ملخص
لم يكن #الكاتب_الإسباني_بنيتو_بيريس_غالدوس معروفاً بما فيه الكفاية خارج بلاده، لكن مواطنه #لويس_بونويل اكتشفه بعد نصف قرن من رحيله وقدمه للعالم في فيلم مأخوذ عن روايته "ناثارين"
قد لا يكون الكاتب الإسباني بنيتو بيريس غالدوس معروفاً بما فيه الكفاية خارج العالم الناطق بالإسبانية، لكن هذا الكاتب الواقعي كان كبير الروائيين الإسبان عند أواخر القرن التاسع عشر، بل إن ثمة كثراً من النقاد والمؤرخين يعتبرونه أعظم كاتب أطلعته إسبانيا في تاريخها الروائي تالياً لثربانتس صاحب "دون كيخوتي" الذي من الصعب أن يقارن به أي كاتب آخر في العالم، ومع ذلك قبل أن يعيد مواطنه السينمائي لويس بونويل اكتشافه بعد نحو نصف قرن من رحيله، أدهشه أدب غالدوس إلى درجة أنه أقدم على مشروع سينمائي فحواه رواية لغالدوس عنوانها "ناثارين"، لم يكن يجهلها طبعاً، ولم يكن يجهل أنها ليست رواية أساسية لهذا الكاتب، لكنه شعر من فوره وفي أعماقه أنها يمكن أن تتحول على يديه إلى فيلم كبير على رغم أنها تعد رواية واقعية تماماً كما حال معظم روايات غالدوس الذي كان، لفرط واقعية أدبه، يلقب بـ"بلزاك إسبانيا" ويشبه ربما بديكنز الإنجليزي وتولستوي الروسي بفضل الواقعية الواضحة لمواضيع رواياته وأجوائها، ولسوف يقول بونويل لاحقاً أنه على الضد من كثر آخرين إنما رأى في "ناثارين" قدراً كبيراً من النزعة الروحية والسريالية، كان هو ما حمسه لأفلمتها، ولقد قال بونويل ذلك بعد سنوات من ظهور فيلمه "ناثارين" (1958) وفي وقت كان منكباً على تحقيق فيلم ثان مقتبس عن غالدوس سيكون بدوره واحداً من أفلام مرحلته الأخيرة، الكبرى، "تريستانا" (1970)، وإلى ذلك سوف يضيف بونويل، رداً على من وسموه بـ"العودة إلى نزعة إسبانية" بأن ذلك لم يحصل، فـ"ناثارين" حققه كفيلم مكسيكي وفي المكسيك، و"تريستانا" صبغته بطلته كاترين دونوف بطابع فرنسي عميق.
موقف يتبدل جذريا
كان من الواضح في عمق الأمور، أن بونويل إنما يرد هنا، أول ما يرد، على نفسه في نوع من إعادة تفسير كان يرى أن لا بد منها لانكبابه، مرتين على النهل من كاتب يقول في اعترافاته إنه وصحبه كانوا يعتبرونه "دقة قديمة" ويتجنبونه تجنبهم لكل ما هو واقعي، غير أن ما حرك السينمائي في اتجاه الكاتب كان في تأكيده "اكتشافه" بعد قراءة ثالثة أو رابعة لـ"ناثارين" أنه هنا في صدد شخصية روائية استثنائية تجمع من طرف خفي، وحتى دون أن يكون الكاتب نفسه قد أدرك ذلك بوضوح، بين دون كيخوتي، "الإنسان الأول في الرواية الحديثة" بحسب إجماع مؤرخي الأدب الروائي، وبين كبار الأنبياء في تاريخ البشرية، ولئن كان السينمائي يبدو هنا وكأنه يضرب صفحاً عن كل التفسيرات السابقة للرواية، وبشكل أكثر للدهشة عن التصنيف المعهود لغالدوس، بوصفه واحداً من الكتاب الأكثر واقعية في القرن التاسع عشر، فإن ثمة في الوقت نفسه بعداً ما كان في مقدور بونويل إلا أن يأخذه في الحسبان، يتمثل لدى المبدعَيْن في موقف سلبي من الكنيسة، ولكن ليس من الإيمان الروحي الذي كان لا بد من تلمسه عميقاً لدى شخصية ناثارين، ولماذا ليس كذلك في شخصية دون كيخوتي نفسه، ونعرف على أية حال أن بونويل كثيراً ما عبر عن ذلك الموقف الذي قد يبدو في نهاية المطاف غامضاً وملتبساً، بل حتى متناقضاً بالنسبة إلى بونويل الذي بدأ حياته الإبداعية سريالياً ("كلب أندلسي" و"عصر الذهب" فيلما بدايته اللذان أثارا حماسة السرياليين في باريس في عشرينيات القرن العشرين) ليختمها سريالياً كذلك في "شبح الحرية" و"غرض اللذة الغامض"، لكنه موقف حقيقي يمكن أن يدفع إلى إعادة النظر في فن غالدوس الذي لا بد من العودة إليه هنا لأنه هو موضوعنا.
