Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المستشرق برنارد لويس يكشف أسرارا في سيرته الذاتية

فصل بين الاستشراق والاستعمار واتهم إدوارد سعيد بجهل تاريخ الشرق الأوسط وأوروبا

المؤرخ  والمستشرق برنارد لويس (دار الرافدين)

ملخص

يكتب المستشرق والمؤرخ البريطاني برنارد لويس سيرته الذاتية التي صدرت بترجمة عربية بعنوان "هوامش على قرنٍ مضى"ـ متوقفا عند أبرز المحطات التي عبرها خلال عمره المديد. وقد ألّف ثلاثة وثلاثين كتاباً، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وألمّ بخمس عشرة لغة، وتعرّف إلى ثقافات عديدة، وشارك في مؤتمرات كثيرة حول العالم. ولعلّ اطلاعه على الأرشيف العثماني في العام 1950، جعله يشعر بأنه مؤرّخ محظوظ للغاية، وأتاح له فرصة الوقوف على معلومات وحقائق تاريخية يقتضي معها إعادة النظر في التاريخ المكتوب.

 "هوامش على قرنٍ مضى" هو العنوان الرئيس للكتاب الثالث والثلاثين للمؤرّخ  والمستشرق الأميركي من أصل بريطاني برنارد لويس، الصادر عن "دار الرافدين، بترجمة عبدالله الأسمري، و"خواطر مؤرّخ مهتم بالشرق الأوسط" هو العنوان الفرعي له، و"سيرة ذاتية" هي العتبة النصّية التي تحدّد نوعه على الغلاف. وبذلك تجمع العتبات الثلاث بين الهوامش والخواطر والسيرة الذاتية. على أنّ متون الكتاب مفتوحة على حقول معرفية أخرى كالتاريخ والسياسة والاجتماع والدبلوماسية والحضارة والأنثروبولوجيا والرحلة وغيرها، مما يمنح الكتاب قيمته المعرفية. ولعلّ ما يضيف إلى هذه القيمة كونه صادراً عن شخصية مثيرة للجدل، جعلها عمرها الطويل وسعة معرفتها وتعدّد اهتماماتها وأسفارها الكثيرة شاهدة على قرنٍ حافلٍ بالتحوّلات والأحداث الكبرى.   لويس المولود في لندن في العام 1916، لأبٍ يعمل في صناعة النسيج وتجارة العقارات، ويهتمّ بقراءة الصحف واقتناء اللوحات الفكتورية ورياضة كرة القدم وتربية الكلاب وسماع الأوبّرا الإيطالية والعزف عل البيانو، هو هاري لويس، وأمٍّ تُضطرّ إلى ترك الدراسة والذهاب إلى العمل لتعيل أسرتها الفقيرة، وتهتمّ برياضة السباحة وقراءة الروايات وحياكة الملابس وتطريزها، هي جيني لويس، كان لا بدّ له من التأثّر بهذه النشأة الأسرية، ولعلّها هي أسهمت في تشكيل ميوله واهتماماته التي راح ينمّيها في مراحله العمرية المتعاقبة حتى أصبح ما هو عليه، وملأ الدنيا وشغل الناس، فانقسموا فيه بين مؤيّد له وناقم عليه، وهو ما يعبّر عنه في مقدّمة الكتاب بالقول: "تعرّضت للهجوم من طرفين على كفّي نقيض. يتّهمني طرف بالمتاجرة بالإسلام ومقدّساته، بينما يتّهمني طرف آخر بالدفاع عن عيوبه بل وإخفائها" (ص 13).

  ميول واهتمامات

بالعودة إلى الميول والاهتمامات، التي أخذت تتبلور، منذ سنواته الأولى، يطالعنا اهتمامه المبكّر بدراسة الشرق الأوسط، فشله في الرياضة، عزوفه عن تربية الحيوانات، شغفه بتعلّم اللغات، ولعه باقتناء الكتب والقراءة، هوسه بترجمة الشعر إلى الانكليزية، اهتمامه الكبير بالتاريخ وتخصّصه في تاريخ الشرق الأوسط، وتعرّفه إلى الثقافات الأخرى. ومن نافل القول إن هذه الميول والاهتمامات، معطوفة على انخراطه في الحرب العالمية الثانية، وأسفاره في دول الشرق الأوسط، ومناقشاته مع القادة، واجتماعاته مع الزملاء الأساتذة، ولقاءاته مع الطلّاب، كان من شأنها إغناء تجربته، وهو ما تمظهر في أدوار مؤثّرة لعبها من موقع الاستشاري أو الدبلوماسي الثقافي، وفي ثلاثة وثلاثين كتاباً ترجمت إلى تسع وعشرين لغة حول العالم، وفي إلمامه بخمس عشرة لغة. وبذلك، تختلط السيرة الذاتية بالتاريخ العام، ويغدو صاحبها شاهداً على عصر. على أنه، في معرض الكلام على سنواته الأولى، لعلّه من المفيد الإشارة إلى بعض الأُوْلَيات التي حدثت فيها، من قبيل أنّ مدرسته الأولى هي مدرسة خاصّة صغيرة في كينسينغتون، وأنّ الكتاب الأوّل الذي قرأه بالفرنسية هو رواية "الكونت مونت كرستو"، وأنّ مقالته الأولى التي نشرها عام 1937 هي "النقابات في الإسلام"، وأنّ رحلته الأولى إلى الشرق الأوسط كانت إلى مصر في العام نفسه، وأنّ الوظيفة الأولى التي شغلها في العام 1938 هي محاضر مساعد في كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن براتب 250 جنيهاً استرلينياًّ في العام، وأنّ كتابه الأوّل أبصر النور في العام 1950 بعنوان "العرب في التاريخ".

