ملخص
لأن خير الأمور الوسط لجأ مصريون في رمضان إلى التنازل عن اكتناز الكيلوغرامات من الحلويات لكنهم لم يمنعوها تماماً بل انتهجوا طريق الترشيد وصار الشراء بالقطعة مستساغاً بعد ما كان مصدراً للحرج.
ساعات بث طريقة عمل الكنافة بالقلاوة، والبقلاوة بالكنافة، والبسبوسة بكليهما، تعقبها ساعات بث أخرى لطريقة عمل الكنافة بطريقة جدتي حيث ثلاث طرق لا رابع لها، إما سادة، أو بالقشدة، أو بالمكسرات، تعقبها طريقة عمل الزلابية الكلاسيكية، لا زلابية ما بعد الحداثة المضاف إليها كريمة الشوكولاتة أو خلاصة الكراميل أو غيرها من محاولات تشويه التراث.
السكر العزيز النفيس
قنوات الطهي في نهار رمضان لا تتوقف عن ضخ طرق تحضير الحلويات. كل ما تشتهيه الأنفس على الأثير. حلويات زمان، وحلويات الآن، وما بينهما من خلط القديم بالحديث، والكلاسيكي بالحداثي. تلال من المكسرات لا يقل كيلوغرام أرخصها عن 500 جنيه مصري (نحو 10 دولارات أميركية بالسعر الرسمي)، أكوام من السمن والزبدة والدقيق تقدر قيمتها ببضع آلاف من الجنيهات، ناهيك بكميات لا نهائية من السكر العزيز المنيع الشحيح النفيس تضخ يومياً بلا هوادة أمام الجماهير التواقة التي تظل ساعات الصيام تهفو وتشتاق إلى الحلو، وتتكاتف مجموعة من العوامل والمؤثرات في تحديد درجة تلبية الاشتياق في ساعات الإفطار.
وبين ساعات الإفطار والعوامل المحددة لإشباع شغف الحلويات، كثير من الظروف والمتغيرات غير المسبوقة في رمضان 2024. يقولون إن الخبز يشبع المعدة، لكن الكعك يشبع الروح. فما بالك بالكنافة والبسبوسة والقلاوة والقطايف؟ إنها لا تكتفي بإشباع الروح، بل تغرقها وتنهكها ومعها جهود التدبير والتوفيق.
أعاد كثيرون في مصر توفيق أوضاعهم بفعل الأزمة الاقتصادية، فالجنيه المصري فقد أكثر من 80 في المئة من قيمته منذ عام 2016. معدلات التضخم اقتربت اقتراباً تاريخياً من حاجز 38 في المئة في أشهر قريبة مضت. بنود في الطعام اختفت من موائد كثيرين، بمن فيهم الطبقة المتوسطة بتنويعاتها المختلفة. كثيرون هجروا مواقعهم قسراً في الهرم الطبقي وتوجهوا نحو القاعدة. وفي كل هذه التحركات تركزت الأنظار على أسعار الطعام.
وفي رمضان، وعلى رغم الصيام، أو ربما بسبب الصيام، يتفاقم الاهتمام بالطعام، مع احتفاظ الحلويات بمكانة متفردة في هذا الشهر الكريم. المشهد أمام أحد أفرع سلسلة جديدة من محال الحلويات في مصر مذهل. طابور المواطنين الذي يبدأ في التكون أمام المحل الساعة الثانية بعد الظهر يتحول إلى جماهير غفيرة مع اقتراب موعد الإفطار، حين يخرج كل منهم حاملاً لفافة متناهية الصغر.
السلسلة الجديدة من محال الحلويات تحمل القشطوطة والمتدلعة وأقرانها لمصر. هوجة غير مسبوقة من أنواع الحلويات غزت أرجاء المحروسة قبل سنوات قليلة، هذا الغزو اشتد واحتدم مع رمضان. "هايصة وغرقانة وشرقانة ومكشكشة" وقائمة طويلة من الحلويات يمضي المتجمهرون أمام المحال وقتاً طويلاً في قراءة محتوياتها المتداخلة. بسبوسة على كنافة على كريمة شوكولاتة مع طبقة "أم علي" مع كرة من القشدة، أو بقلاوة مع كيك مغروس فيها زلابية مغطاة بشوكولاتة بيضاء مغموسة في رز بلبن، أو بلح الشام محاط بكريمة الفستق ومحشو ببسبوبة بالمكسرات ومزين بكنافة محمرة. حتى سد الحنك لم يسلم من براثن التجديد واضطر ووجد نفسه حبيس "النيوتلا" و"اللوتس" و"الأوريو، والإبداعات لا تنتهي.
إبداعات تثير الحفيظة
إبداعات الحلويات الجديدة التي تمعنت في غزو مصر خلال رمضان تثير حفيظة بعضهم الآخر من غير المتجمهرين أمام المحال. الفريق الأول ممتعض من منطلق أنه لا يصح إلا الصحيح. البسبوسة إما سادة أو مكسرات والاستثناء الوحيد لأية إضافات هو القشدة. والكنافة هي ما كانت تصنعه الجدات في البيت، إذ لا مجال لمانغو أو تمر أو فراولة أو شوكولاتة أو غيرها، وهلم جرا.
الفريق الثاني معترض خوفاً على الصحة العامة. فإذا كانت كلاسيكيات رمضان ظلت تستوجب خروج كتائب الأطباء في مثل هذا الوقت من كل عام للتحذير من مغبة الكنافة وعاقبة البسبوسة وثمن القطايف الباهظ المتمثل في ارتفاع الكولسترول والسكري ناهيك بالسمنة وتراكم الدهون في الجسم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الفريق الثالث فمتضرر من الثمن الباهظ بالمعنى الحرفي للكلمة، سواء في ما يتعلق بالجيل الرابع من الحلويات من "متدلعة ومتهشتكة"، أو الجيل الأول من كنافة وبسبوسة وقطايف.
هذا الفريق لا يكتفي بالتضرر من ارتفاع الأسعار التي وصل بعضها إلى أكثر من ألف جنيه مصري (21 دولاراً) للكيلو غرام الواحد، ولكنه غاضب ناقم ساخط على هذا التناقض بين الكم المذهل من الحلويات التي تحيط به في المحال بأسعار خيالية، أو تطل عليه عبر شاشات التلفزيون من جهة وبين استمرار أزمة السكر، وإن وجد فبسعر أعلى من سعره المعلن رسمياً بنسبة تفوق 100 في المئة.
ارتفاع جنوني
في رصد لأسعار مكونات قالب من الكعك يصنع في مصر، تتبع موقع "بي بي سي" ما طرأ على المكونات السبع على مدار شهر واحد، وذلك قبل ساعات من بدء شهر رمضان المبارك. وكانت النتيجة هي أربعة من أصل خمسة مكونات ارتفعت أسعارها بشكل مطرد خلال أقل من شهر، بينما استقر سعر مكون واحد فقط. ارتفع سعر الحليب بنسبة 55 في المئة، والزيت بنسبة تراوحت بين 30 و40 في المئة، والبيض بنسبة 40 في المئة، في حين بقي الدقيق على حاله. وخلصت النتيجة إلى أن كلفة إعداد قالب كعك ارتفعت من 330 جنيهاً مصرياً (7 دولارات) إلى 400 جنيه مصري (8.5 دولار) في أقل من شهر.
شهور العام كلها تشهد رواجاً، أو فلنقل شوقاً مصرياً للحلويات، لكن شهر رمضان يمثل الذروة، وعلى رغم أن السكر لم يصنف من قبل ضمن سلع "الأمن القومي" مثل الوقود ورغيف "العيش" (الخبز) والسجائر، إلا أنه بات يؤرق ملايين المصريين.
تعكير المزاج
المصريون يحلون شايهم وقهوتهم ويأكلون حلويات تحتاج إلى نحو 200 ألف طن سكر شهرياً في الأيام العادية، ترتفع كثيراً خلال رمضان. وعلى مدار أشهر، وهذه الأطنان تتعرض لرجات واهتزازات تضيف مزيداً من التعكير إلى مزاج الناس. قبل أشهر قليلة، فوجئ المصريون بارتفاع أسعار السكر ارتفاعاً فجائياً وجنونياً. السعر المحدد بنحو 27 جنيهاً (0.57 دولار) للكيلو أصبح سعراً للتداول الإعلامي. أما التداول الفعلي في محال السوبرماركت فقفز إلى 55 جنيهاً (1.16 دولار) وأحياناً 60 جنيهاً (1.26 دولار)، وذلك قبل أن يختفي تماماً من الأسواق.
لكن أسواق المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية حاولت امتصاص الغضب بعض الشيء، وذلك بطرح السكر المنشود بسعر 27 جنيهاً (0.57 دولار)، وذلك بمعدل كيلو غرام واحد للفرد، وهو ما أدى إلى طوابير متراصة أمامها.
هرباً من التصريحات
وأمام الأزمة المستفحلة والمستمرة، وهرباً من تصريحات وزير التموين المصري علي المصيلحي التي ظلت على مدار أشهر ترفع راية "لا صحة لوجود أزمة سكر" و"السكر متوفر في الأسواق" التي تحولت بعد تضييق الخناق الشعبي والإعلامي عليه إلى "إنهاء أزمة السكر بعد 15 يوماً" أو "بعد شهر" أو "بعد شهر ونصف"، أو "أزمة السكر ستكون من الماضي"، سعت جهود وتقارير صحافية عدة إلى فك لوغاريتمات اختفاء السكر فعلياً وتأكيد عدم اختفائه حكومياً، ثم استمرار اختفائه إضافة إلى غلائه (حال توافره) على رغم "انتهاء أزمة الدولار" بحسب ما تملأ العناوين الأثير في أعقاب إعلان مشاريع استثمارية كبرى والحصول على قرض طال انتظاره من صندوق النقد الدولي.
تراجع الإنتاج المحلي من السكر أحد الأسباب. يحتاج المصريون سنوياً إلى نحو 3.7 مليون طن من السكر، ينتجون منه 2.7 مليون طن فقط من زراعات البنجر وقصب السكر. ويبدو أن هذا الإنتاج قل هذا العام، لا سيما أن المزارعين يبحثون عن المحاصيل التي تدر ربحاً أكبر، لا المحاصيل الاستراتيجية التي يستهلكها العباد وتوفر الدولار على البلاد.
الولع بالسكر
ويفرض الدولار، أو بالأحرى شحه، نفسه كأحد أهم أسباب أزمة السكر فالفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك كانت تسد بالاستيراد. ومع تفاقم أزمة الدولار، ألقت بظلالها على السكر الذي تأثر كغيره من السلع التي كان يتم استيرادها، لكن تعثرت بسبب الدولار.
وقبل ساعات، بشرت الحكومة المصريين بقرب انتهاء أزمة السكر المتحدث باسم مجلس الوزراء محمد الحمصاني قال إن "الرئيس عبدالفتاح السيسي وجه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بضخ كميات إضافية من السكر في الأسواق للعمل على سد الفجوة في السوق، وذلك باستيراد مليون طن من الخارج، ومن ثم ضخ 300 ألف طن في الأسواق خلال الفترة القليلة المقبلة".
وإلى أن تأتي الفترة المقبلة، يجد المصريون أنفسهم في بحث مضن عن بدائل أو مخارج. الاستغناء عن الحلويات، والاعتماد على الفواكه دعوة حقيقتها صحية، لكنها غير واقعية. يمكن القول إن الشعب المصري من الشعوب المولعة بالحلويات أو لديه Sweet tooth سن يميل إلى تناول الحلوى. مفارقة غريبة تكمن في أن القياسات الدولية لا تضع المصري ضمن أكثر سكان الأرض استهلاكاً للسكر، إذ يستهلك 19.5 غراماً شهرياً، عكس الأميركي (126 غراماً) أو الألماني (نحو 110 غرامات)، أو الهولندي (102 غرام)، لكن القياسات المحلية لا تؤكد دائماً أن المصري من أكثر شعوب الأرض تناولاً للسكر. قبل سنوات، قدر مجلس المحاصيل السكرية في وزارة الزراعة متوسط استهلاك المصري للسكر شهرياً بـ34 كيلوغراماً. وأشار حينها إلى أن هذه الكمية مرتفعة جداً، وأن المتوسط العالمي هو 20 كيلوغراماً فقط.
الشراء متناهي الصغر
وفي العام الماضي، أشارت تقارير إعلامية – على خلفية أزمة السكر - إلى أن المصري يستهلك 96 غراماً من السكر يومياً، في حين أن منظمة الصحة العالمية تنصح بألا تزيد الكمية اليومية على 50 غراماً حفاظاً على الصحة.
وبعيداً من وساوس معتنقي نظرية المؤامرة الذين يرفعون شعار "تسييس الأرقام"، يظل المصريون من الشعوب العاشقة للسكر. يشار إلى أن الطاهي ومؤلف كتب الطبخ والأطعمة التشيكي مايكل كروندل قال في كتابه "ابتكار حلو: تاريخ الحلويات" (2011) إن العالم فيه ست قوى عظمى في مجال الحلويات، الهند وإيطاليا وفرنسا والنمسا وأميركا والشرق الأوسط.
ولأن خير الأمور الوسط، فقد لجأ مصريون في رمضان إلى التنازل عن اكتناز الكيلوغرامات من الحلويات، كما لم يلجأوا إلى المنع التام، بل انتهجوا طريق الترشيد. وصار الشراء بالقطعة مستساغاً بعد ما كان مصدراً للحرج، بل ومدعاة إلى رفض إتمام البيع من أصحاب المحال. إنه عصر الشراء متناهي الصغر.
لم يعد "صبحي" كبير محاسبي الشركة يخجل من شراء ربع كيلو بسبوسة وثلث كيلو بلح الشام، كما لم تعد مكانة "مدام أماني" الاجتماعية تمنعها من شراء أربع قطع قطايف بدلاً من الكيلوغرام كاملاً. لماذا؟ لأن حاجز الحرج وقع يوم وقع الجنيه في "حيص بيص" (أي في شدة واختلاط).
بدائل "تحرق الدم"
حيص بيص من نوع آخر وقع فيه الباحثون والباحثات عن بدائل للسكر لتعمل حلويات رمضان في البيت، وذلك على سبيل توفير النفقات مع الالتفاف حول أزمة توافر السكر في الأسواق. مناهل المعرفة، وبعضها يبث على شاشات التلفزيون وفي مواقع الطهي المصرية، فسرت الماء بعد الجهد بالماء.
هذه المصادر أجمعت على أربع بدائل جيدة للسكر في ظل الأزمة الراهنة. عسل النحل الذي يبلغ سعر أقل كيلوغرام منه 200 جنيه مصري (4.2 دولار)، والسكر البني وسعر الكيلوغرام نحو 160 جنيهاً (3.37 دولار)، والقيقب وسعر اللتر نحو 700 جنيه (14.75 دولار)، والسيتفيا وسعر الكيلوغرام نحو 900 جنيه (19 دولاراً).
هذه النتائج "تحرق دم" (تغضب وتوتر) الباحثين عن البدائل. المفارقة هي أن التوتر كثيراً ما يدفع صاحبه إلى البحث عن مهرب والارتماء في أحضان السكر. دراسات علمية عدة أثبتت أن تناول السكريات يقلل من استجابة المخ البشري للإجهاد، وهو ما يفسر تناول الأشخاص الذين يعانون التوتر السكر بكميات كبيرة.
"تقرير المشاعر العالمية" (2022) الذي تصدره مؤسسة "غالوب" قال إن مشاعر الحزن موجودة لدى 29 في المئة من المصريين، والقلق بنسبة 40 في المئة. أما التوتر فنسبته 45 في المئة، وهي نسب في حدود المتوسط المرتفع قليلاً.
في الوقت نفسه فإن معدلات انتشار الرضا مرتفعة للغاية بين المصريين. صحيح إنه الرضا الناجم عن الإيمان بالقدر والنصيب، أو الرضا بالقليل، أو الأمل في مكافأة ربانية للرضا بتوسعة أبواب الرزق وتهيئة أسباب البحبوحة، لكنه يظل رضا في نهاية الأمر.
الرضا بالسكر
ملامح الرضا على وجه من يخرج منتصراً من طابور السكر حاملاً كيلوغراماً ثميناً، أو من تفلح في عمل صينية كنافة منزلية مستخدمة التمر بديلاً للسكر، أو من يقنع أفراد الأسرة بمقاطعة محال الحلويات من منطلق إنها تستغل المواطنين وتفرض أسعاراً خيالية وتحوم حولها شبهات الحصول على حصص إضافية من السكر من أبواب خلفية على حساب المتاح للمواطنين تقول كثيراً عن الرضا وأهله.
مناشدة الرئيس عبدالفتاح السيسي المرأة المصرية بعدم وضع كثير من السكر على الكنافة "والحاجات دي" (الحلويات) في رمضان جاءت على سبيل الدعابة في احتفالية عيد الأم والمرأة المصرية قبل أيام قليلة، لكن المصريين يعرفون أن الرئيس تحدث مازجاً الجد بالهزل، إذ السكر ما زال في أزمة، وأن الأطنان الإضافية الموعودة ينتظرها كعك العيد وبسكويته.
إنها حكايات المصريين مع السكر، في سرائه وتوافره وفي ضرائه وشحه. السكر والحلويات والاستهلاك المتنامي في رمضان، ومصير السلعة التي باتت أمناً قومياً، وحقيقة الإقبال الجمعي على السكريات هرباً من القلق ودرءاً للتوتر تسطر فصلاً مهماً من فصول تعامل المصريين مع الأزمة الاقتصادية ولكن من بوابة السكر واستخداماته.