Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مفاتيح "التعبير الجيني" تصنع جسدك وصفاته وترسم إمكانياته ومساراته

تحتوي كل خلية شيفرة معلومات تكفي لصنع الجسم كله. يجب أن "ينطق" جزء منها كي يُصنع عضو ما، و"تسكت" بقية الشيفرة. كيف؟ إسأل علم "إبيجينتكس".

الخيارات المتعلقة بنمط الحياة اليومية تؤثر في الوزن، وهو صفة مظهرية أساسية في الجسم تحددها الجينات. وينهض بدراسة ذلك النوع من التفاعلات بين الجينات والعناصر الخارجية، علم الـ"إبيجينتكس" الحديث (موقع 01.دبليوبي.كوم)

تحدّثتُ في مقال سابق عن دواء بسيط التركيب نسبياً أثبت مكتشفوه أنه يستطيع إبطاء مسار الشيخوخة البيولوجية في الجسم. وبيّنتُ أيضاً أن ذلك الدواء يعمل عبر آلية جينية محددة، بمعنى أنه يؤثر في أشياء معينة في الجينوم البشري (يشار إليه أحياناً باسم الحمض النووي الوراثي، واختصاراً "دي أن إيه" DNA أو "دنا"). واستطراداً، تكون تلك الأشياء شبيهة بـ"المفاتيح" التي تتحكم في "قوّة" أداء الجينات. وفي قول أكثر وضوحاً، إنّ كل جين (أو مجموعة مترابطة من الجينات) يتضمن شيفرة بشأن الإتيان بعمل معين، لكن القوّة أو المقدار الذي ينجز فيه ذلك العمل، تتحكّم فيه "مفاتيح" معينة. ولنقل إنّ هنالك جيناً أو مجموعة مترابطة من الجينات تحمل شيفرة أن يكون لون الجلد أسمر. تعمل "المفاتيح" الجينية على تعديل مقدار سمرة الجلد، فيكون غامقاً تماماً أو يأتي مشرّباً بسمرة خفيفة.

وبقول آخر، يعني ذلك أن تلك "المفاتيح" تتفاعل مع معطيات خارجية وبيئيّة أيضاً، مثل مدى تعرّض الجلد إلى أشعة الشمس أو غيرها من العناصر الخارجية التي تؤثر في لون الجلد.

وهناك علم كامل عن تلك "المفاتيح"، يسمى "إبيجينتكس" Epigenetics، ويترجم أحياناً بـ"علم التخلّق". وثمة من يرى أن ذلك المصطلح ثقيل، مشيراً إلى أن الشطر الأول من المصطلح ("إبي" Epi-) يعني فوق أو في الخارج أو عند الطرف (مثلاً "إبيدرميس" Epidermis يعني الطبقة الخارجية في الجلد، ومصطلح "إبيفيسيس" Epiphysis يشير إلى الطرف العلوي في العظم). وكذلك يمكن ترجمة "إبي" بكلمات مثل "على" و"إضافي" و"ما يشبه ذلك" وغيرها.

وليس أمر الترجمة مهماً. والأهم أن "مفاتيح القوّة" الجينية صارت علماً واسعاً، بل تركزت عليها  أنظار العلماء مباشرة بعدما تعرفوا إلى التركيبة الكاملة للجينوم البشري. لقد تعرف العلماء على تركيب الجينوم (Genome) وفككوا ألغازاً على شيفرته، فتوجب عليهم تالياً التركيز على الكيفية والآلية التي يعمل بها الجينوم والشيفرة التي يتضمنها. وبديهي القول إن ذلك يشمل البحوث المتعلقة بالشيخوخة والمرض والسلوك البشري وما إلى ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولمزيد من التوضيح، يمكنك أن تنظر إلى نفسك باعتبارك مثلاً بيّناً عن "مفاتيح القوّة" الجينية أو الـ"إبيجينتكس". تذكّر أنك ابتدأت كبويضة ملقّحة ثم كبرت لتصير جسداً من 70 تريليون خلية! من وجهة نظر جينية، تكاد تكون تلك الخلايا كلها متشابهة نسبيّاً، مع وجود فوارق "قليلة" في ما يتعلق بخلايا جهاز المناعة. وعلى الرغم من ذلك التشابه كله، تعمل الخلايا التي يتكوّن منها الكبد أو المثانة البولية بطريقة مختلفة كثيراً عن عمل خلايا الدماغ أو القلب. لماذا؟ لأنه لو تخيّلنا أن "المفاتيح" الجينية مفتوحة بالنسبة إلى الشيفرة التي تُكوّن خلية بعينها، فستكون النتيجة أن كل خلايا جسمنا ستكون خلايا الكبد!

بمعنى آخر، تحتوي الخلايا كلها على الشيفرة التي تُستَعمَل في تركيب كل أنواع الخلايا، لكن "المفاتيح" الجينية تتحكّم في مسارها فلا تسمح بالتكاثر إلا لنوع معين وفي موضع (أو توقيت) محدد، فيتكوّن الكبد، وتطلق عمل نوع آخر في موضع (أو توقيت) آخر، فتتكون المثانة البولية. وكذلك يكون الأمر بالنسبة لتشكل الدماغ والقلب والعين والأذن والجلد وغيرها. ويضاف إلى ذلك أن مواصفات تلك الأعضاء وأنسجتها، تكون متوافقة مع معطيات شيفرة الجينوم في كل فرد، بمعنى وجود آلية تجعل العضو أو نسيجه متفاوتاً بين فرد وآخر، ما يوصف بأنه فارق في "تعبير" الجين (أو المجموعة الجينية) عن الشيفرة التي في داخله (أو داخلها).

واستناداً إلى ذلك، يتحدث العلماء عن "تعبير الجين" Gene Expression في إشارة منهم إلى الطريقة التي يعمل فيها الجين على إظهار ما تحمله شيفرته من الخصائص والصفات. وينطبق ذلك الوصف بطريقة واضحة، على الصفات الظاهرية أو المظهرية (تسمّى "فينوتايب" Phenotype) التي تحمل الجينات شيفرتها، مثل الطول والوزن ولون الجلد وسواها.

وتُعطي الكلمات السابقة فكرة عما يشتمل عليه علم الـ"إبيجينتكس" الذي يركز على آليات "التعبير الجيني" والصفات المظهرية/ الظاهرية في الإنسان. ويجري ذلك أساساً عِبْرَ ثلاث آليات: التحكّم ببروتين أساسي أسمه "هيستون" Histone، وإدخال مادة "ميثين" على تركيب الجينوم، والعمل عبر تركيب جيني موازٍ لتركيبة الجينوم يحمل إسم "آر أن إيه" RNA (يكتب أحياناً "رنا").

 

لعلك شاهدت على الشاشات صوراً للجينوم تظهره على هيئة سلالم لولبية طويلة. وفي معظم خلايا الجسم، يكون الجينوم موجوداً في نواة الخلية، لكنه لا يكون على هيئة سلالم مفرودة، بل يكون موضّباً ومكثفاً ومطوياً على بعضه بعضاً. ويتكوّن غلافه أساساً من بروتين من نوع "هيستون". وفي السياق نفسه، عندما يشرع جين ما في العمل و"التعبير" عن المواصفات التي تحملها شيفرته، يتوجّب عليه التعامل أولاً مع بروتين الـ"هيستون" (عبر إدخال مادة الميثين) كي يتفلت من قبضته، ثم يأتي بروتين آخر فيقرأ شيفرة الجين الذي تحرر من الـ"هيستون". (يمثل ذلك الآلية الأولى). وكذلك تبرز أهمية مادة الميثين في أنها مادة تعمل على إسكات "التعبير الجيني". ما هي عملية الإسكات؟ إنها عملية حاسمة في رسم مسار تطوّر الخلية. لنتذكر أن كل خلية تحتوي على الجينوم كله، لكن جزءاً من جينات ذلك الجينوم الطويل الملتف هو الذي يتضمن الشيفرة التي ترسم مسار تحوّلها إلى إحدى خلايا عضلة القلب. إذاً، يتوجّب أن "يعبّر" الجين (أو الجينات) المتخصص في صنع عضلة القلب، عن نفسه بقوة كافية، وكذلك يتوجّب أيضاً "إسكات" بقية الشيفرات الموجودة في بقية أجزاء الجينوم. (يمثل ذلك الآلية الثانية).

