Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية "شهيد"... حينما يكون الموت علاجا للحياة

لا أعرف بماذا يمكن أن نصف شخصاً أو شخصية روائية هدفه الأكبر أن يضفي على الوجود قيمة وكأنه في ذاته يفتقرها

على من يرى وضع المواطن الأميركي مثيراً للتوتر أن يجرب وضع المهاجر الذي يستقر في بلد قضى على حبيب له (وسائل التواصل)

ملخص

"تروي (شهيد!) حكاية سيروس شمس، الشاب الذي ولد في إيران وجاء به والده رضيعاً إلى الولايات المتحدة، فقد شمس والدته فعاش يعاني الاكتئاب والأرق والإدمان طوال حياته. فضلاً عن العنصرية ومشاعر الحزن واللاجدوى والاغتراب".

"ربما تناول سيروس مخدرات خاطئة بترتيب صحيح، أو مخدرات صحيحة بترتيب خاطئ، فرد الرب عليه أخيراً، بعد 27 سنة من الصمت، وإذ ذاك، كان ما أراده سيروس أكثر مما عداه هو: الإعادة. الإيضاح. مستلقياً على حشية تفوح منها رائحة البول ومنظف فبريز، في غرفة نومه التي تفوح برائحة البول ومنظف فبريز، شخص سيروس إلى المصباح الكهربائي الوحيد المتدلي من السقف، راجياً منه أن يومض مرة أخرى، راجياً من الله أن يؤكد له أن وميض المصباح كان فعلاً إلهياً لا محض خلل في كهرباء الشقة القديمة المتهالكة".

هذا هو مفتتح رواية "شهيد!" الصادرة حديثاً عن دار نوبف في نحو 330 صفحة للأميركي الإيراني الأصل كاوه أكبر، وهو شاعر مرموق، ولد عام 1989، ونشرت قصائده في "ذي نيويوركر" و"باريس رفيو" و"نيويورك تايمز"، ولقيت كتبه اهتماماً نقدياً واسعاً فضلاً عن جوائز مهمة.

يكتب الناقد والكاتب الأميركي غابينو إغليسياس بإذاعة أميركا الوطنية في الـ29 من يناير (كانون الثاني) الماضي، "كانت لدي توقعات كبيرة من روايته الأولى (شهيد!). لكن توقعاتي، بعد أن تقدمت فيها لثلاثة فصول، لم تعد غير نقطة في مرآة الرؤية الخلفية. فبعدما انتهيت من الرواية لم أعد أتذكر أصلاً توقعاتي، وقد شغلتني عنها معالجة كل ما حققه أكبر في روايته الأولى البارزة هذه".

"تحكي (شهيد!) حكاية سيروس شمس، الشاب الذي ولد في إيران وجاء به والده رضيعاً إلى الولايات المتحدة، فقد شمس والدته بعيد مولده إذ تعرضت الطائرة التي استقلتها إلى دبي لإطلاق نار فوق الخليج العربي، فعاش شمس يعاني الاكتئاب والأرق والإدمان طوال حياته. وسيطر عليه موت أمه واضطراره إلى التعايش مع موت أبيه أيضاً، فضلاً عن العنصرية ومشاعر الحزن واللاجدوى والاغتراب".

بعد ملخص كهذا، يقول الروائي الأميركي جونوت دياز في استعراضه لـ(شهيد!) إن على "من يرى وضع المواطن الأميركي مثيراً للتوتر، أن يجرب وضع المهاجر الذي يستقر في بلد قضى على حبيب له. إنه مقلوب الحلم الأميركي".

تكتب كيتي وولدمان في "نيويوركر" بتاريخ الـ13 من مارس (آذار) الماضي، أن سيروس "بعد حصوله على شهادة جامعية في الأدب من كلية حكومية في إنديانا، يعمل في مستشفى جامعي متظاهراً بالمرض، وتقتضي الوظيفة التظاهر بالمرض ليتدرب الأطباء المبتدئون عليه. يشعر سيروس أنه لا ينتمي إلى شيء (تتقاذفه أمواج الدنيا وتصنيفاتها، فلا هو بالإيراني ولا الأميركي، لا بالمسلم ولا بغير المسلم، لا بالسكير ولا بالمتعافي، لا بالمثلي ولا بالسوي. كل معسكر يحسبه بقوة على المعسكر الآخر. ومحض وجود المعسكرات هو سر حيرته)".

يغرق سيروس، بحسب ما يكتب غابينو إغليسياس، "في عالم الموت والشهداء مصاحباً شبحي أمه وخاله". وكان الخال هو سبب ميتة الأم المأسوية، إن تجاهلنا السبب المباشر لإسقاط الطائرة. غير أن جونوت دياز يقدم لنا مزيداً عن السبب المباشر في مقالته بـ"نيويورك تايمز" في الـ19 من يناير الماضي:

"بعد أشهر قليلة من ميلاد سيروس، ركبت والدته (رؤيا) طائرة من طهران إلى دبي لتزور أخاها (آراش) (الذي ألم به المرض من جراء خدمته في الجيش الإيراني ضد العراق)، وما كادت الطائرة تقلع حتى فجرها صاروخ أطلقته سفينة تابعة للبحرية الأميركية (فأسقطتها من السماء، كأنها محض إوزة). وهذه إشارة إلى واقعة حقيقية مشينة تحطمت فيها طائرة الرحلة رقم 665 التابعة للطيران الإيراني بصاروخ من سفينة (إس فينسين) الأميركية عام 1988، التي أخطأت وحسبتها طائرة حربية فاستهدفتها، وكان على متنها قرابة 300 راكب منهم 66 طفلاً، وكان يجب أن يكون سيروس الـ67 لولا أن (رؤيا) قررت تركه في البيت لأنه صغير للغاية".

حادثة منسية 

لم يكن لتلك المأساة من أثر يذكر في أميركا، لكنها رسخت في طهران فقدان الثقة في الولايات المتحدة، بحسب ما تكتب كيتي وولدمان ناقلة عن كاوه أكبر قوله في حوار مع مجلة (بيدون) إنه "مهتم بمعنى شعور المرء بالغضب بعد 35 سنة من وقوع حدث لم يعد أحد في أميركا يتذكره أصلاً".

غير أن هذه الحادثة المنسية هي التي تستهلك حياة سيروس وأبيه، فيتخبط الرجلان كل بطريقته وفي حينه بين الإدمان والاكتئاب. تلقي الحادثة بالأب إلى مهنة وضيعة في مزرعة دواجن، وتلقي بالابن إلى الإدمان والكتابة والتفكير في الموت.

تكتب سارة سايفر بـ"واشنطن بوست" في الـ23 من يناير الماضي أن سيروس "يؤلف كتاباً عن الشهداء، وهو مشروع قد يقنعه في نهاية المطاف بأن يقتل نفسه، لكنه غير واثق بعد من ذلك. وفي ما هو ماض في ذلك، فإنه يحمل أثقال النعمة والغضب، أما النعمة فهي أنه كان صغيراً فلم يسافر مع أمه في الطائرة التي أسقطت، وأما الغضب فمن عبثية الخطأ الذي أدى إلى مقتلها وأرغم أباه على حياة أدمن فيها الخمر وامتهن مهنة تافهة الأجر في مزرعة دواجن في إنديانا".

 

تضيف سايفر أن (شهيد!) "عامرة بالاستعارات التي تبلغ ذروة جمالها عندما تحيي طفولة سيروس، كما في قولها إن (حياة شمس وولده بدت في أميركا وهما متيقظان، يقظة غير طبيعية، كأنهما نافذتان مهتوكتا الستائر). والرواية ذات المناظير المتعددة تلقي الضوء على قرابة 40 سنة من سنوات التاريخ بميادين الحرب العراقية - الإيرانية، ومشاهد حلمية تقع خارج الزمن، وتبدي اهتماماً بالغاً بجعل معاناة الفرد التي قد تبدو (عديمة المعنى) واضحة (على مستوى الإمبراطورية) والتساؤل عما يحول ميتة إلى شهادة".

تكتب كيتي وولدمان أن إدمان الكحول والتعافي منه أضرا بسيروس، فجعله الأول يتأرجح ما بين الذرى والقيعان، وجلب له النشوة الجسدية والألم المبرح معاً، أما الأخير فجاءه بمقلوب عالمه الأول فإذا به في "الوسط عديم الطعم". "وفي ظل توقه إلى المعنى، ينصب تركيزه على الموت الذي يعيد إلى الحياة المعنى بأثر رجعي. فيبدأ في جمع قصص الشهداء البارزين في التاريخ لإعداد كتاب عنهم".

يكتب كاوه أكبر في مستهل الفصل العاشر من روايته نقلاً عن ملف (وورد) لسيروس: "إنني أشرع في تأليف كتاب مراث لأشخاص لم أقابلهم قط. نعم، ثمة غطرسة كريهة في تخيلي لأي جزء من حياتهم، والاجتراء على كتابته. لكن ثمة غطرسة أيضاً في الكتابة عن أي شيء". وسنرى مزيداً من هذا الرأي في الكتابة والفن بعامة لاحقاً.

تواصل كيتي وولدمان قائلة، إن ميتة والدة سيروس ليست العامل الوحيد المؤثر في رحلته مع الإدمان والتعافي والحيرة بين المعسكرات، ولكن حياة أبيه أيضاً عامل مؤثر بالقدر نفسه، فقد هاجر والد سيروس إلى ولاية إنديانا الأميركية، وعمل في مزرعة دواجن "ففرضت عليه وظيفته الوحشة والمرارة. لم يكن يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وكان يرجع إلى البيت كل يوم بذراعين مليئين بالخمشات من براثن الطيور، فيجلس على الأريكة ليعاقر الخمر حتى السحر. ويعتقد سيروس أن أباه انتظر التحاقه بالكلية ثم سمح لقلبه بالتوقف. فكلا والدي سيروس ضحية لآلة الرأسمالية الصناعية الأميركية، لقوة لم تكن تستحق تضحيتهما حتى لو قدماها طوعاً. يقول سيروس لمرشده في مجموعة التعافي من الإدمان: (لقد مات أبي مجهولاً بعدما أنفق عقوداً ينظف روث الدجاج. وأريد أن تعني حياتي أكثر من ذلك، وموتي أيضاً)".

"أكبر شديد الانتباه لدور الحكومات في إنتاج الشهداء بمعاملتها البشر معاملة النكرات أو من هم أدنى. يقول سيروس لصديقته ـ وحبيبته أحياناً ـ إن مأساة أبويه (غير مشهودة في الولايات المتحدة أو في إيران. غير مشهودة للإمبراطورية).

ويكتب سيروس في موضع ما من كتاب الشهداء أنه يتوق إلى أن (يموت قاتلا الرئيس. رئيسنا ورئيس غيرنا. أريدهم جميعاً أن يكونوا قد أصابوا لو كانوا خافوني. أصابوا في قتلهم أمي، وتخريبهم حياة أبي. أريد أن أكون جديراً بالرعب الهائل الذي يوحي به وجودي).

أسئلة ميتافيزيقية

لولا أن سيروس لا يقوى على العنف، بل إنه لا يستطيع حتى أن يتسامح مع تبوله اللاإرادي في سرير بفندق فيترك لعاملة التنظيف رسالة اعتذار و20 دولاراً. وعلى رغم ما لدى أكبر من أغراض سياسية واضحة، فإنه يستعمل الشهادة أساساً للتفكير في أسئلة ميتافيزيقية عما لو أن لآلامنا أهمية، وبالنسبة إلى من، وكيف يمكن أن تكون أكثر أهمية. والموت عند سيروس الساعي إلى الضخامة سبيل إلى الارتقاء بنفسه، وإلى رفض عالم يصر على الاستهانة بمعاناته ومعاناة من يعنونه وإلى الفرار أيضاً من هذا العالم".

يكتب جونوت دياز أن حديثاً عابراً بين سيروس وصديقته ورفيقته في السكن يفضي إلى رحلة مصيرية إلى نيويورك "يلتقي فيها فنانة إيرانية مصابة بالسرطان، اسمها أوركيدة، تقضي أيامها الأخيرة في متحف بروكلين متحدثة مع الزوار عن الموت ضمن عرض فني. بصوتها الخافت ورأسها عديم الشعر، وبغيظها لسيروس إذ تسمه بأنه محض كليشيه (الرجل الإيراني المهووس بالموت)، وبأسرارها أيضاً، تغير أوركيدة مسار حياة سيروس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تكتب كيتي وولدمان أن "الموت في الرواية طريقة لإضفاء معنى على الألم، وأن الفن طريقة أخرى". وأوركيدة، بجلستها على كرسي معدني أسود في متحف بروكلين وإجابتها عن أسئلة الزوار المتعلقة بالموت، تضرب لسيروس مثالاً حياً لـ"كيفية تحويل الموت إلى شيء نافع". "يلتقي سيروس أوركيدة ثلاث مرات، في مصادفات كمصادفات الحواديت. يفضي سيروس إليها برغبته في الكتابة عن الشهداء الدنيويين السلميين، عمن يمنحون حياتهم لشيء أكبر من أنفسهم)، فترى أوركيدة أنه يتكلم عن (ناس يموتون من أجل الناس. أنت تتكلم عن شهداء أرضيين).

 وعلى رغم ذكاء الفكرة، سرعان ما يتشكك فيها سيروس. فوالده نفسه في نهاية المطاف مات من أجله هو، وذلك قرار يراه سيروس الآن مثيراً للشفقة، بل وللغضب. وسرعان ما تقول أوركيدة إن الناس في حياتها دائماً ما يحضرون ويغيبون، وهم أقرب إلى الغياب منهم إلى الحضور. فـ(كيف للتضحية بنفسك من أجل ناس يمضون بعدك إلى الموت أن تخلق معنى دائماً؟)".

تروي أوركيدة لاحقاً في الفصل المروي من وجهة نظرها أنها كرست حياتها لشيء آخر. تقول "أنفقت كل فلس معي على القماش، والأصباغ. أرغمت نفسي على أن أنسى زوجي، وأخي، وبلدي، وولدي. ضحيت بحياتي كلها، أطحت بها في الهاوية".

تقول كيتي وولدمان إن أوركيدة تبدو للوهلة الأولى مطابقة لقالب (وحش الفن)، وهو في العادة رجل يبيح لدافع الفن لديه أن يطغى على التزاماته تجاه المحيطين به. أما في رواية (شهيد!) فالفن هو نفسه الوحش، وأوركيدة شهيدته، فقد جعلت كل علاقة في حياتها تالية للمهمة المستحيلة، مهمة تمثيل حقيقة العالم.

 

تعدد الرواة 

بوسع سيروس، وهو الشاعر المعذب، أن يصب حياته كلها في هاوية مماثلة. لولا أنه يقول إن اللغة لن تكون أبداً الحل. فعليها اللعنة، أليس كذلك؟ وعلي أنا أيضاً اللعنة إن وهبتها حياتي. لأنني أعلم أن الكتابة لا يمكن أن تجعل لأي من هذه الميتات الأهمية التي يفترض أن تنالها. لن توقف أبداً مسارات الفاشية، ولن تنقذ الكوكب. ولن يحدث أبداً أن تستعيد أمي.

ويمضي كاوه أكبر فيقول إن سيروس "بات يبتهل داعياً أن ينتهي طغيان كل الرموز، ابتداء باللغة. لقد فهم بوضوح ظل يراوغه حتى تلك اللحظة من حياته أنه ليس مخلوقاً على الإطلاق للعالم الذي يعيش فيه، وأن الفن والكتابة لم يقتربا من تعويضه عن الخلل الجذري، إلا بمقدار ما قد يقربك الوقوف على سطح بناية من الإمساك بالقمر أكثر من الوقوف على الأرض".

يفقد سيروس إيمانه بالفن واللغة، ويستجيب خالقه، أي كاوه أكبر، لدعوات مخلوقه على حد تعبير كيتي وولدمان فـ"يهبه نهاية العالم، بخيول برية ودخان وزهور تنهمر من السماء. فليس بوسع الفن أن يبرئ العالم الساقط، إنما حسبه أن يكون كالمسكن، كالعلاجات التي درج الأطباء المتدربون على وصفها للمريض المزعوم".

يكتب غابينو إغليسياس أن الرواية على رغم تركيزها على سيروس وأوجاعه ورحلته مع الإدمان والتعافي والشعر والموت والشهادة، رواية عديدة الطبقات، فيها فصول مروية من وجهات نظر آخرين، وفيها حوارات تجري في خيال سيروس الطفل ـ للتغلب على ليالي الأرق ـ بين مشاهير حقيقيين وشخصيات مختلقة، و"هذا المزيج من الأصوات والأفكار والشخصيات يجب أن يثقل الرواية ويكون سبباً في فشلها، لكن كاوه أكبر استطاع أن يجعلها على رغم ذلك المزيج أو بسببه تفلح فلاحاً جميلاً وتتماسك على أروع ما يكون التماسك فيكون كل عنصر في مثل جمال وإمتاع الرواية ككل".

لا أعرف بماذا يمكن أن نصف شخصاً، أو شخصية روائية، هدفه الأكبر هو أن يضفي على حياته قيمة، وكأنما الحياة في ذاتها فقيرة إلى القيمة. لعل أزمة سيروس هو أنه أراد بشدة أن تكون حياته وموته النقيض لحياة أمه وأبيه وموتهما. ولم يجد إلى ذلك غير سبيل وحيد: فمرشد التعافي يسأل "هل تريد أن تكون شهيداً؟" ليجيبه بطلنا "أعتقد. نعم، في الحقيقة، شيء من هذا القبيل". هو لا يريد الشهادة في ذاتها، هو يريد شيئاً من هذا القبيل، شيئاً مبهراً، عظيماً.

فلعل هذا الولع بالشهادة، طلباً للقيمة، إنما هو تعبير صارخ عن يأس من أن تكون الحياة نفسها، بعيشها البسيط، منتجة للقيمة أو مجسدة للقيمة، ولعل هذا الربط للقيمة بعمل "جليل" هو مشكلة سيروس. ولعل هذه مشكلة "أميركية" بالذات، ناجمة عن الولع بالضخامة الذي كثيراً ما يعمي المصابين به عن أمجاد حقيقية في البساطة، في الظلال الخافتة، بعيداً من الضوء.

عنوان الكتاب: MARTYR!

تأليف: Kaveh Akbar 

الناشر: Knopf 

اقرأ المزيد

المزيد من كتب