ملخص
كشفت الانتخابات المحلية الأخيرة في بريطانيا عن مقاطعة المسلمين لحزب العمال في مناطق مختلفة. السبب الظاهر هو موقف كير ستارمر من حرب غزة، ولكن يبدو أن هذه الخصومة بين الجالية و"العمال" حملت تداعيات على المشهد السياسي الداخلي، وأثارت تساؤلات حول تأثير الأقلية المسلمة في نتائج الاستحقاق البرلماني المقبل.
لطالما استندت الانتخابات المحلية البريطانية إلى البرامج الخدمية للمتنافسين. ولكنها في 2024 تأثرت بعامل شكل أولوية بالنسبة للجالية المسلمة على وجه الخصوص، ألا وهو موقف الأحزاب الكبرى ومرشحيها من الحرب على قطاع غزة. فأغدقوا بأصواتهم على من أيد انتهاء الحرب وحجبوها عمن تجاهل ذلك أو أيد دولة إسرائيل.
الحزب القائد للمعارضة كان أكثر المتأثرين بأصوات المسلمين "المحجوبة" إن جاز التعبير. فلطالما شكل "العمال" الخيار المفضل لهم نتيجة مواقفه المؤيدة لاهتماماتهم داخلياً وخارجياً، ولكن في الاستحقاق البلدي الأخير قاطع أبناء الجالية مرشحي الحزب احتجاجاً على رفض زعيمه كير ستارمر لتأييد دعوات إنهاء الحرب في غزة منذ أشهر.
ثمة تقارير غير رسمية مختلفة تحدثت عن نسبة تراجع التصويت لحزب العمال في الدوائر التي يشكل المسلمون فيها كثافة سكانية. تباينت الأرقام بفارق بسيط، ولكن النتيجة هي ذاتها. ولعل الاستثناء الوحيد حظي به عمدة لندن صادق خان الذي وقفت الجالية خلفه في العاصمة حتى تغلب بصعوبة على مرشحة "المحافظين" اليمينية سوزان هيل.
أسباب المقاطعة
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تحليلاً خاصاً قدرت من خلاله نسبة تراجع تصويت المسلمين للعمال في الانتخابات الأخيرة بـ 21 في المئة على امتداد 58 مجلساً بلدياً مقارنة مع 2021. واصفة الأمر بـ "الجانب السلبي للنتيجة الإيجابية" التي حققها الحزب في الاستحقاق الذي كسب فيه 170 مقعداً بلدياً إضافياً، وسيطر على 8 مجالس محلية.
ونقلت الهيئة عن نائبة منسق الحملة الانتخابية للحزب إيلي ريفز، إن "العمال" التقطوا رسالة المسلمين في الاستحقاق الأخير، ومهتمون باستعادة ثقة الجالية وكسب أصواتها في الانتخابات البرلمانية المقبلة. لم تحدد كيف وماذا يمكن أن يفعل الحزب لتحقيق ذلك، ولكن الأمر يتضمن حتماً تعزيز فهم الناخبين لموقفه من الحرب، على حد تعبيرها.
مرت أشهر قبل أن يؤيد "العمال" وقف إطلاق النار بشكل دائم في قطاع غزة. تمسك ستارمر برفض هذا المطلب لعشرات النواب وأعضاء مجالس البلديات في حزبه لأكثر من 3 أشهر. وما "زاد الطين بلة" قبوله بقطع إسرائيل للماء والكهرباء عن الفلسطينيين في الأيام الأولى للحرب، خلال مقابلة أجراها مع إذاعة محلية واسعة الانتشار.
حاول ستارمر توضيح موقفه وتخفيف وطأته عدة مرات خلال الأشهر الماضية، وعندما نفد الوقت أصدرت عدة فعاليات وتجمعات مسلمة في بريطانيا قراراً بمقاطعة الحزب عندما تفتح صناديق الاقتراع في أي استحقاق. وهذا ما ترجم في الانتخابات البلدية ولوحظ على نحو واسع في العديد من الدوائر الانتخابية من الشمال إلى الجنوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثناء صادق خان
في النتائج النهائية، ظفر حزب العمال بنصر مؤزر على "المحافظين" في الانتخابات المحلية الأخيرة. فاستحوذ على نحو 1160 مقعداً بلدياً، وتوج بمنصب العمدة في 11 دائرة من أصل 12 في إنجلترا. من بينها لندن التي فاز فيها المسلم صادق خان بولاية ثالثة كعمدة للمدينة، في سابقة هي الأولى منذ استحداث المنصب مطلع الألفية الجديدة.
تقدم خان على منافسته من حزب المحافظين بفارق 11 في المئة تعادل أكثر من ربع مليون صوت. وفي كلمة عقب إعلان النتائج قال إن "اللندنيين تغلبوا على الكراهية بالأمل، والتفرقة بالوحدة، والتخويف بالحقائق". في إشارة لمحاولة معارضيه، بخاصة جماعات اليمين، الترويج لفكرة أن العاصمة باتت تحت سيطرة الإسلاميين في عهد العمدة العمالي.
النائب لي أندرسون قال علانية قبل أشهر من الانتخابات المحلية إن خان يعيش تحت "هيمنة" الإسلاميين. وعندما رفض الاعتذار اضطر سوناك إلى طرده من حزب المحافظين. وزيرا الداخلية والمهاجرين السابقين سويلا برافرمان وروبرت جينريك، تحدثا أيضاً أمام البرلمان عن سيطرة الإسلاميين على العاصمة، ولكنهما لما يذكرا خان صراحة.
موقف عمدة لندن الداعم لإنهاء الحرب على غزة، وتجاهله لدعوات منع التظاهرات المؤيدة لهذا المطلب في العاصمة. هو ما جلب له تهمة "الاستسلام" للإسلاميين برأي عضو حزب العمال إيفان جوش. حيث بقيت الاحتجاجات المناصرة للقضية الفلسطينية تلتئم في كل سبت منذ الأسبوع الأخير في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
انتخب خان كعمدة للندن للمرة الأولى عام 2016. كان حينها أول مسلم يصل إلى هذا المنصب في دولة أوروبية. ينتمي إلى أسرة مهاجرة من باكستان. وأثار جدلاً واسعاً في ولايته الثانية بسبب خططه البيئية للعاصمة، وتطبيقه رسوماً على كل العربات الوافدة إلى مركز المدينة إذا كانت انبعاثاتها الكربونية تتجاوز المعايير البيئية "الخضراء".
"شيطنة المسلمين"
قد يكون فوز خان هو الأبرز في مشهد الانتخابات المحلية الأخيرة، ولكن كثيراً من أعضاء حزب العمال المسلمين فازوا بمقاعد البلديات في مدن إنجلترا وويلز في الاستحقاق ذاته. لم يكن ذلك استثنائياً، فأبناء الجالية ينشطون بشكل ملحوظ في العمل السياسي على امتداد المملكة المتحدة منذ عقدين على الأقل. فنجد اليوم نحو عشرين نائباً مسلماً في البرلمان، وأكثر من خمسمئة مسلم وصلوا إلى المجالس المحلية، وفق أرقام رسمية.
الفارق في الاستحقاق الأخير، هو تحول تأثير الأصوات المسلمة إلى موضوع نقاش ونقد من قبل ساسة وإعلاميين في المملكة المتحدة. مما دفع بالأمينة العامة للمجلس الإسلامي البريطاني زارا محمد، إلى إصدار بيان رسمي قالت فيه إن "نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة هي بمثابة دعوة للأحزاب الكبرى من أجل الاستيقاظ، وعدم التعامل مع أصوات أي طرف كمكسب مضمون دائماً، وعصي على التغير أو التأثر بعوامل مختلفة".
ولفتت زارا في بيانها إلى "أن حالة عدم الرضا عن السياسيين في البلاد باتت واضحة، والرد على الفظائع في غزة ليس سوى غيض من فيض. وبدلاً من الحوار المحترم والهادف يواجه المسلمون البريطانيون ثقافة سياسية يهيمن عليها الأيديولوجيون لإسكاتهم، أو التشكيك في نواياهم أو تصفية آرائهم من خلال حراس البوابة المقبولين".
على حد وصف زارا، يحاول ساسة بريطانيون اليوم "شيطنة" المسلمين، وقد ظهر هذا خلال الأيام الأخيرة عبر تصريحات من داخل "العمال" في دائرة "ويست ميدلاندز"، كما وصف الزعيم السابق لحزب الاستقلال نايجل فاراج، المسلمين البريطانيين الذين يصوتون بأنهم "طائفيون". ودعت زارا الأحزاب الكبرى في البلاد إلى ضرورة معارضة هذا "التطرف" بشدة، وبخاصة في هذه الأشهر التي تسبق الانتخابات العامة.
بين التطرف والإسلاموفوبيا
التطرف الذي تتحدث عنه زارا، أعادت الحكومة تعريفه قبل 50 يوماً من الانتخابات المحلية على ضوء ما تشهده المملكة المتحدة من اصطفاف داخلي نتيجة لحرب غزة. أرادت بذلك مواجهة جرائم الكراهية التي تصاعدت ضد المسلمين واليهود على حد سواء. ولكن أسقف كانتربيري، جاستين ويلبي، حذر من أن التعريف الجديد قد يستهدف المجتمعات المسلمة في بريطانيا ويمكن أن يتسبب بمزيد من الانقسام في المجتمع.
وفق أخر إحصائيات رسمية، ارتفع عدد المسلمين من 2.7 مليون شخص في 2011 إلى 3.9 ملايين في 2021، وبات المسلمون يشكلون 6.5 في المئة من سكان بريطانيا.
تحدثت تقارير إعلامية عن توقيع 400 إمام وعالم دين في بريطانيا لخطاب يرفض التعريف الجديد للتطرف على رغم أن صيغته لا تحمل طابعاً جنائياً أو إجراء قانونياً. ولكن يبدو أن تهديد وزير الدولة لشؤون التنمية الاقتصادية والإسكان والمجتمعات مايكل غوف، بملاحقة بعض المنظمات والفعاليات المسلمة على ضوئه، هو ما أثار القلق.
تستند الحكومة إلى التعريف الجديد الفضفاض مقارنة بمفهوم 2011، لوقف تمويل أي منظمة تشتبه بتحريضها على التطرف. أما تأثيره في سياق حظر المنظمات وضمها لقوائم الإرهاب، كما حدث مع جماعة "حزب التحرير"، فلم يتضح حتى الآن. وربما تكون مرآة الانتخابات العامة المقبلة أكثر وضوحاً في كشف حقيقة المواقف السياسية للجالية المسلمة في بريطانيا، إن كانت تحولات جذرية أفرزها الشعور بالاستهداف من الآخرين، أم تبدلات ارتبطت بحرب غزة، ولن تستمر بعد أن يصمت أزيز الرصاص في القطاع.