بين يدي كاتب هذه السطور صورة تبدو أول الأمر وكأنها لا تعني شيئاً على الإطلاق، صورة لـ"فاتورة" مطعم دونت عليها بالعربية أسماء عدة أطباق عربية ولبنانية، باللغة العربية وبخط عربي جميل. للوهلة الأولى ليس ثمة أية غرابة في الأمر من شأنها أن تبرر حفظ هذه الفاتورة التي من الواضح أنها صدرت في سنوات الثلاثين من القرن الفائت في مطعم اسمه "لوكاندة الوردة البيضاء" القائم في 634 شارع الباراغواي وسط بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين لصاحبه خليل إبراهيم، (خوليو آربان) بالإسبانية. فما الاستثنائي في الأمر؟
المتنبي في اللوكندة
الاستثنائي هو بيت شعر مدوّن بالإسبانية بالعرض على طول الورقة يحمل "توقيع" المتنبي، وسرعان ما يتبين أنه "الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم". ولا شك أن كاتب هذه الترجمة اضطر إلى تدوين البيت وهو يتناول طعامه في "لوكاندة الوردة البيضاء" على عجل مستخدماً فاتورة المطعم. وحتى هنا أيضاً تبدو المسألة بسيطة. لكن المفاجأة تكمن في عبارة كتبت إلى جانب بيت الشعر وتقول بالإسبانية إن "الكاتب هو جورجي لويس بورخيس". وهذا ما يفسر طبعاً وجود هذه القصاصة بين أوراق بورخيس والحفاظ عليها طوال ما يقرب من قرن، كجزء من تراثه. غير أن ما لا بد من التوقف عنده هنا هو كون انهماك بورخيس بترجمة بيت شعر للمتنبي نقله إليه صديق ما في مطعم، ليس سوى دليل إضافي على جانب من أدبه وتأثراته الأدبية شغل بورخيس ردحاً طويلاً من مساره.
ألفة مع تراث عريق
الحقيقة أن المطلع على أدب بورخيس، لن يكون في حاجة إلى هذا الدليل الإضافي. حسبه، مثلاً، أن يقرأ مجموعته الأشهر "الألف" ليجد نفسه حيناً أمام ابن رشد وحيناً أمام غيره من فلاسفة ومفكرين عرب ومسلمين، ربما يكون بورخيس قد اخترع بعضهم وربما يكون جمع بين اثنين أو ثلاثة منهم أو استعاد لحساب فنه بعض الحقيقيين التاريخيين منهم إنما ليوظفهم في سياق هذا الفن. لقد امتلأت نصوص "الألف" بأسماء معروفة أو مألوفة للقارئ العربي ما قد يكفي وحده لاعتبار الثقافة العربية مؤسساً أساسياً لإبداع هذا الكاتب. لكن بورخيس لم يقتصر في استلهامه التراث العربي على ما سجله في "الألف"، حيث أننا وفي عدد يصعب إحصاؤه من كتب ونصوص أخرى له، يمكننا دائماً أن نتوقع حضور تلك الأسماء والحكايات التي تشكل لديه، في ما يرويه عنها أو حولها، متناً أدبياً مكتملاً. ومع هذا يبقى الأساس في هذا الجزء العربي من إبداع بورخيس، ماثلاً في علاقته بـ"ألف ليلة وليلة" التي لم يكتف بذكرها في معظم أحاديثه الصحافية بكونها مصدراً أساسياً من مصادر إلهامه، وكذلك لم يكتف بالإحالة إليها في عدد لا بأس به من نصوصه وحتى قصائده، ومنها بالتأكيد قصيدته "كنايات ألف ليلة وليلة" في مجموعته "تاريخ الليل" (1977)، وهي واحدة من أطول وأجمل قصائده، وإنما نجده يكتب عنها دراسة بالغة الطول، تقع ترجمتنا العربية لها في أكثر من أربعة آلاف كلمة، وكانت في الأصل محاضرة ألقاها وكرر إلقاءها مرات عدة تناول فيها جذور تلك الحكايات العربية واقتراحاته حول كتابها الفعليين، ناهيك بحديثه المستفيض حول ترجماتها إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها من اللغات، ما يدل على ألفة له معها تفوق ألفته مع أية نصوص أخرى من التراث العالمي.
كل شيء في القصيدة
ولئن كان بورخيس قد توخى قدراً لا بأس به من التوجه العلمي التأريخي في ذلك النص، الذي قد يكون أطول نص كتبه على الإطلاق، فإنه في القصيدة التي أشرنا إليها قبل قليل، "كنايات ألف ليلة وليلة"، شاء أن يبدو أكثر شاعرية وذاتية، من خلال استخدامه كنايات تبدأ من النهر ومياهه البلورية لتنتهي عند الزمن الذي لا ينام أبداً، بالتالي فإن "العرب يرون أن ما من أحد يمكنه أن يقرأ هذا الكتاب" لأن لا أحد يمكنه أن يجاري الزمن في سهره الأبدي. وبين النهر البلوري والزمن الساهر يطل بورخيس في قصيدته على "السندباد ذلك اليوليسيس..." و"المصباح" وغيرهما من "رموز تعلن مسبقاً لرودريغز أن العرب سوف يفتحون إسبانيا"، مروراً بـ"القرد الذي يتكشف أنه كائن بشري من خلال تفوقه في لعب الشطرنج"، وذلك بزمن طويل قبل دارون. ولا يتوقف بورخيس في قصيدته ها هنا بل يعيدنا إلى "الشيخ والغزالة" وإلى "الجبال والوديان" وإلى "نزوات المصير" و"لعبة المصادفة" و"المتسول الذي قد يكون ملاكاً" والصخرة التي تسمى "سمسم". ومن ثم إلى البساط السحري كما إلى "الإخوة السبعة" و"الرحلات السبع" و"الأشقاء الثلاثة" و"القادة الثلاثة"، بل حتى إلى رقم الليالي نفسها ليذكرنا بكم تلعب الأرقام دوراً أساسياً في هذا النص العجيب. وإذ يفيدنا بورخيس أيضاً كم أن المتاهات تلعب دوراً والمعرفة دوراً لا يقل أهمية... يقدم في هذه القصيدة الجميلة والتي لم تحظ "ألف ليلة وليلة" بما يفوقها عمقاً وتصويراً لحضارة بأسرها، ما يجعل نص القصيدة يبدو بكامله أشبه بمرآة تكاد تختصر أدب بورخيس بأكمله، ما يضعنا أمام وظيفة لحكايات الليالي في هذا الأدب تفوق ما يمكننا أن نجده في أحاديثه أو حتى في ما يحكى عن "التأثيرات العربية عليه"، في ذلك الكلام الإنشائيّ المنمق الذي يتردد كثيراً في ندوات تقام لغاية "التقريب بين بورخيس والتراث العربي"، وتبدو دائماً عاجزة إلا عن وضع ما يشبه "الكاتالوغ السطحي لنصوص بورخيسية تؤكد ذلك التقريب بصورة عاطفية تكاد تبدو مفتعلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تتنبه جائزة نوبل إليه
فالحقيقة أن التقارب الحقيقي ماثل هناك حقاً في نصوص بورخيس وقصائده التي إلى احتفالها بمكونات كنائية في ألف ليلة، تحتفي أيضاً بمكتبة الإسكندرية أو بقصر الحمراء، إلى آخر ما هنالك من أمكنة وتواريخ كان بورخيس يلتقطها في كل مكان وفي أي مكان ناقلاً إياها من ذاكرة من يلتقيهم ولو في عشية في "لوكاندة" لبنانية أو سورية، فيروح قلمه مسجلاً أشعاراً وفقرات وتواريخ وحوارات ستشكل لاحقاً جزءاً أسياسياً من ذلك الأدب الكبير الذي سيكونه أدب بورخيس (1899-1986)، الذي بقدر ما يحتفي هو بانتمائه إلى "ألف ليلة وليلة" يحتفي كثر من كبار كتاب القرن العشرين بانتمائهم إلى أدبه. ومع ذلك لا بد أن نتوقف هنا لنشير إلى أن بورخيس لم يفز بجائزة نوبل للآداب على رغم أن كثراً كانوا ينتظرون ذلك الفوز خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته. ففي كل عام حينها كانوا كثراً الذين ينتظرون أن تعلن لجنة جائزة الأدب الكبرى في العالم اسمه فائزاً فلا تفعل، لكنه هو لم يكن مبالياً بذلك بالتأكيد. كانت جائزته الكبرى في حياته تلك النصوص التي كان يكتبها منذ شبابه المبكر، فتجد طريقها إلى القراء وإلى شتى اللغات مشكلة متناً كتابياً غريباً من نوعه يتأرجح بين القصص القصيرة والروايات القليلة والنصوص الفلسفية والقصائد والمحاضرات، من دون أن ننسى ذلك النوع الأدبي الذي سيبدو دائماً أنه كان مبتكره: عروض الكتب التي لا وجود لها. وهذا النوع الأخير كان بالنسبة إليه من أبدع ما كتب، بخاصة أنه يعتمد على الكذب الذي كان بورخيس يرى فيه الجوهر الحقيقي لكل إبداع.
هل قلتم "رجعياً"؟
ترى إزاء أدب مثل هذا وحياة امتزجت عضوياً بالفكر والمعرفة، هل يهم كثيراً ما يمكن أن تقوله لنا سيرة بورخيس من أنه كان "رجعياً" من الناحية السياسية ومتحفظاً من الناحية الاجتماعية، هو الذي كان ضد الشيوعية وضد الفاشية وضد النزعة العسكرية وضد الحداثة وضد التقدم، وكأنه مفكر كبير من مفكري القرن التاسع عشر أرعبه وصول الهمجيات، على اختلاف أنواعها في القرن العشرين الذي عاشه مرتعباً مشمئزاً لاجئاً إلى تلك الأزمان المباركة القديمة؟