ملخص
وعلى رغم إصرار مخرج العمل أن شخصية مارثا التي يصورها المسلسل "مختلفة لأسباب قانونية" عن المرأة الحقيقية التي طاردته، عُثر على حسابات عبر منصات التواصل الاجتماعي زُعم بأنها تعود للسيدة التي استلهم منها الشخصية
أيعقل أن ريتشارد غاد كان ساذجاً؟ ألم يتوقع أن تأثير "غزالي المدلل" (طفل الرنة)، مسلسله المحدود على "نتفليكس" والمستوحى من تجربته الشخصية مع متربصة، سيثير كل هذا الجدل؟ هل كان بإمكانه تغيير تفاصيل صدماته قليلاً لحماية المتورطين؟ ربما بالغ في تقدير قدرتنا على التمييز، ولقد كان نجاح مسلسل جاد ملحوظاً، فالمديح الذي لقيه في مقالات النقاد والدعاية الإيجابية لها بين الناس أدى إلى تحقيقها نجاحاً دولياً وما زال يتصدر قائمة مشاهدات خدمة البث في المملكة المتحدة بعد أكثر من أربعة أسابيع على إطلاقه.
لكن خلال الأسابيع الثلاثة الماضية اتخذ السرد منعطفًا لا مفر منه، إذ دخل المشهد المشاهدون الذين يلعبون دور المحقق.
اختتمت السلسلة المؤلفة من سبع حلقات بصدور حكم بسجن السيدة التي تربصت بغاد تسعة أشهر، فضلاً عن أمر قضائي بمنعها من الاتصال أو الاقتراب منه، فيما وقفت شخصيته في البرنامج، أي دوني الذي يطمح في أن يصبح كوميدياً، تراقب مشهد اقتياد مارثا (جسيكا غانينغ)، تلك المرأة التي أرعبته وأرعبت أحباءه طوال أعوام، ويداها مكبلتان ويعلو وجهها علامات الشعور بالذنب، لكن حقيقة وقوع هذه الأحداث مبهمة، وهي أُبقيت كذلك عن قصد.
لطالما رفض غاد التحدث عن مكان وجود مارثا الحقيقية حالياً، وأبى أن يوضح كيف انتهت حملة المضايقة والتحرش التي قامت بها، وخلال مقابلاته الصحفية للترويج لـلمسلسل، كما في عرضه المنفرد السابق في مهرجان الفنون "أدنبره فرينج" حول تجاربه الشخصية، اكتفى بقوله إن المطاردة انتهت، لكن لا أحد يعرف كيف. وقال غاد لصحيفة "تايمز" في وقت سابق من الشهر الجاري، "لم أرغب في إلقاء شخص بهذا المستوى من المرض العقلي في السجن"، وعلى رغم إصراره أن شخصية مارثا التي يصورها المسلسل "مختلفة لأسباب قانونية" عن المرأة الحقيقية التي طاردته، عُثر على حسابات عبر منصات التواصل الاجتماعي زُعم بأنها تعود للسيدة التي استلهم منها الشخصية، كما جرى التمحيص في هذه الحسابات سعياً إلى الحصول على المعلومات.
ووفقاً لتقارير نشرتها صحيفتان شعبيتان فإن المرأة التي يُزعم أنه تم التعرف عليها هي في الخمسينيات من عمرها وتحمل شهادة في القانون من "جامعة داندي" وعملت لفترة قصيرة كمحامية متدربة، ثم تحدثت محامية عملت "مارثا" لديها في يوم من الأيام عن تعرضها للملاحقة من قبلها عندما صرفتها من الوظيفة بسبب طريقة تصرفها بعد فترة تجربة استمرت أسبوعين.
لكن قلة من الأشخاص المعنيين بهذه الدراما التي عرضت على الشاشات لم تطلهم تداعياتها على أرض الواقع، فالأسبوع الماضي أرسل محامو غاد إشعاراً قضائياً للإعلام بسبب القلق من وجود صحافيين يحومون حول منزله وبعد محاولات للاقتراب من بيته ووالديه، وهددت المرأة التي قيل إنها مارثا بمقاضاة "نتفليكس"، فيما اتسمت منشوراتها على منصات التواصل الاجتماعي بالجنون وأصبحت تدعو إلى القلق، وقد ظهرت هذا الأسبوع على برنامج بيرس مورغان الحواري أمام ذهول كثير من المراقبين.
وفي سياق منفصل جرت محاولات لتحديد هوية الرجل الذي اغتصب غاد، وهي حادثة الاعتداء الجنسي التي أعيد تمثيلها بالتفصيل المخيف في الحلقة الرابعة من "غزالي المدلل"، وتكلم عنها غاد عام 2016 خلال عرضه المنفرد الحائز على جوائز، "قردة تشاهد قردة تقلد".
وصرح ممثل ومخرج يُدعى شون فولي بأنه اتصل بالشرطة بسبب تلقيه "منشورات مسيئة ومشوهة للسمعة ومهددة" بعد التكهنات المتعلقة بالبرنامج التي انتشرت عنه.
وناشد غاد عبر صفحته على "إنستغرام" الجمهور كي يكف عن هذه الأفعال، فكتب "وُرط أشخاص أحبهم وعملت معهم وأجلهم (ومنهم شون فولي) ظلماً في هذه الافتراضات، أرجوكم ألا تطلقوا التكهنات حول هوية أي من الأشخاص الحقيقين، فليس هذا القصد من وراء برنامجنا. الكثير من الحب، ريتشارد".
لكن في خطوة تنم عن تجاهل تام لهذه المناشدة، أو أقله إساءة فهم كبيرة لها، قام ريتشارد أوسمان بتأجيج نيران هذه الافتراضات على مدونته الصوتية "الباقي ترفيه" الأسبوع الماضي، وزعم أن "غاد كان صريحاً جداً مع العاملين في هذا المجال في ما يعني هوية (مغتصبه)، ولذلك فالعاملون في المجال يعلمون من يكون ذلك الشخص".
هل يعني ذلك إذاً أن مغتصب غاد مشهور؟ وهو لا يزال يعمل؟ ومن تراه يكون؟ وقد منح هذا الطرح مزيداً من فتات المعلومات المثيرة التي يمكن للمحققين المتحمسين التمسك بها.
ما يقوله المنطق المضلل في موضوع غزالي المدلل هو أن فضح الأشخاص المتورطين بماضي غاد شيء جيد، وأن فضحهم رقمياً أحد أشكال الانتقام القدري إذ كما تُدين تُدان، لكن لماذا نشعر كمشاهدين بالحاجة كي نتصرف بهذه الطريقة؟ يبدو أنها استجابة افتراضية لكثير من الثقافة الشعبية اليوم.
لقد أصبحت الصدمة شكلاً من أشكال الترفيه، ويُنظر إلى رواية القصص على أنها لغز يجب حله إذ تعمل كل قصة درامية كدليل، ويتجلى هذا الاتجاه بوضوح في ردود الفعل على وسائل الإعلام المختلفة، مثل السلسلة الوثائقية الأميركية الجديدة "هدوء في موقع التصوير" التي تتناول الاعتداءات الجنسية وسوء السلوك في قناة "نيكولوديون" وغيرها من القنوات التلفزيونية المخصصة للأطفال، وهو ما ظهر كذلك في الاستجابة لادعاءات السلوك الجنسي المشين التي وجهت ضد نجوم كبار وبارزين مثل شون "ديدي" كومز، وردود الأفعال على الوضع الصحي لكيت ميدلتون، سواء قبل إعلان تشخصيها بالسرطان أو بعده.
ونرى حسابات تواصل اجتماعي تتعهد بنبش مزيد من الادعاءات الصادمة وتبالغ في رواية قصص الصدمات النفسية الواقعية حتى تحولها إلى شيء خيالي يزخر بتفاصيل مضخمة، وتثير الشكوك حول الأشخاص الذين يفضلون عدم التعليق لأي سبب كان، مزيد من الضحايا ومزيد من الادعاءات ومزيد من الرعب لا ينتهي أبداً، مثل مسلسل يحتاج إلى تكملة.
ولسوء الحظ فإن كثيراً من هذا يتم تأطيره تحت ستار التعاطف، ويعتقد بعضهم أن فضح الأفراد المتورطين في ماضي غاد عمل إيجابي، إذ ينظرون إلى "الاستدعاءات" الرقمية كشكل من أشكال العدالة القدرية إذ كما تُدين تُدان، لكن بعيداً من أخطار الخطأ في هذا المجال واتهام أشخاص عشوائيين تماماً بأنهم مغتصبين ومتربصين، ففي هذا التصرف قسوة كبيرة على غاد نفسه، فالسلسلة التي صنعها بمثابة جرح مفتوح وتنقيب مؤلم جداً في أسوأ تجارب حياته، وبالتالي فإن محاولة استهداف المتورطين ترسل رسالة مفادها أن أسلوب غاد في معالجة الصدمة التي يعانيها كان خاطئاً، وكان ينبغي عليه تقديم تفاصيل أكثر، إذ نحتاج إلى أسماء ومحاسبة صاخبة وعلنية وصارخة.
ومع ذلك فلا شك في أن لوم الإنترنت وحدها في هذا المجال ضرب من التبسيط، وربما لم يتوقع أي شخص عمل على "طفل الرنة" هذا الشكل من النجاح للمسلسل، لكن ذلك لا يبرر قلة الاستعداد التامة التي أظهروها في ما يتعلق بموضوع مارثا الحقيقية.
في المقابلات التي أجراها اعتمد غاد على تفادي الأسئلة المتعلقة بها بعض الشيء، فنحن لا نعرف من هي؟ ولا أين تكون الآن؟ ولا كيف انتهت علاقتهما؟ وقد لفت هو إلى تغيير وقائع قضيته قليلاً كي تناسب العرض على التلفزيون، وأضاف أنه اختار غانينغ لأنها تمكنت من تصوير "جوهر" المرأة الحقيقية.
في الواقع تحمل هذه التصريحات مستوى كبيراً من الغموض قد يفسر جزئياً سبب محاولة الناس التعمق في القصة والبحث أكثر، و"غزالي المدلل" نفسه يعكس الاختلاف بين نيات غاد واستجابة الجمهور للبرنامج، فقد ردد مرات عدة بأنه صور شخصية مارثا على أنها شخصية متعاطفة، وهو ما يناقض صورة "المرأة الخطرة" التي تمنح عادة للنساء المطاردات في الأفلام والتلفزيون.
وقال لمجلة فاريتي "شعرت بأن مارثا الحقيقية شخص ضعيف عجز بصدق عن التوقف عما يفعله، إنه مرض نفسي وهذا ما أردت إظهاره، ولقد رأيت فعلاً شخصاً أشفقت عليه".
لكن بسبب التركيز الأساس على وجهة نظر دوني في البرنامج فليست شخصية مارثا محددة المعالم بشكل جيد، وكل ما نعرفه عنها هو ما يعرفه دوني، ومزاعم وجود شخصيتين رئيستين نفسيتين محطمتين في البرنامج تبدو غير صادقة، ونحن نشعر بالتعاطف مع مارثا لسبب واحد وهو أداء غانينغ المبهر الذي يتنقل ببراعة بين الأسى واليأس والعداوة العنيفة.
ليس لدينا أي شيء آخر نتمسك به، أقله على الورق، يمنح دوني صوت مناجاة أو مونولوجاً داخلياً، والفرصة للتعبير عن رعونته وقسوته في كل حلقة، وهو يوجه انتقاداً لاذعاً لنفسه في التعليقات الصوتية بسبب شعوره بالخزي لمواعدته سيدة متحولة جنسياً، ويعترف بتواطؤه الطفيف في هوس مارثا، وبأنه أصبح محور الكون بالنسبة إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقدم لنا "غزالي المدلل" جميع جوانب دوني الفوضوية مما يسمح لنا بهز رؤوسنا باستنكار على عيوبه، لكن مارثا لم تُمنح هذا التساهل نفسه بينما صورت على أنها امرأة تعاني مرضاً عقلياً، وصورت في المقام الأول على أنها معتدية حاقدة ترتكب أفعالًا مثل الاعتداء على صديقة دوني وإبلاغ والديه كذباً بوفاته، والتطفل على منزل والدة دوني السابقة، وعلى رغم تأكيدات غاد فليس الجانب الأخلاقي في البرنامج مبهماً كما يعتقد على ما يبدو.
هذا التوتر والتساؤل عمن المُلام هنا، وتصوير غاد على أنه ضحية سلوك تربص ومطاردة مخيف والمسؤول عن أسطورته الخاصة، هو ما يجعل من "غزالي المدلل" أحد أكثر البرامج إبهاراً هذا العام، لكنه يتطلب منا كمشاهدين مسؤولية مع الاعتراف بأنه يستعصي على التصنيف السهل، فلم يصنع غاد وثائقياً عن جريمة واقعية ولا أحجية كي يحلها المحققون الهواة من المشاهدين، واختصار المسلسل بهذه الصفات يقلص قوته ويؤذي كل المرتبطين به.
© The Independent