ضغوط حجبت نوبل عنه
فإذا كان غالدوس يبدو اليوم منسياً بعض الشيء مقارنة بشهرة مؤفلم روايتيه، فإن هذا الكاتب الذي ولد عام 1843 في مدينة لاس بالماس بجزيرة كاناريا الكبرى، كان ملء السمع والبصر طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت شهرته واسعة إلى حد مدهش حين رحل عن عالمنا عام 1920 في مدريد بعد سنوات قليلة من ترشيحه المجهض لنيل جائزة نوبل الأدبية عام 1912. وهو لم ينلها على أية حال (مع أن الأوساط الأدبية الإسبانية والأوروبية اعتبرته يستحقها بكل جدارة، تحت ضغط القوى الكنسية في بلاده التي أطلقت تهديدات واتخذت مواقف عنيفة ربما يعتبرها بعض المؤرخين الإشارات الأولى لاندلاع الصراعات بين قوى اليمين المتطرف والمحافظ في إسبانبا والقوى التقدمية والاشتراكية والليبرالية عموماً التي كانت تعتبر غالدوس كاتبها الكبير، ولكن أيضاً المناضل السياسي الناطق باسمها في عالم الثقافة والإبداع، وسلاحاً قوياً يخدمها في معركتها من أجل مستقبل ناصع لإسبانيا، والحقيقة أن غالدوس وخلال العقدين أو العقود الثلاثة الفاصلة بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وحتى وفاته راح يخوض المعترك السياسي بنشاط غريب متنقلاً بين الأحزاب اليسارية والديمقراطية ملتحقاً أحياناً بالفيلسوف اومانومو، وأحياناً بالقوى الأكثر راديكالية، ما أوصله إلى المجلس النيابي (الكورتيس) في دورات عدة نائباً عن لاس بالماس مرات وعن مدريد مرات أخرى.
إبداع في إصرار عنيد
غير أن ذلك النشاط السياسي لم يبعده مطلقاً عن اهتماماته الأدبية التي كانت لها الأولوية بالنسبة إليه، ومن هنا كان غزير الإنتاج منذ شبابه المبكر وحتى سنواته الأخيرة، وحسبنا للتيقن من هذا أن ندخل حديث الأرقام، 31 رواية خلال فترة نشاط تصل إلى أربعين عاماً، و23 مسرحية، و46 حلقة كتبها عن "التاريخ الوطني" لإسبانيا إضافة إلى عشرين مجلداً تضم إنتاج خمسة قرون من المقالات الصحافية والقصص القصيرة والمتوسطة، ومهما يكن من أمر لا بد من القول إن رواياته كانت الأكثر شعبية ليس بين مجمل كتاباته فقط بل بين كل ما صدر من روايات في إسبانيا في زمنه، ومع ذلك فإن مسرحيته "رياليداد" (1892) التي قدمت مئات المرات منذ أن أنجزها وعرضت للمرة الأولى، تعد دائماً فاتحة المسرح الروائي الواقعي إلى حد التخمة في هذا البلد، ومع ذلك، على رغم هذا الإنتاج المكثف وعلى رغم النجاح الكبير الذي حققته "واقعية" غالدوس، ها هو السينمائي بونويل يخبرنا أن وصف أدب هذا الكاتب بأنه واقعي ليس دقيقاً، ويضيف أننا لو فعلنا فعله وتبحرنا في أعماق روايات غالدوس ومسرحياته سنطلع بما يدهشنا ويبدل نظرة الجمهور العريض إليه، ولعل المثلين المتعلقين بأفلمة بونويل لـ"ناثارين" و"تريستانا" يكفيان لإقناعنا، إذ حتى لو أن بونويل نفسه يرى أن ما من واحدة من هاتين الروايتين يمكن اعتبارها رواية كبيرة، فإن الشهرة التي أعادتها السينما عليهما ولا سيما على "ناثارين" التي باتت بعد ظهور الفيلم المكسيكي المقتبس عنها، أشهر أعمال غالدوس على الإطلاق، بل حررته من نسيان يبدو لنا اليوم مستغرباً، هذه الشهرة أعطتها قيمة كبيرة مضافة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
متاهة الشكوك
ولكن عم تتحدث هذه الرواية؟ ببساطة عن دون كيخوتي معاصر هو الأب نازاريو الذي يهجر ذات يوم ومن دون إنذار، حياته المريحة في أبرشيته في مدريد كي يرتحل ضارباً في الآفاق سالكاً دروباً وطرقات على غير هدى، ولكن لماذا؟ فقط لكي يحمي مومساً حدث لها أن ارتكبت جريمة قتل ولا بد لها الآن من أن تهرب ولا بد له هو من أن يرافقها في هربها في محاولة منه لإنقاذها من مطارديها، وخلال الطريق يضطر مثلاً إلى القبول بعمل شاق مقابل حفنة من غذاء له ولها ما يجر عليه غضب العمال الآخرين، ثم في قرية صغيرة بائسة يتمكن نازاريو من شفاء صبية كانت على وشك أن تموت فيعتبره القوم صانع معجزات. ومع ذلك فإن قوماً آخرين يطردونه شر طردة حين يحاول في قرية بائسة أخرى أن يتلقى الاعترافات الأخيرة لموتى بداء طاعون مستشر، وهنا إذ تتمكن الشرطة من اكتشاف حقيقته واعتقاله يجد المعاملة الأسوأ التي تواجهه لدى رفاق طريقه، فتستبد به هنا تلك الشكوك التي تتآكله حول العناية الإلهية، ويمكننا أن نفهم هنا ما الذي أعجب بونويل في هذا النص الذي رآه معبراً عنه وعن شكوكه الخاصة فخاضه سينمائياً محاولاً أن يحققه كنص يبدو هو كاتبه في نهاية المطاف.