Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حول غياب النصوص الأدبية عن السينما (3): بورخيس "الضرير" يشاهد فيلمه

الكاتب الأرجنتيني يتندر على لقائه الأول بالمخرج برتولوتشي بعد إنجاز فيلمه "استراتيجية العنكبوت" المقتبس من رواية "موضوعة الخائن والبطل"

مشهد من فيلم "استراتيجية العنكبوت" عن قصة بورخيس (موقع الفيلم)

ملخص

بورخيس كان من قبل يعمل ناقداً سينمائياً، بل إنه كتب سيناريوهين لسينمائي أرجنتيني كبير، وأسهم في اقتباس عديد من قصصه ونصوصه في أفلام سينمائية وتلفزيونية

كانت حكاية تندر بها الكاتب الأرجنتيني الكبير جورج لويس بورخيس لسنوات طويلة، لكن كالعادة دون أن يصدقه أحد. هي حكاية تتعلق بالكيفية التي تعرف بها على السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي الذي كان شاباً في مقتبل العمر حينها، وكان لا يزال عند فيلمه الروائي الطويل الرابع، إذ كنا لا نزال في عام 1970.

وكان اللقاء مفاجأة للاثنين، حتى وإن كان بورخيس سيضيف أن مفاجآته هو كانت أكبر. لماذا؟ ببساطة لأن مناسبة اللقاء كانت عرضاً خاصاً لفيلم تلفزيوني حققه برتولوتشي منجزاً إياه لتوه لحساب التلفزة الإيطالية. صحيح أن الفيلم كانت باكورة الإنتاجات التلفزيونية الروائية الإيطالية، لكنه كان في طريقه لأن يعرض في دورة ذلك العام من مهرجان البندقية السينمائي قبل عرضه على الشاشة الصغيرة.

"لقد دعوني للعرض الخاص يومها لأن الفيلم كان مقتبساً من واحدة من قصصي القصيرة. كنت أعلم بالأمر منذ وجهت إلى الدعوة، لكن مخرج الفيلم الشاب لم يكن يتوقع حضوري. ومن هنا بوغت بذلك الحضور أما أنا فقد فوجئت بالمستوى الفني للفيلم، بل أكثر من ذلك فوجئت بكيف تمكن برتولوتشي من جعل الحكاية تدور في مدينة إيطالية فاشية ناقلاً إياها من إيرلندا، حيث موضعت أنا قصتي الأصلية دون أن يخطر في بالي إمكانية أن تدور أحداثها في إيطاليا".

بين الخائن والبطل

والحقيقة أن الأمر يتعلق بفيلم برتولوتشي "استراتيجية العنكبوت" المقتبس من قصة بورخيس المعروفة بعنوان "موضوعة الخائن والبطل". ولئن كانت التواريخ التي يتحدث عنها بورخيس متعلقة بحضوره عرض الفيلم ولقائه مخرجه، صحيحة ومتطابقة فإن كثراً من معارفه يؤكدون أن بقية الحكاية غير دقيقة وتنساق في خط اعتمده بورخيس طوال حياته أسلوباً له في اختراع الحكايات والظروف، لكن ما العمل وبورخيس هو بورخيس، كاتب واسع الخيال كان قادراً ليس فقط على اختراع مثل تلك الحكاية، بل اختراع كتب وأحداث والتعليق عليها فتصبح جزءاً من أدبه؟. المهم أن برتولوتشي سيقول لنا لاحقاً إنه بالفعل التقى بورخيس وأن هذا أشاد بالاقتباس وبالفيلم لكن بعد زمن من العرض "الأسطوري" الذي تحدث عنه. ولقد لفت نظره حينها أن الكاتب الكبير أثنى على العناصر البصرية في الفيلم وعلى "الجو الذي تمكن برتولوتشي من خلقه على الرغم من أن الكاتب كان قد فقد بصره تماما" ومن هنا فوجئ السينمائي به يستخدم في حديثه عما رآه صيغة "لقد شاهدت..." و"بهرني بصريا ما شاهدته..." وما إلى ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة أن ما لم يكن برتولوتشي متنبهاً له في خضم ذلك كله هو أن بورخيس كان من قبل يعمل ناقداً سينمائياً، بل إنه كتب سيناريوهين لسينمائي أرجنتيني كبير "نسي اسمه"، وأسهم في اقتباس عديد من قصصه ونصوصه في أفلام سينمائية وتلفزيونية. المهم هنا هو أن المبدعين تجاذبا الحديث عن الفيلم المشترك وكأنهما شاهداه على المستوى نفسه من التذوق حتى إن الأرجنتيني بدا وكأنه يود إبداء عديد من الملاحظات حول التصوير والديكور، ولا سيما في مشهد الاحتفال الراقص، إلى درجة أن برتولوتشي خيل إليه أن الكاتب إنما يدعي فقدان البصر لا أكثر ولا أقل، لكن بورخيس لم يكن يدعي ذلك في الحقيقة، بل كان ثاقب البصيرة يعوض بسمعه وبذكائه الخارق على قصر نظره.

ولعل المهم في ذلك كله هو أن مجمل الملاحظات التي أبداها بورخيس تبدت لبرتولوتشي إيجابية ما أسعده سعادة كبيرة وجعله يعتز بتلك الشهادة "وبخاصة إذ قال لي بورخيس أنه لو كان مخرجاً سينمائياً سيكون من شأنه أن يختار الحلول التي اخترتها، ولا سيما من ناحية انتقال أحداث الفيلم في المكان كما في الزمان. وهو يبدي في ذلك الشأن أريحية ندر أن أبداها كاتب مخضرم إزاء سينمائي شاب يحاول اقتباس عمل له". ويروي برتولوتشي هنا أن بورخيس أنهى حديثه قائلاً له، "إن الفيلم فيلمك من الآن وصاعداً!".

من باتريك لباتريك

فما الذي فعله برتولوتشي في الفيلم؟ ببساطة استقى من بورخيس الهيكل الأساس للحكاية. فالحكاية في الأصل تتحدث كما نعرف عن زعيم من زعماء الثورة الإيرلندية ضد الإنجليز حيرت الطريقة والظروف التي اغتيل بها حفيد له يحمل اسمه نفسه، باتريك، يعيش الآن في أميركا، حيث هاجرت عائلته منذ زمن محتفظة في العالم الجديد بذكرى طيبة عن الجد البطل المناضل الكبير الذي شاءت "الصدف" أن يكون اغتياله في دابلن بالطريقة نفسها التي كان قد اغتيل بها الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن في صالة مسرح خلال العقد السابع من القرن الـ19 وفي ظروف مشابهة تماماً.

 

والحقيقة أن ظروف ذلك الاغتيال وتقاربه الزمني مع اغتيال لينكولن كان هو ما حير باتريك الحفيد. وهكذا يقرر السفر إلى مسقط رأسه ليحقق في الأمر ويجلو الحقيقة. وفي إيرلندا بعد تقليب في الأرشيفات ومراجعة عدد من الشهادات انكشفت له تلك الحقيقة المحزنة والمخزية في الوقت نفسه. فالذي حدث في الحقيقة هو أن باتريك الجد وأركان حربه وصلوا إلى لحظة في ثورتهم تبين لهم فيها أن ثمة خائناً بينهم بالنظر إلى أن كل عملية يخططون لها ضد القوات والمصالح الإنجليزية كانت تصل مسبقاً إلى علم الأجهزة اللندنية فتستبقها هذه وتقضي على القائمين بها. ولسوف يتبين لقيادة الثورة بعد تحقيقات سرية ومكثفة أن الخائن إنما هو الزعيم نفسه، باتريك الجد. فاجتمعوا به احتراما لماضيه ومكانته وفاتحوه بالأمر استعداداً لإعلان انكشافه ومعاقبته بتهمة الخيانة العظمى.

حل يرضي الجميع

حين فاتحوه بالأمر إذاً، وجابهوه بالوثائق الدامغة طلب منهم أن يساعدوه على أمر محدد: "لقد كشفتموني وها أنا أعترف بما فعلت، لكن ألا تعلمون أن كشف الحكاية سيكون من شأنه الهبوط بمعنويات الثوار وربما بالتالي القضاء على الثورة من أساسها؟ لذا أطلب منكم أن تعاقبوني بالإعدام بالفعل، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى القضاء عليكم. رتبوا اغتيالي بوصفي زعيماً للثورة ولا تفضحوا أمري وأنتم ستكونون الرابحين وسأكون أنا قد نلت عقاباً أستحقه ويبقى الأمر سراً بيننا". وبالفعل تداول مساعده فيما بينهم وبدوا مقتنعين بما قاله. ثم، إذ كان عليهم أن يرتبوا عملية اغتياله بصورة تبدو مقنعة كذلك، ولأنهم زعماء ثورة و"كل زعماء الثورات في التاريخ قصيرو النظر ضيقو المخيلة"، كما يقول بورخيس على أية حال، لم يجدوا أمامهم إلا نموذج اغتيال لينكولن الراهن يحاكونه حرفياً.

 

هذه الحكاية إذاً التي كان بورخيس قد استخلص منها دروساً بالغة الأهمية بالنسبة إلى موضوعة الخيانة ومفاهيم البطولة، هي التي استند إليها برتولوتشي لكتابة سيناريو فيلمه وقد بدت له، من بعض النواحي قليلة الحيلة، فحولها إلى حبكة أكثر إقناعاً وأكثر معاصرة تمكن من خلالها وكما سيفعل دائماً وغالباً بعد ذلك، من جعل الفيلم أكثر قدرة على خدمة أفكاره هو الذي كان حينها من المتأثرين إلى حد كبير بقضيتين متزامنتين أولاهما انتفاضات الشبيبة الأوروبية وغير الأوروبية أواسط سنوات الـ60، وهي الموضوع الذي سيعود إليه عند نهايات حياته مراراً وتكراراً، ولا سيما في فيلمه "الحالمون" الذي تفرس فيه بتلك الحراكات من خلال نظرة شاب أميركي لما كان يحدث حينها في باريس، وثانيهما نفوذ المافيا وتأثيراتها في الحياة السياسية الشعبية الإيطالية، وهو كذلك الموضوع الذي سيعود إليه مراراً، وبخاصة في فيلمه "الممتثل" الذي قدم أروع صورة لسقوط الفاشية الإيطالية مع هزيمة هتلر عند انتهاء الحرب العالمية الثانية.

بورخيس وذكراه الطيبة

وبين هذا الفيلم وذاك نعرف أن برتولوتشي تعامل مع نصوص روائية كبيرة لكتاب من أمثال بول بولز "السماء الواقية" (صور في المغرب وبخاصة طنجة) أو مع مذكرات الإمبراطور الصيني الأخير الذي حولته ثورة ماو إلى بستاني حدائق. وهي مذكرات حولها برتولوتشي إلى فيلمه الكبير "الإمبراطور الأخير". وسيقول هذا المخرج الراحل قبل سنوات قليلة إنه على رغم تعامله مع نصوص لم يكن معظمها من ابتكاره، بالتالي مع عدد كبير من الكتاب الكبار، لم يتعامل مع كاتب يتمتع بمخيلة جورج لويس بورخيس وذكائه وأريحيته!

المزيد من ثقافة