ملخص
يسائل الرسام الأميركي روبرت رايمان الذي يقام له في باريس معرض استعادي، اللوحة وحدودها، والفضاء الذي تنخرط فيه، وكذلك الضوء الذي تستثمره، والزمن الذي تتمدد داخله. وقد استوحى رايمان اللون الأبيض، نظراً إلى حياده، وإلى التنويعات اللانهائية الممكنة بواسطته، وفقاً إلى كثافته وشفافيته، وتدرّجاته العميقة.
غالباً ما أُدرِجت أعمال الرسام الأميركي روبرت رايمان (1930 ــ 2019) ضمن التيار المينيمالي الأميركي. ومع أن لا شك في الروابط التي تجمعها بهذا التيار، فهي تتطلّب، لإدراك أهميتها داخل تاريخ الفن الحديث، أن يُنظر إليها بذاتها، في منأى عن أي مقارنة أو تأثير. وهذا ما يفعله متحف "لورانجوري" الباريسي في المعرض الذي ينظمه حالياً لهذا الفنان الكبير تحت عنوان "روبرت رايمان، النظرة في طور الفعل"، أي إعادة قراءة مسعاه الفني بطريقة تأخذ في الاعتبار كل جوانبه وأسسه ومحرّكاته، وبالتالي فرادته.
وفعلاً، يستمد هذا المعرض أهميته من تأمّله في تركيز رايمان بحثه التشكيلي على خصوصيات وسيطه، ومساءلته طوال مسيرته الإبداعية مفاهيم سطح اللوحة، وحدودها، والفضاء الذي تنخرط فيه، والضوء الذي تستثمره، والزمن الذي تتمدد داخله. مفاهيم بسيطة لكنها، في الوقت نفسه، عناصر أساسية تعيد فن الرسم إلى جوهره، ولا يمكن لعمل هذا الفنان أن يأخذ معناه الكامل من دونها.
ولمن يجهل رايمان، نشير أولاً إلى أنه كان عازف ساكسوفون في بداياته، لكنّ عمله لفترة طويلة حارساً في "متحف نيويورك للفن الحديث"، حيث اكتشف مونيه وسيزان وماتيس، وأيضاً روتكو وبولوك ونيومان، جعله يستبدل الموسيقى بفن الرسم ويكرّس منذ الخمسينيات وقته وجهده لاستكشاف كل ما يشكّل اللوحة مادياً، من الركيزة إلى السطح، مروراً بالإضاءة ونظام تعليقها على جدار. رسّام لوحات "واقعية"، كما كان يصف أعماله بطرافة لا تخلو من استفزاز، من حيث عدم اقتراحها أي إيحاء أو رمز، واصل تجاربه التشكيلية حتى رحيله، مدفوعاً بإمكانات وسيطه اللامتناهية، ومنجزاً تنويعات لا تحصى لما يمكن أن نعتبره لوحة واحدة، وطارحاً بذلك على فن الرسم نظرة دائماً في طول الفعل.
استكشافات رايمان الأولى في ميدان التشكيل تركّزت على طُرُق إسقاط الطلاء على ركيزة. وفي هذا السياق، درس مختلف المفاعيل الناجمة عن سماكة مادة الطلاء، ومختلف التدرّجات اللونية، وآثار اللمسة التي تختلف وفقاً لطبيعة الريشة أو الفرشاة أو أي أداة رسم أخرى، ووفقاً لحركة اليد والقوة المستخدمة. اختبارات تمثّل مراحل بحثٍ كان الفنان يعرف جيداً أن لا نهاية له، ولكن لا بد منه لمساءلة ما يكوّن لوحة فنية، وطبيعتها. أما الشكل المربّع واللون الأبيض، المعتمدان بطريقة شبه حصرية، وأيضاً المبادئ التقنية التي تحكّمت بممارسته (الاختيارات المنهجية للريشة والفرشاة والركيزة...)، فشكّلت له، كمّاً من الوسائل لبلوغ نوع من الحياد، وإغلاق الباب أمام أي شكل من أشكال التأويل.
وبتساؤله حول العناصر المكوّنة لفن الرسم، اهتم رايمان أيضاً بحدوده، سواء كانت مادية أو مفاهيمية، وسعى بانتظام إلى استكشاف إمكانات دمج أعماله في بيئتها المباشرة، متلاعباً بأساليب عرض مختلفة، لتحقيق هذه الغاية: لوحات قماشية مشدودة أو غير مشدودة على إطار، تشكيلات من عدة أجزاء مجموعة، ركائز من زجاج عضوي (plexiglas) يتراءى الجدار الخلفي جزئياً من خلالها... وانطلاقاً من منتصف السبعينيات، ذهب في مسعاه إلى حد تعرية أدوات تعليق لوحاته، التي كان يختارها بعناية وفقاً لخصائصها. هكذا انضمت الخطّافات المعدنية الناتئة من اللوحة، والإطارات من ورق مشمَّع، إلى جعبة أدواته. وبعدم تمويهه أي جانب من جوانب اللوحة، توجّب عليه إعادة التفكير في كل ما يشكّلها، وفي الفضاء الذي ستوضع فيه. وحول هذه النقطة، صرّح أن لوحاته "لا تعرف سبيلها إلى الوجود إلا حين تكون على جدار، حين تصبح جزءاً منه، ومن المكان الذي تمثل فيه".
وهذا ما يفسّر لماذا أخذ عمل رايمان شكلاً أكثر فأكثر نحتياً في الثمانينيات. فضمن سعيه إلى دفع المفاهيم التقليدية للوحة إلى أبعد مما كانت عليه، وصل إلى ضرورة التأمل في طريقة عرض اللوحة وحضورها داخل الفضاء. هكذا انضم الفنان، الذي أدرجه النقاد منذ السبعينيات ضمن الفن المينيمالي، إلى أبحاث معاصرَيه سول ليفيت وفريد ساندباك حول الظروف التي تتحكّم برؤية عمل فني، وفي مقدّمها الفضاء الذي يستقبله ويشكّل شرطاً ضرورياً لوجوده. وهكذا اهتم بسُبُل اندماج لوحاته داخل محيطها، فعلّق بعضها على مسافة كبيرة من الجدار، وعرض بعضاً آخر بطريقة أفقية، مسلّطاً بذلك الضوء على عناصر مهمَلة من اللوحة، مثل حافتها التي صنعها من خشب أو ألومينيوم لجعلها أكثر مرئية. وبدلاً من إغلاق باب النظر عليها، تحوّلت لوحته، بهذه الطريقة، إلى عمل مفتوح، من حيث تفاعلها مع الفضاء المحيط بها، ومع النظرة الملقاة عليها.
أما اللون الأبيض السائد في لوحاته، فبخلاف استخدامه التقليدي في فن الرسم كوسيلة لتفتيح لونٍ آخر أو خلق تناقض معه، استثمره رايمان بمفرده، نظراً إلى حياده، وإلى التنويعات اللانهائية الممكنة بواسطته، وفقاً إلى كثافته، شفافيته، تدرّجه، حدة لمعانه. وحوله، أوضح الفنان مرةً أن ثمة لوناً أبيض أكثر زرقة أو رمادية من غيره، أكثر دفئاً أو برودة، وفقاً لمصنّعه أو مادة طلائه. وبنظره، شكّل هذا اللون الشرط الذي يمكن من خلاله رؤية الجوانب الأخرى المكوِّنة للوحة، بدلاً من تشتيت الانتباه عنها باستخدام ألوان أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن أبعد من اللون الأبيض، هجس رايمان خصوصاً بالضوء، إلى حد اعتباره إنارة اللوحة لحظة جوهرية في سيرورة الإبداع، لكونها هي التي تجعل اللوحة مرئية، بخلقها انعكاسات وظلالاً على سطحها، وبإظهارها كل تدرّجات لونها الأبيض، بتثبيتها مادته وكشفها نتوءاته. وبالتالي، تبلغ تأملات الفنان في سطح اللوحة وحدودها والفضاء الذي تمثل فيه، ذروتها في عمله على الضوء كمكوّن أساسي لها، على غرار كل العناصر المادية الأخرى التي تتشكّل منها. ومن هذا المنطلق، اعتبر أن العمل الفني لا يكتمل إلا حين تتم إضاءته. وسواء كانت الإضاءة طبيعية أو اصطناعية، خافتة أو قوية، مباشرة أو جانبية، فإنها هي التي تجعله يأخذ مكانه داخل فضائه ويندمج فيه.
بعد ستين عاماً من العمل والتجريب، وضع رايمان حداً لنشاطه الفني عام 2011. ولكن قبل أن يتوقف عن الرسم، أنجز مجموعة من ثماني لوحات بألوان الأخضر والبرتقالي والبنفسجي والرمادي، مسجّلاً بذلك عودة إلى اختباراته الأولى، في الخمسينيات، التي كانت الألوان لا تزال حاضرة فيها، وخاتماً في الوقت نفسه بحثه التشكيلي بأعمال تفتح أفقاً جديداً له، ولتاريخ فن الرسم عموماً. أعمال تشكّل بتنويعاتها اللونية الحيوية الباهرة خير أدلّة على أن الرسم حقلٌ فني حيّ، مرهف، متعدد الأشكال، لم نستكشف سوى جزء ضئيل جداً من إمكاناته.