ملخص
يستمر الخلاف حول إعادة هيكلة النظام المصرفي في لبنان، ويشكل تحديد الخسائر جوهر الخلاف بين الدولة ومصرف لبنان من جهة، والمصارف التجارية من جهة أخرى، ويحاول كل طرف التنصل من مسؤولية الفجوة المالية التي تصل إلى 70 مليار دولار أميركي.
في وقت يشهد فيه لبنان فراغاً في رئاسة الجمهورية، هبط على طاولة مجلس الوزراء "مشروع القانون المتعلق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، وسرعان ما أحاطت به الملاحظات، وتبرأ منه الأقربون قبل الأبعدين، مما يجعل الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي أبعد ما يكون في ظل غياب الإرادة الإصلاحية.
الإصلاح ضرورة ملحة
دفع تملص مصرف لبنان والوزراء من مسؤولياتهم حول طرح مشروع إعادة هيكلة المصارف بـ"الأب الروحي" للمشروع نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى تقديم مطالعة أمام الحكومة منتقداً الانقلاب على الخطط المتفق عليها سابقاً، بعدما قرر مجلس الوزراء سحب المشروع لإعطاء الوزراء مزيداً من الوقت لدراسته، ومتمسكاً بضرورة "توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، لأنه حاجة للبنان، للتمكن من الحصول على المساعدات التي يحتاج إليها"، حسب التسريبات الصحافية. وشدد الشامي على أن الحاجة ملحة لإعادة هيكلة المصارف وإعادة تنظيمها من أجل تمويل الاقتصاد وإعادة الودائع لأصحابها.
مشروع قانون مفصل
وتألفت مسودة القانون من 61 مادة، حددت المادة الثالثة منها الأهداف بـ"العمل على حماية الودائع كأولوية وتعزيز استقرار النظام المالي والمصرفي، وضمان استمرارية الوظائف الأساسية للمصرف في خدمة الاقتصاد، والحد من استخدام الأموال العامة في عملية إعادة الهيكلة لتأمين استدامة الدين العام".
كما أخضع مشروع القانون لأحكامه "المصارف اللبنانية، بما فيها فروعها في الخارج، ما لم تنص قوانين وأنظمة البلدان الأجنبية على خلاف ذلك"، مؤسساً لـ"الهيئة المتخصصة بإعادة الهيكلة"، وهي المرجع المتخصص في اتخاذ قرار إخضاع المصرف لعملية إعادة الهيكلة أو لعملية التصفية، وهي هيئة مكونة من حاكم المصرف المركزي رئيساً، ونواب الحاكم الأربعة، إضافة إلى تعيين خبير قانوني، وخبير مالي مصرفي، وخبير اقتصادي بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء، ولمدة خمس سنوات.
ومنح المشروع لهذه الهيئة صلاحية إعلان عملية إعادة الهيكلة التي ترتكز على عملية التخمين التي يتولاها مخمنون مستقلون، أو عملية التصفية التي تؤدي إلى صدور قرار بشطب المصرف من لائحة المصارف لمصرف لبنان.
أدوات إعادة الهيكلة
وحدد مشروع القانون أدوات إعادة الهيكلة، وأجاز للهيئة الخاصة تقرير الأدوات المناسبة لذلك، التي تعتمد إما على "الإنقاذ بمشاركة داخلية من خلال تخفيض قيمة الأموال الخاصة والمطلوبات، و/ أو تحويل المطلوبات إلى أدوات رأسمالية"، كما جاء على ذكر "إعادة رسملة المصرف من خلال مستثمرين جدد". وكذلك "تحويل كل أو بعض موجودات المصرف وحقوقه ومطلوباته إلى كيان آخر"، وأخيراً "نقل ملكية المصرف إلى كيان آخر من خلال الدمج"، ويبقى المصرف قيد إعادة الهيكلة تحت إشراف لجنة الرقابة على المصارف.
أما اللافت في هذا القانون، فهو ما نصت عليه المادة الـ33 التي أشارت إلى "عدم إمكانية الطعن بقرارات الهيئة المتخصصة بإعادة الهيكلة"، فالقرارات الصادرة عنها لا تقبل أي طريق من طرق الطعن القانونية أو القضائية، ومن ثم "لن يحول أي مطلب على الإطلاق دون تطبيق قرار إعادة الهيكلة"، كما ينص القانون على "غرامة تتراوح قيمتها بين 150 و300 مرة الحد الأدنى للأجور في لبنان، في حق كل شخص لا يتقيد فوراً بأحكام هذا القانون، أو يعرقل بطريقة أخرى عمل الهيئة"، كما يمنح الحصانة لأعضاء الهيئة والمتعاونين معهم في الداخل والخارج، إلا في حال صدور حكم مبرم يثبت أن العمل أو الإغفال لم يحصل عن حسن نية أو أنه ناتج من احتيال أو إهمال.
أحكام مهمة
وتعتبر المادة الـ46 إحدى أهم المواد على الإطلاق، وهي نظرياً تحديثاً لنموذج "اعرف عميلك"، للتحقق من مشروعية الودائع بالعملات الأجنبية، وأن يلتزم المودع الحصول على إفادة من وزارة المالية في بلده لإثبات دفع الضرائب المترتبة عليه، كما ألزمت كبار المساهمين بإعادة ما حولوه إلى الخارج، ومن ثم على "أي شخص، أو كيان قانوني أسهم أو لا يزال يسهم في رأس المال يفوق خمسة في المئة، أو شغل منصباً إدارياً إعادة فائض الأموال التي حصلوا عليها مباشرة أو غير مباشرة وحولت إلى الخارج من عوائد الأرباح ومكافآت"، كما "يجب على أي شخص أو كيان قانوني إعادة الأموال التي حولوها من حساباتهم من الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 إذا تعدى المبلغ المحول 100 ألف دولار أميركي، بعد استثناء أية أموال مبررة تم تحويلها إلى مؤسسات تربوية أو طبية موثقة بمستندات تجارية".
وميز المشروع بين الودائع بالعملات الأجنبية المؤهلة وغير المؤهلة، وتحديد سقوف للمبالغ المحمية بـ100 ألف دولار أميركي، واعتبار موعد انطلاق "انتفاضة أكتوبر" 2019 محطة فاصلة، نظراً إلى تدفق المودعين المطالبين بودائعهم إلى المصارف التجارية. كما أقر القانون رفع السرية المصرفية "كلياً" أمام الهيئة ومصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، والشركاء كافة.
من جهة أخرى تضمن مشروع القانون إعادة رسملة مصرف لبنان بمليارين ونصف المليار دولار أميركي من خلال سندات مالية أو أية وسيلة أخرى، واستثنى بعض الودائع من "معالجة الودائع المصرفية"، وتحديداً "الأموال الجديدة" التي تلقتها المصارف المعنية من الخارج أو كودائع نقدية بالعملات الأجنبية بعد تاريخ الـ17 من أكتوبر 2019، إذ يجب على المصرف سدادها بالكامل عند الطلب، وكذلك الودائع بالليرة اللبنانية والودائع لدى المصارف الأجنبية العاملة في لبنان.
إلى ذلك ينشئ الاقتراح "صندوق استرداد الودائع" وغايته المساهمة بتأمين استرداد رصيد الودائع المؤهلة وغير المؤهلة مهما كانت قيمتها، وإلى تخصيص بعض الإيرادات المستقبلية لهذه الغاية.
تحفظات واسعة لدى المصارف
وتشكل "عملية توزيع الخسائر" جوهر الخلاف بين الدولة والمودعين والمصارف اللبنانية التجارية، ويسود انطباع أن المشاريع الحكومية تأتي في الوقت الضائع، في مرحلة تشهد فراغاً في رئاسة الجمهورية، وحكومة تصريف أعمال غير مكتملة الصلاحيات، ومجلس نيابي يثور الجدل حول اعتباره هيئة انتخابية (مخصصة فقط لانتخاب رئيس للجمهورية في ظل الفراغ الرئاسي) أو تشريعية.
وعبر المتخصص الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل عن جملة من الملاحظات والاعتراضات على مشروع الحكومة في حق المصارف اللبنانية، مشككاً في خلفيات مشاريع كهذه "فهي لا تهدف إلى إصلاح وضع القطاع المصرفي، وإنما إلى إطاحة النظام المصرفي، ووضع البعض اليد على إدارتها وملكياتها لمآرب شخصية، وشراء الرخص والأصول بأثمان زهيدة"، وتابع أن "مشروع القانون الحالي في غاية الحساسية، لذلك من المستبعد أن يصوت عليه مجلس النواب في ظل غياب رئيس للجمهورية، وحكومة مكتملة الصلاحية، وربما تقوم الحكومة بمناقشته لتقول إنها قامت بواجباتها تجاه صندوق النقد الدولي، وترمي كرة اللهب لدى البرلمان كما فعلت بالموازنة العامة"، ووصف غبريل المشروع الحالي بـ"مشروع هرب الدولة من مسؤولياتها، في ما يتعلق بإعادة الهيكلة، وتحديد مصير الودائع، وكل ما يثار يغطي فقط 18 إلى 20 في المئة من الودائع، من خلال تقسيمها بين مؤهلة وغير مؤهلة، إذ يعيد في خانة المؤهلة 100 ألف دولار خلال مدة 15 سنة بمعدل 300 إلى 800 دولار شهرياً، أما غير المؤهلة فترد 36 ألف دولار خلال المدة عينها أي قرابة 200 إلى 400 دولار، ويشكل مجموع هذه المبالغ بين 16 و20 مليار دولار أميركي، في وقت تبقى الفجوة واسعة لأن حجم الودائع هو 91 مليار دولار أميركي، فما مصير قرابة 80 في المئة من الودائع؟ ومن يتحمل العبء؟".
ورأى المتخصص الاقتصادي والمصرفي أن "الهدف هو شطب الخسائر من موازنة مصرف لبنان أي التزامات الدولة، والبحث عن مخرج على حساب المصارف وكأن الدولة كانت مجرد متفرج قبل الأزمة"، لافتاً إلى أنه "لو أعاد مصرف لبنان ستة إلى سبعة مليارات دولار من الودائع بالحسابات الجارية لديه للمصارف، لتجاوزنا حالة الهلع، وأزمة انعدام الثقة، ولكن الجواب أنه لا يمتلك السيولة". كما أن "المصارف ليست المسؤولة منفردة عن الأزمة، فهي لم تكن بموقع القرار، ولم تتخذ قرارات بالتوظيف غير المجدي في القطاع العام، ولم تقر سلسلة الرتب والرواتب، ولم تزد النفقات العامة بمعدل 160 في المئة، ومن دون موازنة طوال 11 عاماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وطالب غبريل بمقاربة مختلفة لموضوع إعادة الودائع واستعادة الثقة وعدم حصر الخيار بإدخال المودع مساهماً من دون سؤاله عن رأيه، ومن ثم السماح للمصارف بالعودة للعب دورها في التسليف للقطاع الخاص وإقناع المودع أن لديه الإمكانية لاستخدام وديعته متى شاء.
نعم لإعادة الهيكلة الشاملة
حالياً، يعتبر المودع العادي، الذي فقد مدخراته، الحلقة الأضعف في ظل الخلاف بين أطراف السلطة السياسية والمالية، ويمتلك مصرف لبنان، والمصارف أيضاً، نفوذاً واسعاً على مؤسسات الدولة الدستورية والقضائية، وفي المشهد الإعلامي المحلي.
ووضع المتخصص الاقتصادي بلال علامة السجالات حول إعادة هيكلة المصارف في خانة المزايدات و"العمل السياسي المخطط، ويراهن الفرقاء السياسيون على عامل الوقت والتسويف لعدم الوصول إلى المحاسبة حسب النقد والتسليف والمعايير الدولية التي تحارب تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والفساد، لأن القانون واضح، ويجب عدم التعامل مع مسألة ضياع الودائع باعتبارها مسألة عابرة، ناهيك بسوء الائتمان الذي يفترض محاسبة المصارف، ومن ثم حل المصارف الراهنة، وتأسيس مصارف جديدة، برساميل جديدة، وتأسيس كيانات قادرة على تطبيق المعايير الدولية".
ورجح علامة أن "المصارف الحالية لن تتمكن من تحقيق التوازن في الوقت الراهن، والدليل على ذلك، فشل محاولة خلق دورة مالية طازجة من خلال التعميم 165، إذ لم تتمكن من جذب أكثر من 10 ملايين دولار أميركي بسبب فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، والأجهزة المالية اللبنانية، إضافة إلى التأثير السيئ لتخلف الحكومة عن دفع سندات الدين اليوروبوند وخسارة الثقة العالمية، والتعاطي الحذر معها"، ومن ثم، فإن "المصارف المستوفية الشروط، التي يمكن أن تنجو، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا بد من إيجاد صيغة حل للمصارف الأخرى، قد تتخذ صيغة الدمج أو التكتلات المصرفية المنضبطة قانونياً، أو استقبال أرصدة ورساميل جديدة على قطاع متجدد". لذلك، اقترح علامة "إعادة الهيكلة الشاملة، وتحديد المصارف التي أخطأت وحجم خسائرها، وتحديد المسؤوليات، ووضع خطة واضحة لإعادة الودائع، وتطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة، لأن الأمور لن تنتظم في حال الاستمرار بالبحث عن مشاريع للتهرب من الالتزامات".