طبيعياً في سياق زمن جديد كان أعلن كثر مجيئه عند بدايات الألفية الجديدة، حين تبين لهم أنه لئن كانت الألفية الأولى اتسمت حقاً بأنها زمن الرحمن، وتلتها الألفية الثانية (ألفية النهضة والتنوير) بكونها زمن الإنسان (ألفية الفنون والأفكار الكبيرة ووصول الإبداعات إلى عموم البشر)، فإن الألفية الثالثة التي بدأت "خيراتها" تهل علينا منذ هجمات نيويورك الإرهابية إلى عملية غزة وحرب الإبادة التي يشنها نتنياهو، هذه الألفية التي لا تزال في أولها جديرة بأن تكون حصة الشيطان وألفيته أليس كذلك... "مسيو شاغال"؟.
لو كان حياً بيننا
أما سؤالنا الفني الأخير الذي لا يمكن إلا أن نعود له هنا طالما أن حديثنا يدور أساساً عن واحد من كبار فناني "نهاية ألفية الإنسان": لو أن شاغال بقي حياً بيننا وتأمل ما يحدث في زمننا هذا، هل كان سيبقى في فنونه على تفاؤله نفسه وعلى تمسكه "السياسي" و"الثوري" – كما في عنوان معرضه الثلاثي الأخير الذي انطلقنا منه في حديثنا -، هل تراه كان سيبقى متمسكاً حقاً بما لم يكف عن المناداة به منذ بداياته؟ أم أنه كان سيضيف إلى "حديقة حيوانات لوحاته" ذئاباً لا تعد ولا تحصى بديلاً لكل تلك الأبقار والماعز والحملان والدجاجات، ولسنا ندري ماذا بعد من كائنات طيبة أليفة لا تزال تنظر بحنان لا يمارى فيه إلى رفاقها وإلى بني البشر، معتبراً ذلك الحنان "تراثاً يهودياً مشتركاً بين البشر"؟