Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الليرة اللبنانية... تكلفة طباعتها وصكها أعلى من قيمتها الشرائية

فقدت بعض الأوراق قيمتها وتحولت إلى "أنتيكة" وأدوات للزينة وظهرت منصات على مواقع التواصل للمقايضة وتبادل العملات القديمة

فقدت الليرة اللبنانية بريقها وتحولت إلى وسيلة لإثارة "الحنين" (أ ف ب)

ملخص

"الليرة اللبنانية" تصارع من أجل البقاء، إذ تتجه التعاملات الاقتصادية إلى الدولرة الشاملة.

خلال أعوام الانهيار الاقتصادي في لبنان تكيف المواطن مع فكرة الاستغناء عن العملة الوطنية لمصلحة الاعتماد شبه التام على الدولار الأميركي. وأدى ضعف الثقة في العملة الوطنية إلى انهيار تاريخي، تجاوز في بعض الأحيان هامش 100 ألف ليرة بكثير، قبل أن تستقر نسبياً عند 89500 ليرة لبنانية للدولار الواحد.

وفي وقت فقدت فيه بعض الأوراق النقدية قيمتها، ولم تعد صالحة لشراء أدنى الأشياء، مثل ورقة الألف والـ5 آلاف، والـ10 آلاف ليرة، تحولت القطع النقدية المعدنية إلى جزء من الأكسسوار وأدوات الزينة على غرار قطع المجوهرات، فيما انتشرت تجارة القطع النقدية والعملات باعتبارها مكوناً عضوياً من تشكيلة "الأنتيكة"، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات للمقايضة وتبادل العملات القديمة.

خزانة الحنين

حسن، الشاب الأربعيني، يفاخر بين أقرانه بامتلاكه مجموعة نادرة ومتسلسلة من الأوراق النقدية، التي تختصر تاريخ لبنان، والمواقع الأثرية، حيث تتدرج من الليرة الواحدة التي ازدانت بقلعة بعلبك وهياكلها العظيمة، المؤرخة بالأول من مارس (آذار) 1980، والـ5 ليرات التي يوجد على واجهتها المتحف الوطني، إضافة إلى الـ10 ليرات التي تتوسطها آثار عنجر في البقاع العائدة إلى مارس 1978، والـ25 ليرة التي ارتبطت بقلعة صيدا، والمسيلحة، والـ50 ليرة السوداء ومعبد مدينة الشمس، وورقة الـ100 ليرة الزرقاء التي تعود لمنتصف الثمانينيات، وتخلد قصر بيت الدين، وورقة الـ250 ليرة الخضراء التي تتصدرها آثار صور الرومانية، صعوداً إلى الـ100 ألف ليرة التي تشكل أكبر فئة نقدية لبنانية.

يؤكد حسن تمسكه بمجموعة العملات الخاصة به، فهي تثير فيه الحنين، وتعيده إلى أيام الطفولة عندما "كان يشتري بليرة واحدة 4 بيضات شوكولا"، فيما بات أطفال اليوم محرومين من تلك المزايا.

تاريخ لبنان

تعكس العملة تاريخ لبنان الطويل خلال القرنين الـ20 والـ21، والانتقال من سيادة السلطنة العثمانية إلى حقبة الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى مرحلة الاستقلال وتأسيس مصرف لبنان المركزي. ففي العصر العثماني تداول اللبنانيون السلع بواسطة "العثملي"، أي الليرة العثمانية، واستمر الأمر إلى دخول الحلفاء والفرنسيين إلى لبنان، وإعلان دولة لبنان الكبير في 1920، وقامت سلطة الانتداب المفروضة بموجب اتفاقية سايكس - بيكو واقتسام بلاد المشرق العربي بين فرنسا، وبريطانيا، بإصدار عملة موحدة للبنان وسوريا عن بنك سوريا، وهو مؤسسة تبدلت تسميتها في عام 1939 إلى بنك لبنان وسوريا. وظهرت في عام 1924 أول عملة نقدية، أما العملة الورقية فقد تأخرت إلى 1925. في حينه، وإبان عهد الانتداب بلغت قيمة الليرة السورية (الموحدة) الـ20 فرنكاً فرنسياً. وفي عام 1948، بعد استقلال لبنان بخمس سنوات تقريباً، انفصلت الليرة اللبنانية عن تلك السورية.

ولادة مصرف لبنان المستقل

في الأول من أغسطس (آب) 1963، نشأ مصرف لبنان المركزي بموجب قانون النقد والتسليف. وتكلف بمهمة إصدار النقد، والحفاظ على استقرار سوق القطع. في الفترة الفاصلة بين عامي 1964 و1981، حافظت الليرة على وضع مستقر، وتراوح سعر الصرف بين 3.22 ليرة ونحو 4 ليرات لبنانية للدولار الواحد. وفي أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت في 1982 بلغ خمس ليرات لبنانية، وسرعان ما شهد بعض التعافي وتراجع إلى ما دون خمس ليرات للدولار، لكن إبان ولاية الرئيس أمين الجميل شهد سعر الصرف انهياراً إلى 550 ليرة للدولار، وتراجع سعر الصرف إلى 380 ليرة عام 1988.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ولج الاقتصاد اللبناني منهكاً إلى مرحلة السلم، وبلغ الدولار 880 ليرة لبنانية للدولار الأميركي في 1991. وتسارع الانهيار في 1992، وبلغ 2880 ليرة لبنانية في عام 1992. وشهد أكتوبر (تشرين الأول) 1992 انطلاق عملية الإعمار، وقدوم الرئيس الراحل رفيق الحريري بثقله المحلي والإقليمي إلى رئاسة الحكومة، وتراجع سعر الصرف إلى 1900 ليرة، وبدأت مرحلة تثبيت سعر الصرف قانوناً عند مستوى 1507.5 ليرة للدولار الأميركي عام 1999، وجاء ليكرس استراتيجية بدأها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة عقب تسلمه منصبه عام 1993.  

الفرق بين انهيار 1992 وانهيار 2019

يؤكد غسان العياش، وهو أكاديمي شغل منصب نائب حاكم مصرف لبنان إبان انهيار 1992 لـ"اندبندنت عربية" أن ثمة اختلافاً بين الانهيار الحالي والانهيار الذي عايشته البلاد في أعقاب انتهاء الحرب في 1992، قائلاً "إذا بحثنا عن وجه الشبه بين الانهيار النقدي الذي بدأ عام 2019، وبين الانهيار النقدي الذي شهده لبنان في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، يتبين لنا أن الأسباب الجوهرية للانهيارين هي ذاتها. فالمشكلة تكمن جوهرياً في نوعين من الخلل في الاقتصاد اللبناني، وهما عجز المالية العامة، والعجز المزمن في الميزان التجاري"، لكن في المقابل، ثمة وجه اختلاف أساس يصفه العياش بـ"المهم ويجب إبرازه دائماً لكي تتعظ منه الأجيال القادمة"، يقول، "في عام 1992 انهار سعر صرف الليرة اللبنانية الذي ارتفع من نحو 800 ليرة لبنانية للدولار، إلى حدود ثلاثة آلاف ليرة قبل أن يعود فيستقر عند سعر 1500 ليرة تقريباً لفترة طويلة. إلا أن الانهيار وقتها اقتصر على سعر الصرف فقط، بعكس اليوم، إذ يتزامن انهيار سعر الصرف مع الانهيار المصرفي الشامل وعدم قدرة المصارف على تسديد الودائع لزبائنها".

 

ويضيف النائب السابق لحاكم المصرف المركزي "في الانهيار السابق لم يفقد المودعون دولاراً واحداً من ودائعهم، أما اليوم ففقدوا كل أموالهم المودعة في المصارف. ويعود السبب إلى المقامرة الخطرة التي اعتمدها مصرف لبنان في السنوات الأخيرة، والتي تتمثل باستقطاب الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية، بالترهيب أو الترغيب، لأجل استعمالها بإقراض الدولة واستخدامها في تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية. وهكذا بلغت الفجوة بين مطلوبات مصرف لبنان تجاه المصارف وموجوداته بالعملات نحو 72 مليار دولار أميركي".

الانهيار ومداه الأقصى

خلال النصف الثاني لعام 2023، شهد سعر الصرف نوعاً من الاستقرار، وبرز تساؤل حول بلوغ انهيار الليرة اللبنانية مداه اليوم، أم أنه عرضة لمزيد من التراجع، والعوامل المؤثرة. يشير غسان العياش إلى أنه "منذ نهاية ولاية الحاكم السابق لمصرف لبنان التزمت الحاكمية بصورة صارمة بالتوقف عن إقراض الدولة، بعكس السياسة التي اتبعها الحاكم السابق رياض سلامة والتي كانت تقوم على التوسع في إقراض الدولة، منوهاً بأن "امتناع المركزي عن إقراض الدولة يعني التوقف عن خلق النقود، من ثم زيادة الكتلة النقدية. ونتيجة هذه السياسة هي خفض الكتلة النقدية وشح الليرات اللبنانية فأزال ذلك الضغوط على الليرة وسمح باستقرار سعر الصرف".

أما في ما يرتبط بإمكان استمرار الاستقرار النقدي، يوضح العياش "الاستقرار النقدي لا يمكنه الاعتماد على السياسة المتبعة من حاكم مصرف لبنان بالإنابة فقط، لأنه من المرجح أن تتغير الظروف بفعل حاجة الدولة الضاغطة للتمويل ونتيجة استمرار الاستيراد بمستويات تفوق قدرة البلد على احتمالها".

"ودعوا الليرة"

يستبعد تيار أكاديمي وازن القدرة على استعادة الثقة بالليرة اللبنانية. وتؤكد ليال منصور، المتخصصة في الاقتصاد النقدي، "استحالة الأمر من الناحية النظرية والواقعية"، لأن "الأعوام الـ40 الماضية تشهد على انعدام الثقة بالليرة اللبنانية، واستعمال العملة الأجنبية في التعاملات، ودولرة النشاط الاقتصادي التي ارتفعت إلى مستوى 90 في المئة، ووصل مداه عقب الانهيار"، ناهيك بالأزمات السياسية المتتالية التي تخلق حالة من الاضطراب المستمر.

تعتقد ليال منصور بضرورة التمييز بين استعادة بعض القطاعات المصرفية والاقتصادية والتعليمية والطبابة نموها في حال القيام بالإصلاحات، وبين وضع العملة الوطنية التي فقد المواطن الثقة فيها، موضحة، "لن تستعيد الليرة قوتها، وإن استعادت المؤسسات الدستورية انتظامها، أو قامت الحكومة ببعض الإصلاحات، لأن المواطن في الاقتصادات المدولرة يستمر بالتعامل بتلك العملة الأجنبية الوازنة". وتستشهد بما جرى في الأعوام الأولى من القرن الـ21، إذ "لم يتمكن النمو والنشاط الاقتصادي في حينه من القضاء على ظاهرة الدولرة، لا بل كانت تقارب 70 في المئة"، وتظن أن "علاج الدولرة إنما يكون من خلال الاستغناء عن الليرة اللبنانية، لأننا فشلنا خلال التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الـ21 من إعادة إحياء الليرة، على رغم إعادة الإعمار وعودة أموال المغتربين، وحقبة الازدهار"، مشيرة إلى "اقتراح الدولرة الشاملة، أو سياسة مجلس النقد التي تعد رديفة لتلك السياسة مع الحفاظ على السيادة الأميركية".

وتوضح منصور، "يعيش لبنان حالياً في طور زيادة الدولرة، ولم يصل إلى الدولرة الشاملة بسبب استمرار المصرف المركزي في عمله، وإكمال سياسة طبع الليرات"، مشددة "ثمة قانون عام تخضع له الدول المدولرة ومن ضمنها لبنان، إما أن تستمر الأزمة، أو أن تختار فتح صفحة جديدة من خلال الدولرة الشاملة أو سياسة مجلس النقد". من هنا، تستبعد منصور حفاظ الليرة على استقرارها لفترة طويلة، لأن "تثبيت سعر الصرف هو سياسة موقتة".