خلال عمره المديد الذي ناف على القرن، ألّف لويس ثلاثة وثلاثين كتاباً، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وألمّ بخمس عشرة لغة، وزار الكثير من البلدان، وتعرّف إلى ثقافات عديدة، وشارك في مؤتمرات كثيرة حول العالم، وقابل عدداً من رؤساء الدول، ولعب الكثير من الأدوار، وبذلك نكون إزاء تجربة طويلة غنية متنوّعة تستحقّ أن تروى، وهو ما ينطوي عليه الكتاب. وإذا كان من الصعوبة بمكان الوقوف على هذه التجربة بتفاصيلها، في مثل هذه العجالة، فحسبنا الإشارة إلى المحاور الأساسية التي شغلت صاحبها في حياته المديدة، من قبيل: الحرب، التاريخ، الاستشراق، وصراع الحضارات.

 مهمات في الحرب

أمّا الحرب، فيُفرد لها لويس فصلين اثنين من كتابه؛ يشير في الأوّل منهما إلى المهامّ التي قام بها في الحرب العالمية الثانية، فيلتحق لبرامج تدريبية مكثّفة في المعهد الملكي للشؤون الدولية، ويجري تعيينه خبيراً في الشؤون التركية في وزارة الخارجية، ويُنقَل إلى فيلق الإستخبارات في العام 1941، ويخضع لتدريب في شعبة الاستخبارات، ويعمل في بلتشلي بارك. وفي إطار القيام بهذه المهامّ، يُعهَد إليه بتدريب المجنّدين في الإستخبارات، التدريس، فكّ الشفرات، مراقبة المراسلات، قراءة البريد والبرقيات، وترجمة الوثائق المعترَضة، وهو ما يتناسب مع تعدّده اللغوي.

ويشير في الفصل الثاني المخصّص للحرب على العراق إلى تحميله مسؤولية السياسات التي اعتمدها جورج بوش الابن بعد غزو العراق استناداً إلى العلاقة التي كانت تربطه بديك تشيني نائب الرئيس الأميركي، وهو ما ينفيه معتبراً أنّ دوره في صنع السياسات متواضع، وأنّ مهمّته "ليست تقديم اقتراحات سياسية ولكن توفير المعلومات الأساسية كبعض التفاصيل والمعلومات التي يتمّ أخذها في الاعتبار عند صنع القرارات السياسية" (ص 341). وبذلك، يكون قد اعترف بقسطه من المسؤولية عن تلك السياسات، بشكلٍ غير مباشر. وفي السياق نفسه، يُجاهر بتأييد الحرب الأولى على العراق بعد غزوه الكويت، لكنّه يتنصّل من تأييد الحرب الثانية عليه بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001.

   كتابة التاريخ

 أمّا التاريخ، فيُفرد له لويس فصلين من كتابه يجيب في الأوّل منهما عن سؤال: "لماذا ندرس التاريخ؟"، ويتحدّث في الثاني عن "كتابة التاريخ وإعادة كتابته"، ناهيك بملاحظات منهجية في هذا الحقل تتناثر في فصول الكتاب؛ وفي هذا السياق، يتناول في الفصل الأول صفات المؤرّخ، تطوّر أدوات البحث، ضرورة فحص المهملات التاريخية، حرية البحث والتعبير، مساءلة الذات، فوائد دراسة التاريخ، تحلّي المؤرّخ بالشجاعة والوضوح والشك، أهمّية الإنصاف واقتفاء أثر الأدلّة، التحذير من الغطرسة الثقافية، وعدم الانحياز لمكوّنات الهوية. ويتناول في الفصل الثاني أهمّية الأسلوب والوضوح والدقّة في الكتابة التاريخية، وبناء التاريخ على الأدلّة المتاحة، وعدم وجود مناطق محرّمة على التاريخ، واعتبار القصيدة من ضمن الوثائق التاريخية.

ويروي تجربته في إعادة النظر في كتبٍ كتبها متوقّفاً عند كتابه الأوّل "العرب في التاريخ" الذي نُشر للمرة الأولى في العام 1950، وأعاد النظر فيه مع كتابين آخرين في العام 1992، وله من العمر سبعة وسبعون عاماً. ولعلّ اطلاعه على الأرشيف العثماني الذي يُفرد له فصلاً خاصاًّ في كتابه، في العام 1950، جعله يشعر بأنه مؤرّخ محظوظ للغاية، وأتاح له فرصة الوقوف على معلومات وحقائق تاريخية يقتضي معها إعادة النظر في المكتوب، وأخذها بعين الاعتبار فيما سيُكتب. وهو أرشيف ضخم "يحتوي على عشرات الآلاف من السجلّات المطوية وكتب الرسائل وملايين من الوثائق" ( ص 99). وعلى الرغم من غنى الكتاب بالملاحظات المنهجية في دراسة التاريخ وكتابته، فإنّ لويس كثيراً ما يجانبه التحديد الدقيق للوقائع في الكتاب، فيصدّر فقرات كثيرة بعبارات من قبيل: " خلال الخمسينيات من القرن المنصرم...." (ص 110)، "في منتصف القرن التاسع عشر جرى..." (ص 129)، "في  منتصف الستينيات الميلادية...." (ص 163)، وغيرها.

  مزالق الاستشراق

في كلامه على الاستشراق الذي يُفرد له فصلاً مستقلاًّ في الكتاب، يرفض لويس الربط بينه وبين الاستعمار، ويحذّر من بعض المدارس الفكرية التي "تدّعي أنّ التاريخ لا يمكن أن يُكتَب على يد دخلاء أجانب" معتبراً أن "هذا التوجّه خطِر للغاية لأنّه يفضي إلى نوع من الانعزالية المعرفية ويحدّ من تداول الأفكار" (ص 277). ويتعدّى ذلك إلى حدّ اعتبار تصدّي الأجانب لكتابة تاريخ البلدان التي تفتقر إلى الحرية نوعاً من واجب معرفي. وفي السياق نفسه، يردّ على إدوارد سعيد الذي "نسب للمستشرقين دوراً خبيثاً كجزء من الهيمنة الاستعمارية واستغلال العالم الإسلامي من لدن الغرب. ونسب إلى سعيد، دوراً شرّيراً باعتباره زعيم المستشرقين على وجه الخصوص" (ص 278). ويرى أنّ ربطه "بين علماء الاستشراق الأوروبيين والتوسّع الاستعماري الأوروبي في العالم الإسلامي فيه تناقض" (ص 279). ويتّهمه بجهل تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ أوروبّا مستنداً إلى مغالطتين تاريخيتين وقع فيهما سعيد في كتاب "الاستشراق". فهل من الموضوعية أن يسقط مؤرّخ بحجم لويس في التعميم وإطلاق الأحكام استناداً إلى واقعتين اثنتين؟ ثم ألا يبدو موقفه هذا نابعاً من موقف شخصي رداًّ على ما نسبه سعيد إليه؟ ناهيك بتوصيف آخر لسيطرة من يُسمّيهم بـ"أتباع سعيد" على التعيينات والترقيات والنشر العلمي ومشاريع الكتب في أروقة الجامعات الغربية يستبطن شعوراً مضمراً بالحسد.

  صراع الحضارات

أمّا في محور صراع الحضارات الذي يخصّه بفصل في كتابه، فنراه يمزج بين الحضارة والدين، فيتحدّث عن حضارة مسيحية وأخرى إسلامية، نافياً، في الوقت نفسه، صفة الحضارة عن اليهودية، بقوله: "اليهودية دين وثقافة ونمط حياة وليست حضارة" (ص 255) مبرّراً ذلك بافتقار اليهود إلى "العدد الكافي الذي يساعدهم في بناء حضارة خاصّة بهم" (ص 254). وفي الفصل نفسه، يشير إلى العلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة في الإسلام، ويحدّد محدّدات الهوية الإسلامية بالدين والوطنية ، ويشكّك في عداء الإسلام للسامية مستنداً إلى المكانة التي احتلّها اليهود في معظم مراحل التاريخ الإسلامي.

"هوامش على قرنٍ مضى"، "عمل غير عادي، مثقف وذكي وعميق"، كما وصفه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق. وهو كتاب غنيٌّ بالدروس التاريخية والملاحظات المنهجية والانطباعات الدقيقة والاستنتاجات الصحيحة، ولا يضارع المتعة في قراءته سوى الفائدة المترتّبة على تلك القراءة. ويبقى برنارد لويس "ظاهرة تستحقّ الدراسة الفاحصة والتأمّل العميق"، على ما ورد في مقدّمة مترجم الكتاب.

 

 

 

    

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة