Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المسرح الإغريقي نشأ في الساحة العامة مع الفلسفة والسياسة

الناقد التونسي عبدالحليم المسعودي يقدم قراءة مختلفة للفن المشهدي عبر الأزمان

معالم من المسرح الإغريقي (من الكتاب)

ملخص

يبحث الناقد الأكاديمي التونسي عبدالحليم المسعودي في تاريخ المسرح العالمي ونشأته في بلاد الإغريق، ويكشف في كتابه الجديد "الأغورا والأوركسترا"، أصول التراجيديا، مفتشاً في كتب التراجيديات الإغريقية للوصول إلى مصاف تلك الكتب التي تؤسس فهماً جديداً لطبيعة فن المسرح اليوم. وكذلك تأكيد مدى أهمية هذا الفن في مواجهة عواصف الذكاء الاصطناعي وإنسان- الروبوت.

يعالج الباحث التونسي عبد الحليم المسعودي في كتابه الجديد "الأغورا والاوركسترا" (دار الجنوب – تونس)العلاقة بين التراجيديا الإغريقية والسياسة، لكنّ الرهان الأساس ضمن هذه المضاربات حول التراجيديا يظل، كما يفيد الكاتب، دائم الحضور ضمن السعي لفهم "العبقرية الحضارية" عند الإغريق التي لا تفصل المسرح كفن، عن الوجود الاجتماعي والسياسي والوجداني لأمة حققت معجزتها الحضارية من دون رسالة أو إلهام سماوي.

ويلخص المسعودي الحياة القصيرة لمولد التراجيديا عبر المدة الزمانية التي استغرقتها هذه التراجيديا لقيامها كفن مكتمل مستقل بذاته عن بقية الأجناس التعبيرية الشعرية والمشهدية المجاورة لها، وتمتد هذه الحقبة منذ بداية القرن الخامس ق.م، حتى نهـــاية القـرن الـــــرابع ق.م، وتحديداً عام 406 ق.م، وهو تاريخ وفاة الشاعرين التراجيديين يوريبيديس وسوفوكليس، وما بعد هذا التاريخ بأكثر من ربع قرن، أي لحظة كتابة أرسطو لكتابه "البيوطيقا" (فن الشعر) كأول نص نظري حول التراجيديا ولد عام 330 ق.م.

يقسم الناقد والبحث التونسي كتابه إلى خمسة أبواب رئيسة، ويتناول في الباب الأول منها نشأة فن التراجيديا الإغريقية من خلال سؤال الأصول، ويناقش جملة الآراء الواردة حول هذه المسألة سواء في الأدبيات الإغريقية القديمة أو في ما بني من آراء دينية أو فيلولوجية (علم دراسة اللغة من مصادر تاريخية شفوية وكتابية) قديمة حول أصول التراجيديا، وذلك من دون أن يغفل صاحب كتاب "القماط والأكفان" مقاربات علم الأسطورة والأنثروبولوجيا في ما يتعلق بمكانة التراجيديا في الذهنيات والتصورات الإغريقية القديمة وكذلك في التصورات الدينية.

أما الباب الثاني، من الكتاب فخصصه المسعودي للنظر في العلاقة بين نشأة التراجيديا وعلاقتها بميلاد المدينة الإغريقية، لما في هذه العلاقة من جذور لارتباط التراجيديا بمشاغل المدينة الإغريقية. وقد ذهب الباحث في هذا السياق إلى الجذور الأولى لنشأة مفهوم المدينة الإغريقية في الأصول الملحمية، فرصد نشأة طبيعة الحكم السياسي الإغريقي وأنماطه المصاحبة لتشكيل طبيعة المدينة الإغريقية القديمة نفسها، وذلك امتداداً من العصور المظلمة إلى بداية ما بعد العصر البطولي الملحمي، والوقوف على ابتكار الإنسان الإغريقي لمفهوم المساواة كمبدأ أساس ممهد لبناء مدينة المواطنة الحرة من خلال التجربة الحياتية في تاريخ الإغريق، ومن ثمَّ الانتهاء بتشكيل المدينة في صيغتها النهائية كما عرفها القرن الخامس قبل الميلاد قبيل نشأة التراجيديا، ومن ثم الخلاص لنشأة الأغورا (الساحة العمومية) كهوية عمرانية واجتماعية وسياسية للمدينة، والإشارة إلى عتبة انعكاس هذه الأغورا في الأوركسترا المسرحية التي أطلق عليها المسعودي اسم "الاستعارة المفتوحة" في سياق قيام فن التراجيديا.

أما الباب الثالث من هذا الكتاب فخصصه صاحب مسرحية "الروهة" للحديث عما عرف بـ"المعجزة الإغريقية" انطلاقاً من النظر في ابتكار "السياسي" عند الإغريق، إذ يتتبع المسعودي من خلاله اللحظة المفصلية المؤثرة في علاقة السياسة بالمسرح من خلال النظام السياسي الطغياني، ومن خلال مسألة نحت الذات الإغريقية وميلاد الديمقراطية، وعلاقة كل ذلك بمأسسة المسرح وتقاطعاته مع السلطة السياسية والتشريعية في أثينا، وصولاً إلى النظر في طبيعة العلاقة بين المسرح والسياسة، وما يعتور هذه العلاقة من ريبة السلطة وميلاد الرقابة، وتمثلات هذه السلطة للمحاذير والمخاوف من الممارسة المسرحية وخطر الفرجة على الناس في المدينة، وذلك انطلاقاً من أحداث تاريخية جرت في تاريخ المسرح الإغريقي، وبخاصة مع التراجيديا، فينظر الكاتب في علاقة التماثل والتباين بين رجل السياسة ورجل المسرح من خلال ما أطلق عليه المؤلف التونسي "الصداقة المعطوبة".

المسرح والخطاب الفلسفي

وخصص عبدالحليم الباب الرابع من "الأغورا والأوركسترا" للنظر في العلاقة بين المسرح والسياسة في الخطاب الفلسفي اليوناني، وتحديداً عند كل من أفلاطون وأرسطو، وذلك باعتبارهما أهم الفلاسفة الإغريقيين الذين تناولوا المسألة المسرحية بالنظر في علاقتها بالسياسة والأخلاق والتربية ومفهوم الجمال. فبخصوص فلسفة أفلاطون يركز المسعودي على دراسة مفهومه الفريد في ما يتعلق بـسلطة المسرح التي تمارسها الجماهير على حياة المدينة من الناحية الأخلاقية والذوقية، فنظر صاحب "النار والرماد" من خلال ذلك في مفهوم السياسة عند أفلاطون، وتصوره للمدينة المتعالية التي لا تعترف بالشعراء والشعراء المسرحيين، ورؤيته الجمالية ونظرته للفن بصورة عامة وللشعر وللظاهرة المسرحية خصوصاً.

أما بخصوص الفلسفة الأرسطية فقد بحث الكتاب في مفهوم أرسطو للسياسة وعلاقتها بفن الشعر، وتطرق المؤلف من خلال ذلك لمفهوم أرسطو للمدينة، ثم إلى رؤيته الجمالية بخصوص فن التراجيديا، سواء تعلق الأمر بمسألة المحاكاة والتأصيل الأنطولوجي أو بمسألة التطهير، (الكاثرسيس) ورهاناتها، ونظرة أرسطو العامة للفن وأهدافه، ورصد الكاتب في الفلسفة الأرسطية العلاقات الخفية بين فن الشعر والسياسة في ما يتعلق بالنسق أو النظام الفلسفي العام الذي شيده أرسطو، أو في ما يتعلق بمسألة التطهير وعلاقتها بوظيفة التراجيديا في تأثيرها المباشر في الجماهير ورهانات هذا التأثير.

أما الباب الخامس والأخير، فخصصه صاحب "جمهورية الحمقى" لدراسة المدونة التراجيدية عند أسخيلوس، ومدى انشغالات التراجيديا في مسرحيات هذا الشاعر بالمسائل السياسية، فتناول المسعودي في دراسته هذه كل مسرحية من مسرحيات أسخيلوس على حده، بدءاً بمسرحية "الفرس"، ووصولاً إلى مسرحية "المحسنات" كجزء أخير من الثلاثية الأوريستية، مروراً بمسرحية "السبعة ضد طيبة" ومسرحية "بروميثيوس مقيداً" ومسرحية "المستجيرات" ونظر المسعودي في جملة من القضايا السياسية التي تناولتها هذه التراجيديات كمسألة الحرية ومسألة المدينة ومسألة صناعة الآخر أو الغيرية، وصولاً إلى مسألة بناء نظرية للسلطة، ومسألة التمرد والانقلاب والتضحية والاستشهاد والنشأة الجنينية لما يسميه الكاتب بـ"ألمانيفستو الحضاري والسياسي"، والنظر في نظام الطغيانية والديمقراطية وعلمنة النزاعات والنظام الأبوي والأمومي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويناقش كتاب "الأغورا والأوركسترا" مسألة التشريع ومفهوم العدالة الإلهية والإنسانية ومسألة التحكيم، إلى جانب ربط كل هذه الموضوعات التي تناولتها تراجيديات أسخيلوس بالواقع السياسي في أثينا، والعودة مرة أخرى إلى تناول العلاقة بين الأغورا والأوركسترا من خلال التراجيديا. لا يستسهل المسعودي القول إن نشأة التراجيديا كانت بسبب ما وصلته المدينة الإغريقية من تحضر مدني وسياسي، فلا يكتفي بغض الطرف عن الجذور الخفية للتراجيديا قبل استوائها في الشكل الذي وصلنا في المدونة التراجيدية الإغريقية.

المؤلف أيضاً لا يستسهل الاكتفاء بالقول إن التراجيديا قد نشأت في دائرة الدين وإن أصلها في ذلك أصل ديني، فطرح مسألة أصول التراجيديا مسألة أكثر تعقيداً وانفلاتاً لدى المسعودي، والثابت أن هذه التراجيديا قبل استوائها قد قطعت، وما كانت وقتها بتراجيديا، مسافات سحيقة في التاريخ المظلم للإغريق، وأن منشأها ما كان بالضرورة في علاقة بالمدنية أو التحضر العمراني والسياسي، ولا حتى بعد انتظام الأنساق الميثولوجية في المتون الملحمية والأناشيد الشعرية.

وهنا يوضح الكاتب أن علم الحفريات (الأركيولوجيا) كان له أيضاً دور أساس في تبيان ما خفي من ممارسات قديمة تركت آثارها خاصة في التصوير الخزفي سواء أتعلق الأمر بمشاهد صورية ميثولوجية قد تتقاطع مع ما ارتسم من صور في مدونة التراجيديا الإغريقية الكبرى. يذهب المسعودي إلى أن الدراسات الأنثروبولوجية ودراسات تاريخ الأديان والأديان المقارنة كان لها الفضل أيضاً في تنويع الرؤى وتكثيفها من أجل مزيد من الإنارة حول ما سماه المسعودي: "لغز التراجيديا المحير"، بخاصة على مستوى إنارة غموض طقوس الأضحية عند الإغريق، فالتراجيديا، كما يبين الكتاب، ارتبطت ارتباطاً مراوغاً بحيوان هو كان في قلب طقوس الأضحية. والحيوان المقصود هنا هو حيوان الـ"تراغوس" أو التيس، أي ذكر الماعز الذي يتجلى لنا منذ الإطلالة الأولى النصية عند أرسطو في كتابه "فن الشعر"، فيزيد الأمر التباساً، وهو التباس قائم إلى اليوم حول فن التراجيديا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة