ملخص
إذا كان محمد عبدالوهاب اقتبس عن عمد من بعض كبار الموسيقيين الكلاسيكيين وخصوصاً من فردي وبرامز فإن برامز نفسه كان واحداً من السادة الكبار في فن "التنويع على"
موضوعنا هنا، على رغم أنه أقرب إلى أن يكون موضوعاً تقنياً خاصاً يحاول أن يوضح بعض الشؤون المتعلقة بما ينظر إليه في عالم الموسيقى باعتباره "سرقات فنية يجب فضحها"، نرى أنه لا بد لنا من أن نبدأه بحديث سياسي ولو مختصر يتعلق بسياسات المحاور العربية. فالأسباب قد تبدو لنا اليوم مضحكة بل مثيرة للسخرية، استخدم نظام أحد البلدان العربية التي كانت ذات نفوذ، منظمة "يونيسكو" في سنوات الـ70، من أجل ما سماه القائمون بالحملة في ذلك الحين "فضح السرقات الموسيقية التي اقترفها محمد عبدالوهاب". في ذلك الحين كان ذلك النظام على خصام مع مصر أنور السادات، وبالتالي قدم شكوى إلى "يونيسكو" تتهم محمد عبدالوهاب بسرقة ألحانه من الموسيقى الكلاسيكية. وتمكن خبراء موسيقى يعملون لحساب ذلك النظام من رصد دزينتين أو ثلاث من الجمل الموسيقية التي "سرقها" عبدالوهاب من الموسيقيين الكلاسيكيين غالباً، لتشكل عددياً نسبة ضئيلة من الجمل والألحان التي ابتدعتها عبقرية محمد عبدالوهاب في حياته، مؤسساً كما سيفعل كبار من طينته من بينهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي والأخوان رحباني وحليم الرومي، بين آخرين، لكل ما عرفناه من حداثة موسيقية في عالمنا العربي. ولكن حتى تلك الجمل "المسروقة" التي نجد حقاً جذوراً لها، لدى برامز أو فردي أو فرانز ليست، بل حتى تشايكوفسكي، كشف "انكشافها" عبر جهود مضنية بذلها علماء النظام المذكور، عن جهل مزدوج: جهل بأن محمد عبدالوهاب نفسه كان يتعمد إدخال تلك الجمل، وكان يعلن في ذلك الحين في إعلانات الإسطوانات: "أغنية جديدة للأستاذ محمد عبدالوهاب تتضمن مقطعاً من موسيقى المسيو فردي"، وجهل بأن مبدأ "التنويع على" هو صنف موسيقي معروف، له تاريخه وأهميته في تاريخ الموسيقى. والتنويع، هو أن تستخدم موضوعة موسيقية لسلف كبير لك، وتعيد الاشتغال عليها انطلاقاً من فنك نفسه، دامجاً إياها في إطار هذا الفن هو أمر يشبه مبدأ "المثاقفة" الذي تلقفه عدد من "مبدعينا" العرب في شكل كاريكاتوري منذ سنوات، لكن هذه مسألة أخرى.
اقتباس متعمد من كبار سابقين
وإذا كان محمد عبدالوهاب اقتبس، عن عمد، من بعض كبار الموسيقيين الكلاسيكيين، وخصوصاً من فردي وبرامز، فإن برامز نفسه، كان واحداً من السادة الكبار في فن "التنويع على": ذلك أنه اشتغل وأعاد الاشتغال على مئات الألحان والجمل الموسيقية والمواضيع التي اكتشف جمالها لدى أسلافه، وقرر أن إعادة اشتغاله عليها فيها إضافة إلى فنه وإلى فن الموسيقى في شكل عام. وهو لم يكن الوحيد في هذا، لكنه كان الأكثر تطرفاً، بحيث أن ثمة في قواميس الموسيقى مواضيع تجمل تحت عنوان "تنويعات برامز"، وينظر إليها تاريخ الموسيقى بكل احترام وجدية. وتحلل وتدرس وتعتبر جزءاً أساسياً من متن العمل البرامزي.
ومن الواضح هنا أن مبدأ التنويع، راق لبرامز كثيراً، ليس فقط لأن في الاشتغال عليه إضافة إلى ما لديه من موهبة، بل خصوصاً لأن التنويع يعطي المجال للفنان لأن يمارس حرية قصوى لا تحدها حدود. إذ هنا، وكما يقول الباحثون، من المؤكد أن الاشتغال على تنويع ما، يسمح لبرامز بأن يؤكد رفضه القاطع للشكل النهائي الراسخ للسونيتا. وإذا قلنا إن برامز كان حتى متطرفاً في هذا كله، فما هذا إلا لأننا نعرف، مع دارسيه، أنه ألغى كل قيد حتى من المبادئ التي حكمت فن التنويع وتقنياته. ومن هنا - يقول الدارسون - ما نلاحظه غالباً من أنه، حين يأخذ قطعة ما لسلف له ويشتغل تنويعاً عليها، يكتفي مثلاً بالإيقاع أو حتى بالمناخ الهرموني، أو بجزء من جملة موسيقية لفتته في لحن سمعه.
تنويع على شومان
إن أول التنويعات التي وضعها برامز، وهي وضعت للبيانو، والبيانو بأربع أيد، كانت تنويعات مستوحاة من مواضيع لشومان الذي كان برامز من أشد المعجبين به. وبلغ عدد ما حفظ منها 11 تنويعاً تدنو أو تبتعد من العمل الأصلي، بمقدار ما كان برامز يرى ضرورة تقنية لذلك، ما أعطى تلك الأعمال الأولى، على رغم غناها، طابع العمل المدرسي التعليمي. وكأن برامز شاء فيها أن يحدد أسس التنويع تحديداً جديداً، مشتغلاً خصوصاً على الإيقاع، في تسريع أو تمهل خلاق. والحقيقة أن نجاح تلك التجارب الأولى، دفع برامز إلى المواصلة فإذا به يكتب "تنويعات على نشيد هنغاري". وهذه التنويعات التي كتبت كذلك لتؤدى بآلة البيانو، يبدو واضحاً أنها ليست مجرد تبديل ما للحن أو للإيقاع بل إعادة خلق وأسلبة للموتيفة (اللازمة) الرئيسة. كان عدد هذه التنويعات المبدعة، 13، حرص برامز فيها على أن يحافظ على الإيقاع المعهود للرقص الشعبي الهنغاري، إنما مع تدخل هنا وتدخل هناك، بدا أنه يزاوج في شكل فاعل بين الموسيقى الشعبية المعروفة وبين تدخله الشخصي. وربما يصح لتوضيح هذا، أن نحيل إلى ما هو شبيه له: إدخال محمد عبدالوهاب لموتيفة "يا نخلتين في العلالي" الفولكلورية في أغنية "روابي الشرق".
25 تنويعاً على هايدن
بعد ذلك تأتي "التنويعات على موضوعة لهاندل" وعددها 25 تنويعاً وكتبت في عام 1862، وهي في رأي النقاد "تصل إلى قوة تعبيرية تعيد خلق موضوعة هاندل من جديد". واللافت هنا في هذا العمل هو استخدام برامز للبيانو وكأنها أوركسترا كاملة "واصلاً إلى مستوى من الإبداع في التنويع ندر أن سبقه إليه أحد، إنما من دون أن يلحق أي ضرر أو تشويه بوحدة الأسلوب الذي تفرضه موضوعة لهاندل". ومع باغانيني سيكون الأمر أسهل، على برامز بالطبع، ذلك أن مواضيع باغانيني أكثر مرونة في إيقاعها. وتبدو من التموج بحيث أنها تسمح حقاً بتنويع للمواضيع نفسها. وهكذا تميز اشتغال برامز على باغانيني، بأنه بدا - بحسب غلاة الباحثين - وكأنه دحض للعمل أو للموضوع، وأحياناً محاولة لمحاكاته في شكل يتعمد أن يكون ساخراً.
من البيانو إلى الأوركسترا
وفي عام 1874، اشتغل برامز هذه المرة تنويعاً على موسيقى هايدن. ما ألزمه أن يهجر استفراد البيانو ليتحول إلى التنويع من طريق الأوركسترا، ولا سيما عبر استخدام آلات النفخ. طالما أن الاشتغال كان انطلاقاً من قطعة خفيفة لهايدن تتطلب تنويعاً في الأداء الآلاتي، وهي القطعة المعروفة باسم "كورال القديس انطوان". والحقيقة أن الدارسين ينظرون عادة إلى هذه التنويعات على "كورال" هايدن، باعتبارها قمة ما وصل إليه برامز في هذا المجال. وهي تنويعات يبلغ عددها ثمانية، إضافة إلى خاتمة (فينالا). وفي هذه التنويعات، قدم برامز عملاً تعبيرياً، يتجاوز السوناتا وما جاورها، ليبدو أحياناً وكأنه قصيدة سيمفونية، طالما أن الألحان المتعاقبة تحاول أن تصور حالات نفسية تتراوح بين الجزل والكآبة في نغمة رومانطيقية تنتمي إلى برامز مباشرة أكثر بكثير مما تنتمي إلى هايدن نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حوار متواصل وخلاق
ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن هذه الأعمال التنويعية، التي واصل يوهان برامز 1833 - 1897 الاشتغال عليها طوال حياته، معطياً إياها من الأهمية ما لا يقل عما كان يعطيه لأعماله الخاصة، ولا سيما لسيمفونياته، تبدو في نهاية الأمر، وعلى ضوء الرصد الواعي لمتن أعمال برامز ككل، وبعيداً من فكرة تأثرها بهذه الأعمال، أو تأثر هذه الأعمال بها، تبدو وكأنها تقيم حواراً دائماً مع إبداعات برامز الخالصة. كما يبدو أن هذا الحوار المتواصل والخلاق، كان يشكل بالنسبة إلى هذا الفنان، متنفساً حقيقياً للأطلال على التاريخ الموسيقي السابق عليه، ناهيك بأنه أعاد رسم المبادئ والأسس التي كان يقوم عليها هذا النوع الموسيقي، هو الذي ابتكر وطور أيضاً في مجالات موسيقية عدة لعل أهمها المجال السيمفوني، الذي يرتبط بعلاقة قرابة حتى مع تنويعاته. ترى - أخيراً - ألا يوحي لنا هذا كله، بضرورة أن يقوم الدارسون أخيراً، بدراسة "تنويعات" محمد عبدالوهاب، - التي لم يفهمها "خبراء الجمال" المتباكون يوماً لأسباب غير جمالية كما أشرنا في مفتتح هذا الكلام، على جدران منظمة "يونيسكو"، إلا على أنها "سرقات مصرية" - وكذلك تنويعات اشتغل عليها معظم كبار الموسيقيين العرب، لعل في ذلك فائدة لفن الموسيقى نفسه، ولذكرى أولئك الفنانين الكبار؟