واستكمالاً للصورة نفسها، يجب العودة خطوة إلى الوراء للتذكير بالطريقة التي تتولى الجينات فيها صنع البروتينات التي يُنظَر إليها بوصفها الحجارة الأساسية في بناء الأنسجة ومن ثم الأعضاء المختلفة في الجسم. عندما "يعبّر" جين عن نفسه، تجري قراءته (بالأحرى قراءة شيفرته) بواسطة مادة معينة تعمل على نسخ تلك الشيفرة. بعدها، يُصار إلى إرسال تلك النسخة إلى خارج النواة، فتلتقطه تلك التركيبة المسماة "رنا". ويفترض بالأخيرة أن تتولى صنع بروتين يتوافق مع الصفات التي تحملها شيفرة الجين. ولكن، مهلاً. ثمة عائق شبه خفي. ثمة تراكيب صغيرة جداً تسمّى "ميكرو رنا"، تأتي إلى الإنسان من الأم أثناء تكوّنه في رحمها تتدخّل في تلك العملية، ولا تفعل سوى تخريب الشيفرة التي نُسخَت من الجينات الموجودة في الجينوم. ليست مهمة سيئة دوماً، بل تكون مفيدة إذا كان البروتين الذي خُرِّبَت شيفرته، من نوع البروتينات السيئة. (يمثل ذلك الآلية الثالثة). وتلخيصاً، بواسطة التدخل في الآليات الثلاثة التي شرحتها الكلمات السابقة، يتمكّن الـ"إبيجينتكس" من التحكّم في عملية تصنيع البروتينات من قِبَل الجينات الموجودة في الجينوم.

 

ثمة ملامح أساسيّة للـ"إبيجينتكس" يجدر استيعابها بهدوء. تذكّر أن الـ"إبيجينتكس" الموجود في خلاياك لا يعمل على تغيير تركيبة جيناتك، بل يؤثّر في آلية "تعبير" الجين عن الشيفرة التي يحملها. يشبه ذلك القول أن الجينات تمثّل المكوّنات الصلبة التي يتألف منها كومبيوترك أو هاتفك الذكي، فيما تشبه الـ"إبيجينتكس" البرامج والتطبيقات فيهما.

لا يتغيّر الجينوم عندك طوال حياتك، بل يبقى ثابتاً. في المقابل، يكون الـ"إبيجينتكس" مرناً ومطواعاً ويتفاعل مع البيئة. بقول آخر، إنه يهرم مع مرور الزمن، ويتأثر بالمأكل والمشرب والأدوية و... التفاعلات الاجتماعية والنفسية أيضاً.

في المنحى عينه، أظهرت بحوث حديثة أن الـ"إبيجينتكس" ينتقل من الأب والأم إلى الأبناء، لكنه قابل للتغيّر تحت تأثير البيئة ومعطيات خارجية متنوّعة. وقد يصل التغيير إلى حد انتقال الـ"إبيجينتكس" من النقيض إلى النقيض، كأن يملك شخص ما جينات فيها شيفرة السمنة، لكن نمط عيشه يؤثر في الـ"إبيجينتكس" فيسير بجسمه صوب الرشاقة.

استناداً إلى ذلك، يصبح بديهياً الإشارة إلى إن الـ"إبيجينتكس" له تأثيرات واضحة ومنتشرة. وكذلك يمثّل علماً جديداً يتوسّع بسرعة. وفي أمراض كثيرة، مثل السكري والسرطان، يحدث اضطراب في الإنزيمات التي تؤثر في الـ"إبيجيناتكس"، فتضطرب عملية تصنيع البروتينات الصحيحة لمصلحة تكوّن بروتينات ضارة، ما يسهم في دفع الجسم نحو مسار المرض.

واستطراداً، تفيد المعلومات الطبية حاضراً بوجود إمكانية للتأثير في الـ"إبيجينتكس" بواسطة أشياء بسيطة مثل نمط الغذاء والتدخين وطريقة التعامل مع الضغط النفسي وغيرها. وكذلك من المهم تذكر أن التأثيرات التي نُدخلها على الـ"إبيجينتكس" يمكن أن تنتقل إلى الأجيال التالية.

وكخلاصة، من المستطاع القول إنّ الأنماط الجينية ليست مجرد "إملاء" من الجينات، لكنها تتأثر أيضاً بالبيئة والعوامل الخارجية المختلفة. واستطراداً، يتأثر الجينوم في كل فرد بالخيارات التي مارسها الآباء والأجداد. وحاضراً، بإمكانك أن تفكر أيضاً بأن خياراتك في الحياة اليومية ربما تؤثر في من سيأتون إلى هذه الدنيا مستقبلاً. إذاً، تمهل وفكر.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء