Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تبرعات ومنتجعات... مصر بين إعلانين لمواطن مأزوم

وعود المطورين العقاريين ببيت على البحيرة ومسبح أمام الشرفة تعمق الفصل الطبقي والتمييز الاقتصادي والحرمان الاجتماعي في المجتمع المصري

حفر الإعلان الرمضاني لنفسه مكانة مستقلة في باب "القياسات الاجتماعية" (مواقع التواصل)

حين قال أحدهم إن "تجربة البيت المطل على البحيرة" و"البرج السكني الترفيهي" و"وحدتك الجاهزة للسكن على البحر مباشرة في قلب القاهرة" (التي لا تطل على بحر) تتناقض وعدم وجود كيلو سكر في المطبخ، ظن البعض أنه يتفكه لكنه كان جاداً.

جدية المتصل المصري وهو يسأل المتصل به بعد الإفطار إن كان قد شاهد إعلان المنتجع السكني الأحدث في مدينة الشيخ زايد على شاشة التلفزيون جعلت المتصل به يسأل عن متوسط سعر الوحدة السكنية. وحين علم أن الأسعار تبدأ من 30 مليون جنيه (630 ألف دولار) للاستوديو، سأل المتصل بكل جدية أيضاً إن كان هناك "ميكروباص" (سيارة سرفيس) قريب من المنتجع، وسعر أجرته حتى يجهز حساباته قبل قرار الشراء.

قرار الشراء

الهدف الأبرز من الإعلانات هو قرار الشراء. يقول علم الإعلان إن المستهلك، المشاهد، يقيم البدائل ويحكم على المنتج الأفضل أو الأنسب، الذي يلبي متطلباته في حدود قدراته، أو ربما أكثر من قدراته بقليل أو بكثير بفضل القروض والتسهيلات "واشتري الآن وادفع غداً". وهذه الأخيرة اقتطعت لنفسها هي الأخرى قضمة معتبرة من كعكة الإعلانات الرمضانية.

الإعلان الرمضاني حفر لنفسه مكانة مستقلة في بابي "القياسات الاجتماعية" و"المؤشرات الاقتصادية" منذ سنوات طويلة، يمكن ربطها بعصر الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه الرئيس الراحل محمد أنور السادات في منتصف سبعينيات القرن الماضي. إنه بداية التغير الأكبر الذي طرأ على أنماط المصريين الاستهلاكية ورغباتهم المادية بعد سنوات الستينيات الاشتراكية، وهو ما يمكن رصده باستحضار إعلانات التلفزيون في تلك العقود.

 

أستاذة علمي الاجتماع والأنثروبولوجيا الراحلة منى أباظة أشارت في ورقة عنوانها "تاريخ الإعلانات في مصر الستينيات" (2021) إلى أن التغيير الأكثر جذرية الذي طرأ على حياة المصريين حدث خلال فترة الانفتاح، تحديداً حين اكتشف المصريون رغبات استهلاكية غير محدودة، وإن ظلت القدرة على تلبيتها دائماً غير مضمونة.

ورأت أباظة أن "تلك السياسة (الاستهلاكية) اتبعت بتدخل متزايد من البنك وصندوق النقد الدوليين في قرارات التخطيط الاقتصادي الداخلي في مصر"، وأن "عملية الانتقال من عصر (رأسمالية الدولة) الناصرية سارت إلى الاندماج الكامل في النظام الرأسمالي العالمي، بالتوازي مع تشجيع المصريين على الاستهلاك، باعتباره نمط حياة جديداً، مما أدى إلى تحول مذهل وسريع في عادات الاستهلاك والتسوق".

عادات الاستهلاك والتسوق في واد والإعلانات الرمضانية في واد. وبين الواديين هوة سمحت لملايين "النقاد" بتفنيد وتحليل وتشريح إعلانات رمضان التي تشغل مساحة توازي وربما تفوق مساحة وجبة المسلسلات الرمضانية الرئيسة.

حديث الشعب

ملايين المصريين يتحدثون عن إعلانات رمضان على المنصات العنكبوتية، وعلى أرض الواقع في الشوارع والمواصلات العامة. إنه حديث الشعب. الشعب الغارق أمام شاشات التلفزيون، وإلى حد ما تطبيقات المشاهدة، إذ بعد الإفطار يتعرض لكم هائل من الإعلانات التي تدغدغ، وفي أقوال أخرى تضعضع مشاعره.

مشاعر المصريين منذ أطلت منظومة "الكومباوند" عليهم قبل نحو ثلاثة عقود تتأثر بما في الجيب. علاقة حب كراهية تجمعهم بهذه المنتجعات السكنية المغلقة، التي يتكاثر حولها وسكانها القيل والقال. فطالما أنت في الداخل، فالكومباوند خير مطلق. لكن غير القادرين على اجتياز الأسوار بغرض السكن، لا العمل لدى الساكنين، فهي شر اجتماعي واقتصادي ونفسي وعصبي مطلق. ويبقى هناك فريق ثالث يشرح ثقافة الكومباوند في ضوء نظريات الفصل الطبقي والتمييز الاقتصادي والحرمان الاجتماعي.

لكن ما تنضح به شاشات التلفزيون في شهر رمضان من كل عام يشي بأن "الكومباوند" أصبح واقعاً لا جدال فيه، شاء من سكن وأبى من لم يسكن. وعلى الجميع مشاهدة هذا الكم الضخم من إعلانات عشرات الكومباوندات الجديدة التي تطل عليهم كل رمضان. فهذا كومباوند يقدم للمصريين أول تجربة بيت على البحيرة، وذاك يعدهم بعدم الخروج من الكومباوند لرؤية الدنيا، بل الدنيا هي التي ستأتي إليهم، وثالث يؤكد أن كل وحدة سكنية مزودة بمسبح خاص بها، ورابع يطمئن القلوب القلقة بأن كل الخدمات متاحة في الكومباوند الجديد بما فيها محلات بيع ألماس.

سخرية وغضب

هذا الواقع الجديد تأكد تماماً هذا العام على رغم تصاعد الأصوات الساخرة حيناً والغاضبة حيناً آخر من عدم مواءمة إعلانات المنتجعات مع متوسط الدخل في مصر. وفي كل عام، يحرص أصحاب المنتجعات وشركاتهم الإعلانية على إضافة نقطة جذب جديدة أملاً في تعظيم الإقبال الجماهيري. فمن "كومباوند ذكي" إلى آخر مزود بمحطات شحن السيارات الكهربائية إلى ثالث فيه جيم ويوغا وبيلاتس إلى رابع لا يمكن اختراق سياجه وأمنه إلا بـ"كيو آر كود" وهكذا.

هذا العام، وعلى رغم الكم الكبير في الإضافات، سواء من حيث عدد الكومباوندات المعلن عنها أو الخدمات والبنى التحتية المتقدمة في داخلها، تظل جورجينا سيدة الإضافات. أطلت جورجينا صديقة النجم البرتغالي لاعب النصر السعودي كريستيانو رونالدو في إعلان ترويجي لمنتجع في منطقة التجمع الخامس الراقية في القاهرة.

 

الظهور المفاجئ لجورجينا قصم ظهر المتابعين، وهي المقصوفة ظهورهم على مدار ما لا يقل عن ثماني سنوات، تحديداً منذ التعويم الأول للجنيه المصري في عام 2016. إذ خاض الجنيه المصري خمسة تعويمات في ثمانية أعوام. وبلغ التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية 35.7 في المئة في فبراير (شباط) الماضي للمرة الأولى في التاريخ. أسعار السلع الغذائية ارتفعت بجنون. بعض السلع قفز سعرها بنسبة 100 في المئة، وسلع أخرى أساسية، مثل السكر، إضافة إلى ارتفاع أسعارها الجنوني يصعب الحصول عليها.

أما الطبقات الاجتماعية، التي هي اقتصادية في الأساس، فقد تقلبت وتحولت وتغيرت، ومنها ما انقلب رأساً على عقب. نهشت الأزمة الاقتصادية الطبقة المتوسطة كما لم تفعل من قبل. ودفعت بسكان منتصف الهرم الاجتماعي دفعاً عنيفاً نحو أسفل، حتى باتت بقايا هذه الطبقة تسمى "الطبقة المتشبثة" في دلالة على إصرارها على الإمساك بتلابيب مكانتها بعيداً قدر الإمكان عن قاعدة الهرم الممتلئة عن آخرها.

حراك سلبي

هذا الحراك الاقتصادي السلبي المحتدم يقف على طرف نقيض من إعلانات المنتجعات السكنية الفارهة والفاخرة في رمضان. موائد رمضان التي تشهد تقلصاً في التنوع، وترشيداً في المحتوى، وابتعاداً عن منظومة الولائم الممتدة والسهرات المبهرة تقف شاهد عيان على تعكر المزاج العام.

البعض ممن اضطر إلى نقل الأبناء من مدارس خمس نجوم إلى أخرى أربع أو ثلاث نجوم، وتخلى عن بنود عدة في قوائم الاستهلاك الشهري، واستبدل مشترياته من سوبر ماركت فاخر إلى آخر متواضع، يجد نفسه مستنفراً مستفزاً ساخطاً أمام وعود المطورين العقاريين ببيت على البحيرة، ومسبح أمام الشرفة، و"كيو آر كود" شرط اجتياز أسوار الكومباوند.

المزاج العام الرمضاني يقف على طرف نقيض من وعود المنتجعات التي تحملها الشاشات مئات المرات يومياً. الغضب الشعبي الواضح بالعين المجردة، سواء من خلال أحاديث المصريين اليومية أو على منصات التواصل الاجتماعي، لم يتفجر بسبب إعلانات المنتجعات. يمكن القول إن هذه الإعلانات تلعب دور الفلزات القلوية التي تؤجج الاشتعال. فالقلق الشعبي كبير بفعل الأزمة الاقتصادية. والضرر الواقع على الجميع، رغم هامش التفهم والتعايش أو القبول والرضا بما قسم الله كبير.

لكن الشعور العام، باستثناء الأقلية المرابطة في قمة الهرم أو تلك التي وصلت إليها منتصفه بشكل أو بآخر من الأزمة الاقتصادية وشح الدولار، يجد في وفرة إعلانات الكومباوندات وما تباهي به من عناصر الرفاهية ووعود الخصوصية وتأكيدات البحبوحة دليلاً على افتقاد حس السلم الاجتماعي.

السلم الاجتماعي في مهب الكومباوند

السلم الاجتماعي هو شعور يجمع المواطنين في دولة ما، يجعلهم يشعرون بالاستقرار الاجتماعي، ووجود عوامل رئيسة عدة تجمعهم، مثل التاريخ والجغرافيا والهوية والمصير، هذا الشعور يعززه التواصل الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد على خلفية من العدالة الاجتماعية، التي تقوم عليها الدولة، ويعمل على ضمانها النظام السياسي.

مهددات السلم الاجتماعي كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر غلاء الأسعار. ويشار إلى أن الأزمات الاقتصادية التي يطول أمدها تضعف قدرة الدول على استدامة إجراءات الحماية المجتمعية للفئات الأضعف، كما تلقي بظلال وخيمة على بقية الطبقات، لا سيما المتوسطة، إذ تفقدها توازنها وقدرتها على الصمود.

الصمود طويلاً أمام إعلانات الوحدات السكنية في المنتجعات الفاخرة على الشاشات الرمضانية أمر صعب وحمال أوجه. هناك وجه ساخر كعادة المصريين أمام الصعاب، ألا وهو التنكيت على تناقضات المحتوى الإعلاني الرمضاني.

الأقساط الربع السنوية التي تبلغ بضعة ملايين من الجنيهات يقابلها عرض من أحد المشاهدين بدفع 150 جنيهاً شهرياً على مدار 40 عاماً هي متوسط ما تبقى من عمره الافتراضي. يضع أحدهم صورة "الكحيت" (شخصية ابتكرها الراحلان الكاتب أحمد رجب ورسام الكاريكاتير مصطفى حسين لرجل يعيش في فقر مدقع، لكنه يتابع أداء البورصات العالمية ويدخن السيجار) وهو يتابع إعلان كومباوند يعد بالخصوصية والبعد عن منغصات الحياة والزحام، ويذيلها بتعليق: "أهم حاجة (شيء) نبعد عن الفقر والفقراء".

 

إعلانات المنتجعات الفاخرة في رمضان لا تقف على طرف نقيض من الفقر والفقراء فقط، لكن البعض يحذر من أن تكون مصدراً إضافياً من مصادر تهديد السلم الاجتماعي. يقول البعض إن السلم الاجتماعي في رمضان أصبح في مهب إعلانات الكومباوندات.

وفي عام 2016، تساءل الشاعر والكاتب محمد العسيري في مقال عنوانه "نكتة السلم الاجتماعي وخديعة الذوق العام" حول تدخل "جهاز حماية المستهلك" وقتها لوقف إعلانات لحماية الذوق العام: "ألم يلتفت أحد للمنتجعات الخرافية في وقت تتوجه فيه الملايين لحجز شقق في الإسكان الاجتماعي (المخصص للفئات الأكثر احتياجاً)؟ ألا يوجد في هذه الإعلانات المستفزة جنباً إلى جنب مع إعلانات تؤكد أن لدينا ثلاثة ملايين جائع يحتاجون إلى كرتونة رمضان وثلاثة ملايين عريان يحتاجون ملابس مستعملة؟ ألم يتلفت أحد لوجود إعلانات أخرى تتسول من أجل المرضى؟ وأن إعلانات الشقق الفاخرة والمنتجعات الأوروبية تتسبب في حرق دم وتزيد من أعداد المرضى الذين يحتاجون إلى أموال التبرعات؟ نحن في حاجة إلى حرب معرفية يجري فيها تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الذوق والسلم والمجتمع".

قروض صغيرة وقلوب عليلة

اللافت في إعلانات هذا العام أيضاً زيادة كبيرة في أعداد إعلانات القروض الصغيرة ومتناهية الصغر، التي تخاطب الملايين من الشباب وغير الشباب ممن يبحثون عن فرصة عمل أو تنمية دخل بإقامة مشروع صغير جداً. هذه الإعلانات التي تعد بقروض 10 أو 50 أو حتى 100 ألف جنيه تقف هي الأخرى على طرف نقيض من إعلانات المنتجعات المليونية.

نقيض ثالث هو الإعلانات الداعية إلى التبرع، سواء لمستشفيات خيرية تعالج المرضى بالمجان ومنها قلوب الأطفال العليلة أو جمعيات خيرية ترسل الطعام والكساء للفقراء أو صناديق زكاة تجمع الأموال من أجل الأكثر احتياجاً، حيث تبني سقفاً يحمي أسرة أو تمد أنابيب مياه نقية للمحرومين منها أو تزوج يتيمات أو تدرب عاطلين.

يكاد هذا التناقض بين بيع وحدات سكنية بملايين وعروض القروض متناهية الصغر ببضعة آلاف وإلحاح التبرع، ولو بأقل القليل المتابعين بالدوار، ليضاف إلى قائمة الآثار والأعراض الجانبية الناجمة عن إعلانات رمضان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الالتفاف على الأعراض دائماً يمر بطريق الفكاهة. والأبرز في هذا الصدد هو المقترح الشعبي المتداول بأن يقوم زبائن المنتجعات المعلن عنها بالتبرع للمستشفيات والجمعيات الخيرية المعلن عنها أيضاً، ويتركوا باقي المشاهدين في حالهم، وهي الحال المتفاقمة هذا العام بالهزات الارتدادية المتتالية للأزمة الاقتصادية. أحدث الهزات، وليس آخرها، زيادة أسعار الوقود مجدداً.

واقع الحال يشير إلى تبرم شعبي من إعلانات الكومباوندات، لكنه يشير أيضاً إلى حسابات المكسب والخسارة، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، التي تجعل مسألة عدم قبول أو بث إعلانات سلع أو معروضات استفزازية حفاظاً على مشاعر الناس أو وقاية للسلم العام أو حقناً للأمان المجتمعي أمراً غير وارد.المجلس الأعلى للإعلام سبق وتدخل في طول الفواصل الإعلانية بين المسلسلات، التي كانت تنغص متعة مشاهدة أي مسلسل، كما سبق وهدد بإيقاف الإعلانات التي تسيء إلى القيم المجتمعية. أما الإعلانات التي تثير أحقاد المشاهدين المادية أو تستنفر غضبهم بسبب الأزمة الاقتصادية أو تثير اهتمامهم لمعرفة هوية وخلفية وملابسات من يشتري وحدات الكومباوندات في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، فليست مدخلاً أو مدعاة للتدخل للمنع أو الترشيد أو إعادة التوجيه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات