Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا تحتاج أميركا إلى إعادة تعريف نفسها؟

نجم "الحلم الأميركي" يخفت في الداخل والخارج وسط مشكلات سياسية واجتماعية

دخلت المؤسسة السياسية الأميركية في مسعى طويل إلى تكريس عالمية الحلم الأميركي (أ.ف.ب)

ملخص

لم يسلم "الحلم الأميركي" من الجدل، إذ طاوله التشكيك من وقت لآخر، سواء لمحاسبة الذات من قبل الأميركيين أنفسهم، أو من باب تصفية الحسابات من قبل المجتمعات والأنظمة المناوئة للولايات المتحدة، وتعمقت الشكوك في الآونة الأخيرة مع ازدياد الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.

يعرف المؤرخ جيم كولين "الحلم الأميركي" باعتباره ظاهرة قومية ودولية، ويشير في كتابه "الحلم الأميركي: تاريخ قصير لفكرة شكلت أمة" إلى أن الولايات المتحدة دولة شكلتها الأحلام، ووجودها يرتكز على كونها مكاناً يمكن للمرء فيه تحقيق أصعب أهدافه، سواء بدافع الخير أو الشر، ولذلك تتمتع أميركا بـ "جاذبية هائلة" تنامت مع الوقت وكانت كافية لدفع المهاجرين الأوائل إلى تكبد المشاق للوصول إلى "أرض الفرص".

ولم يأت كولين بجديد حين أكد عالمية "الحلم الأميركي" في كتابه المنشور عام 2003، فكذلك فعل المؤرخ جيمس تراسلو أدامز الذي صاغ وقدم مصطلح "الحلم الأميركي" للمرة الأولى في الثلاثينيات الميلادية، ونسب إليه الفضل في جذب ملايين البشر إلى السواحل الأميركية. 

كما دخلت المؤسسة السياسية الأميركية في مسعى طويل إلى تكريس عالمية هذا الحلم من خلال محركات سياستها الخارجية وقوتها الهوليوودية الناعمة، وحرصت على الاستثمار في "الدبلوماسية العامة" أو الشعبية للتواصل مباشرة مع شعوب الدول الأخرى من دون حواجز رسمية، حتى إن الرئيس هاري ترومان أطلق بين عامي 1950 و1952 حملة لمواجهة "أكاذيب" السوفيات وتوعية العالم بالحلم الأميركي، وعكس صورة شاملة وصادقة للتاريخ والثقافة والمجتمع والمؤسسات السياسية الأميركية.

لكن منذ عهد ترومان ومروراً بخلفائه حتى جو بايدن والتغيير ثابت وبارز في المعادلة الأميركية، للأفضل في نواحٍ كثيرة، فالولايات المتحدة تملك اليوم أعظم قوة عسكرية وأمنية، وللأسوأ على صعيد جاذبيتها العالمية، فصورة "أرض الفرص" اليوم باتت محل تشكيك، وكذلك عالمية "الحلم الأميركي" أصبحت مهددة، بينما لا تنفك بعض الشعوب والأنظمة تظهر ازدراءها لكل ما هو أميركي في رد فعل تجاه سياساتها الخارجية.

ولم تتغير أميركا في نظر ساستها وشعبها فقط، بل حتى لدى أصدقائها وأعدائها، فالثقة بها لدى حلفائها القدامى في الشرق الأوسط مهزوزة، والصين صارت أكثر جرأة في تحديها، ليس فقط في مناطق نفوذها بل حتى في الأراضي الأميركية. وتترافق هذه التحديات الدولية مع مشكلات داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة انعكست في ارتفاع مستوى الجريمة وتقلص الطبقة المتوسطة وحدة الاستقطاب السياسي.

ويقول الكاتب الأميركي ماثيو هينيسي "لقد اعتاد الأميركيون سماع قادتهم وهم يصفون بلادهم بأنها أرض الفرص، إلا أن الغريب أن الرئيس الحالي اعتاد على وصف أميركا بأنها أرض الممكن لا أرض الفرصة، أي أن الأميركيين تحت رحمة قوى خارجة عن سيطرتهم"، مشيراً في مقالته عبر "وول ستريت جورنال" إلى رواية جو بايدن نفسه للقائه الرئيس الصيني شي جينبينغ عندما سأله عما إذا كان يستطيع تعريف أميركا، فقال بايدن "نعم، في كلمة واحدة: "الإمكانية" Possibility. 

 وهذه الصياغة وفق الكاتب تحرّف القصة الأميركية وتقلل من شأنها كأرض الفرص، حيث يتمتع الناس بالقدرة على التصرف وتطوير مواهبهم والاستفادة القصوى من الفرص المتاحة، بخلاف أرض الممكن حيث الصدفة أو الحظ سيدا الموقف.

وتكرر هذا التضارب بين تعريفات الولايات المتحدة في مقالة نشرت عام 2015 عبر مجلة "ذا أتلانتيك"، إذ حللت باحثة العلوم الإنسانية في كلية بوسطن مارثا بايلز رؤية العالم لـ "الحلم الأميركي"، وخلصت إلى "فجوة مثيرة للقلق بين هذا الحلم الأصلي والحلم الجديد الذي يتحدث بشكل أقل بلاغة إلى بقية العالم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جذور الحلم الأميركي

مرّ "الحلم الأميركي" بتطورات عدة من تكريسه الأسرة النووية التي لا تعاني مشكلات مالية وتتكون من أب وربة منزل وطفلين إلى الحلم الذي يشمل برخائه المرأة والأقليات المهملة، وعطفاً على تلك التحولات فقد تنوعت تعريفات "الحلم الأميركي" لدى الناس ما بين القدرة على الازدهار المالي من خلال العمل الجاد والحرية وملكية منزل والقدرة المالية على الالتحاق بالجامعة، كما شاع تسويق الحلم دولياً مع تنامي القوة الأميركية وضعف منافسيها.

ووجدت الولايات المتحدة في "هوليوود" خير معين لتسويق حلمها وترويج المفاهيم الفردانية والعمل الجاد الذي تكرسه، بخاصة أثناء الحرب الباردة عندما لم يكن كسب المعارك العسكرية وحده كافياً، إذ ألقت واشنطن بثقلها في معركة موازية لكسب القلوب والعقول عبر تصدير الثقافة الشعبية الأميركية، وتميزت هذه المعركة بأنها قليلة الأخطار سياسياً، ولا تفرض أي عبء على دافعي الضرائب.

ويصف الرئيس وودرو ويلسون الأفلام بأنها "لغة عالمية تفسح المجال بشكل مهم لعرض خطط أميركا وغاياتها"، وبالفعل فبعد ترسيخ "هوليوود" نفسها كقبلة للفنانين والموسيقيين في الساحل الشرقي الأميركي بدأت "هوليوود" التسويق للحلم الأميركي، حتى إنها أصبحت وفق توصيف الباحثة لورا رودريغيز أرنايز من "جامعة كومبلوتنسي" بمدريد "مصنعاً" للثقافة الأميركية، لما لها من دور في إغراء الجماهير بالقيم الثقافية الأميركية.  

وعندما حلل الأكاديمي وانوارانغ مايسوونغ من "جامعة تاماسات" التايلندية 30 فيلماً أميركياً بين عامي 2001 و2010، خلص إلى أن الفيلم الهوليوودي أداة ناعمة تحاول من خلالها أميركا الهيمنة على العالم، مشيراً إلى أن الثقافة الأميركية من أهم صادرات الولايات المتحدة، إذ تحاول بيع ثقافتها للدول الأخرى من خلال الأفلام التي تروج للجانب المشرق للبلاد، وأحد دوافعها من ذلك هو السيطرة على المجتمعات الثقافية الأخرى حول العالم، وأن تصبح الثقافة المهيمنة.

تقلص الطبقة المتوسطة

منذ القرن الـ 20 لم يسلم "الحلم الأميركي" من الجدل، إذ طاوله التشكيك من وقت لآخر، سواء لمحاسبة الذات من قبل الأميركيين أنفسهم، أو من باب تصفية الحسابات من قبل المجتمعات والأنظمة المناوئة للولايات المتحدة.

 وتعمقت الشكوك في الآونة الأخيرة مع ازدياد الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة، إذ أظهر استطلاع لمؤسسة "You Gov" عام 2022 أن 35 في المئة من المواطنين الأميركيين لا يؤمنون بـ "الحلم الأميركي"، فيما يشكك 23 في المئة فيه، وأن الفئات العمرية فيما تحت الـ 30 سنة أكثر قابلية لحمل نظرة سلبية تجاهه.

وتهدد المشكلات الاقتصادية جاذبية الولايات المتحدة، إذ تكشف الإحصاءات أن الطبقة المتوسطة تقلصت خلال العقود الخمسة الماضية، وانخفضت نسبة البالغين في هذه الطبقة من 61 في المئة عام 1971 إلى 50 في المئة عام 2021، وفقاً لتحليل من "مركز بيو للأبحاث."

وأدى اتساع فجوة الدخل وتقلص الطبقة الوسطى إلى انخفاض مطرد في حصة الدخل الإجمالي الأميركي التي تحتفظ بها أسر الطبقة المتوسطة، ففي عام 1970 كان البالغون في الأسر المتوسطة يضخون 62 في المئة من إجمال الدخل، وهي حصة انخفضت إلى 42 في المئة عام 2020. 

وعلى رغم زيادة الدخل الإجمالي للأسر بعامة منذ عام 1970، إلا أن دخل الأسر في الطبقة المتوسطة لم يرتفع بالوتيرة نفسها التي ارتفع بها دخل الأسر ذات الدخل المرتفع، كما لم يكن هذا التقدم في الدخل متساوياً بين جميع الفئات الديموغرافية، إذ بقيت الفجوة بين البيض والسود واللاتينيين واضحة، وكان الوضع الاقتصادي أسوأ بالنسبة إلى الفئتين الأخيرتين.

مزيد من ضحايا السلاح

وشهدت الولايات المتحدة عام 2021 ارتفاعاً في عدد ضحايا الأسلحة النارية، حيث توفي عدد أكبر من الأميركيين بسبب هذه الإصابات مقارنة بأي عام آخر، وفقاً لأحدث الإحصاءات من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، وشمل الارتفاع جرائم القتل بالأسلحة النارية والانتحار بها.

كما سجلت الولايات المتحدة زيادة في حوادث إطلاق النار الجماعي خلال الأعوام الأخيرة، إذ بلغت أكثر من 630 حادثة إطلاق نار جماعي عام 2021، بحسب "أرشيف العنف المسلح" الذي يُعرّف الحادثة الجماعية على أنها حادثة يُصاب أو يُقتل فيها أربعة أشخاص أو أكثر، وتشمل حوادث المنازل والأماكن العامة، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى من هذه الحوادث لا تؤدي إلى مقتل أكثر من 10 أشخاص.

وبعد عام 1992 سجلت معدلات الجريمة انخفاضاً مطرداً، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى عام 2015، إذ عادت معدلات الجريمة للارتفاع بشكل طفيف، ولا تزال الولايات المتحدة تسجل أعلى معدل جرائم قتل بين دول "مجموعة السبع"، إذ سجلت عام 2021 نحو 6.81 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة، بزيادة من 6.52 عام 2020 و5.07 عام 2019.

الاستقطاب السياسي

وأظهرت دراسة لـ "المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية" عام 2020 أن الولايات المتحدة تشهد استقطاباً متسارعاً مقارنة بدول ديمقراطية أخرى مثل كندا والمملكة المتحدة وألمانيا وأستراليا، وذكرت الدراسة أنه على مدى العقود الأربعة الماضية تضاعفت هوة المشاعر السلبية بين الديمقراطيين والجمهوريين، ونمت بشكل أسرع وأكبر مقارنة بالمناخ الحزبي في ثماني دول ديمقراطية أخرى.

ووفقا للدراسة فقد وصل متوسط فجوة المشاعر السلبية بين الديمقراطيين والجمهوريين عام 1978 إلى 27 نقطة، وبحلول عام 2016 إلى 46.

وتوضح الدراسة أن الانقسامات العرقية المتزايدة قد يكون لها دور في هذا الاتجاه، إذ لاحظ الباحثون أن البلدان التي زاد فيها الاستقطاب شهدت زيادة في عدد السكان غير البيض، وأن الاستقطاب زاد أيضاً في دول مثل كندا ونيوزيلندا وسويسرا ولكن بدرجة أقل، في حين انخفض في أستراليا وبريطانيا والنرويج والسويد وألمانيا.

ورجّح الباحثون أن شيوع استخدام الإنترنت وشبكات التلفزيون الحزبية من العوامل المؤججة للاستقطاب، لكن لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من البحث لتحديد الأسباب بدقة.

المزيد من تقارير