Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيسنجر والمعنى الحقيقي لـ"سياسة الانفراج"

إعادة تصميم إحدى استراتيجيات الحرب الباردة من أجل التنافس مع الصين

وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر في مؤتمر صحافي في واشنطن العاصمة عام 1975 (غيتي)

ملخص

سياسة "الانفراج" الكيسنجرية واجهت انتقادات كثيرة لكنها لا تزال تصلح ليومنا هذا

قليلة هي الكلمات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالراحل هنري كيسنجر أكثر من "الانفراج" détente، وهو مصطلح استُخدم للمرة الأولى في المجال الدبلوماسي في أوائل القرن الـ20، عندما حاول السفير الفرنسي في ألمانيا تحسين علاقة بلاده المتدهورة مع برلين ولكن محاولاته باءت بالفشل، وعام 1912، عندما حاول الدبلوماسيون البريطانيون تحقيق هذا المسعى نفسه. لكن مصطلح الانفراج لم يكتسب شهرة عالمية إلا في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما اضطلع كيسنجر الذي شغل في البداية منصب مستشار الأمن القومي الأميركي ثم وزير الخارجية الأميركية، بدور رائد وحاسم في ابتكار ما تحول لاحقاً إلى السياسة التي تشكل إرثه وتحمل بصمته الخاصة، والرامية إلى تخفيف التوترات بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

لكن ينبغي عدم الخلط بين الانفراج والصداقة، فالأمر لم يكن يتعلق بإقامة صداقة مع موسكو، بل بتقليل الأخطار التي من الممكن أن تحول الحرب الباردة إلى حرب ساخنة. وأوضح كيسنجر في مذكراته أن "الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي متنافسان أيديولوجيان، ولا يمكن للانفراج أن يغير ذلك. لكن العصر النووي يجبرنا على التعايش، ولا يمكن للحملات الخطابية أن تغير ذلك أيضاً". بالنسبة إلى كيسنجر، كان الانفراج حلاً وسطاً بين العدوان الذي تسبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى "حينما انجرفت أوروبا، على رغم وجود توازن عسكري، إلى صراع لم يكُن أحد يريده"، وبين الاسترضاء الذي أدى في نظره إلى الحرب العالمية الثانية "عندما فشلت الديمقراطيات في فهم نوايا معتدٍ استبدادي".

وفي سبيل تحقيق الانفراج، سعى كيسنجر إلى إشراك السوفيات في مجموعة متنوعة من القضايا، بما في ذلك التجارة والحد من الأسلحة. لقد حاول جاهداً تطبيق سياسة "الترابط" linkage، وهو مصطلح أساسي آخر كان سائداً في ذلك العصر، يرمي إلى التنسيق والربط بين الأمور التي بدا أن السوفيات يرغبون فيها (مثل الوصول بصورة أفضل إلى تقنيات التكنولوجيا الأميركية) والأهداف التي أرادت الولايات المتحدة تحقيقها (على غرار مساعدتها في الانسحاب من فيتنام) [اعتمد نيكسون وكيسنجر سياسة "الترابط" وهي نهج يهدف إلى ربط مختلف القضايا الدولية معاً، خصوصاً في المفاوضات مع الاتحاد السوفياتي والصين، من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأوسع. على سبيل المثال، ربطا التقدم في مفاوضات الحد من الأسلحة بمجالات التعاون الأخرى، بما في ذلك الاتفاقات التجارية والتبادلات الثقافية]. وبطريقة موازية، كان كيسنجر يظهر استعداده للقتال والمواجهة بحزم كلما رأى أن السوفيات يعملون على توسيع نطاق نفوذهم، من الشرق الأوسط إلى جنوب القارة الأفريقية. وبعبارة أخرى، وعلى حد تعبير كيسنجر نفسه، كان الانفراج تعني تبني "الردع والتعايش في الوقت نفسه، والاحتواء ومحاولة تخفيف التوترات في آن معاً".

وإذا كان هذا الحس العملي الواقعي لا يزال منطقياً بعد خمسة عقود من الزمن، فذلك لأن صناع السياسات في واشنطن توصلوا إلى فهم مماثل في شأن الصين، الدولة التي يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن وفريق الأمن القومي التابع له على استعداد للتعامل معها، متبعين نسختهم الخاصة من سياسة الانفراج. في هذا الإطار، قال بايدن للرئيس الصيني شي جينبينغ في كاليفورنيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 "علينا أن نضمن ألا تتحول المنافسة إلى صراع". وأضاف: "تقع على عاتقنا أيضاً مسؤولية تجاه شعبنا والعالم تتمثل في التعاون معاً عندما نرى أن ذلك يخدم مصلحتنا". وعبر جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، عن وجهة نظر مماثلة في مقالته في "فورين أفيرز" العام الماضي، فكتب "تغلب الصبغة العالمية على المنافسة حقاً، ولكنها ليست صفرية المحصلة [لا يفوز فيها طرف واحد]. إن التحديات المشتركة التي يواجهها الجانبان غير مسبوقة". ولإعادة صياغة ما قاله كيسنجر، فإن الولايات المتحدة والصين منافسان رئيسان. لكن العصر النووي وتغير المناخ، ناهيك عن الذكاء الاصطناعي، هي عوامل تجبرهما على التعايش.

إذا كانت سياسة الانفراج ستستخدم مجدداً ولكن تحت اسم مختلف [من دون الإشارة إليها باسمها الصريح والمعروف]، فما هي الأسباب التي أدت إلى تراجعها السابق؟ في أعقاب وفاة كيسنجر في نوفمبر 2023، لم يتردد منتقدوه في اليسار في تكرار قائمة اتهاماتهم القديمة، بدءاً من قصف المدنيين في كمبوديا إلى دعم الديكتاتوريين في تشيلي وباكستان وأماكن أخرى. بالنسبة إلى اليسار، كان كيسنجر يجسد السياسة الواقعية الوحشية التي أعطت الأولوية للاحتواء على حساب حقوق الإنسان في دول العالم الثالث. بالاسترجاع، هذا هو الجانب الذي اعترض عليه الرئيس الأميركي جيمي كارتر في سياسة الانفراج. ولكن انتقادات المحافظين لكيسنجر لم تكُن مسموعة جداً في الآونة الأخيرة، وهم ادعوا أن سياسته كانت بمثابة سياسة استرضاء.

وعندما كان حاكماً لولاية كاليفورنيا، أمضى رونالد ريغان فترة السبعينيات من القرن الماضي في توجيه نقد لاذع لسياسة الانفراج باعتبارها "طريقاً أحادي الاتجاه استخدمه الاتحاد السوفياتي لتحقيق أهدافه". واستهزأ ريغان بكيسنجر لأنه ظل راضخاً بينما استغل السوفيات سياسة الانفراج بخبث ووقاحة، مثلما حدث عندما كانت لهم ولحلفائهم الكوبيين اليد العليا في أنغولا ما بعد الاستعمار. خلال ترشحه الأول للرئاسة عام 1976، تعهد ريغان مراراً وتكراراً بإلغاء هذه السياسة إذا فاز في الانتخابات. وأعلن في مارس (آذار) من ذلك العام: "في عهد السيدين كيسنجر وفورد، تراجعت هذه الأمة إلى المرتبة الثانية من حيث القوة العسكرية في عالم قد يكون فيه احتلال المرتبة الثانية خطراً، لا بل مميتاً ربما".

ولم يكُن رأي ريغان يشكل استثناء على الإطلاق. وبحلول الوقت الذي عبر فيه عن موقفه، كان الصقور في الحكومة ضاقوا ذرعاً من نهج كيسنجر. واشتكى الجمهوريون عموماً من أن "المكاسب التي تحققت من سياسة الانفراج، كانت لمصلحة الجانب السوفياتي"، على حد تعبير السيناتور كليفورد كيس عن ولاية نيو جيرسي. وعلى الطرف الآخر [في صفوف الديمقراطيين]، أثار السيناتور الديمقراطي روبرت بيرد من ولاية فرجينيا الغربية غضب كيسنجر حين اتهمه بأنه "وضع ثقة كبيرة بروسيا الشيوعية"، و"احتضن" موسكو من خلال سياسة الانفراج.

وفي الوقت نفسه، أشار الجيش الأميركي إلى أن السعي إلى الانفراج يعني الاعتراف بالهزيمة. عام 1976، قال إلمو زوموالت الذي كان حينذاك تقاعد حديثاً من منصب قائد البحرية الأميركية، إن كيسنجر كان يعتقد بأن الولايات المتحدة "سبق أن وصلت إلى ذروتها التاريخية، وبدأت تتراجع مثل عدد من الحضارات السابقة". وعلى غرار مفهوم "الاسترضاء" الذي اعتُبر في البداية مصطلحاً محترماً، ثم ساءت سمعته عام 1938، أصبح مصطلح الانفراج كلمة بذيئة، وحدث ذلك حين كان كيسنجر لا يزال في منصبه.

ينبغي عدم الخلط بين الانفراج والصداقة

ومع ذلك، لم تكُن سياسة الانفراج في السبعينيات تشبه سياسة الاسترضاء في الثلاثينيات، سواء في الطريقة التي كانت تعمل بها أو في النتائج التي حققتها. وخلافاً للمحاولات البريطانية والفرنسية الرامية إلى إرضاء أدولف هتلر من خلال تقديم تنازلات إقليمية، سعى كيسنجر ورؤساؤه إلى احتواء توسع خصمهم. وعلى النقيض من الاسترضاء، نجح الانفراج في منع نشوب حرب عالمية. في كتاباته في منتصف الثمانينيات، أحصى العالم السياسي هارفي ستار ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة الإجراءات التعاونية مقارنة بالسلوكات التي تزيد الخلافات في العلاقات الأميركية- السوفياتية خلال عهد إدارة نيكسون [من عام 1969 إلى عام 1974]. كان عدد الصراعات على مستوى الدولة أقل في عهد كيسنجر (1969 إلى 1977) مما كان عليه في السنوات السابقة واللاحقة.

 

 

وبعد مرور 50 عاماً، وبينما تتكيف واشنطن مع حقائق الحرب الباردة الجديدة، ربما يعرقل الصقور سياسة الانفراج مجدداً. فالساسة الجمهوريون يحبون تصوير خصومهم [الديمقراطيين] على أنهم متساهلون تجاه الصين، تماماً مثلما فعل أسلافهم الذين اتهموا خصومهم بالتساهل مع السوفيات في السبعينيات. على سبيل المثال، ادعى السيناتور عن ولاية أركنساس توم كوتون أن بايدن "يتودد إلى الشيوعيين الصينيين ويسترضيهم". وعلى نحو مماثل، فإن حملة الرئيس السابق دونالد ترمب انتقدت بايدن بسبب "ضعفه" الذي "يشجع العدوان" ضد تايوان.

هذه الاتهامات ليست مفاجئة، ومن المغري دائماً بالنسبة إلى الجمهوريين أن يستحضروا روح ريغان وأن يكرروا انتقاده لسياسة الانفراج. ولكن هناك خطراً بأن يسيء كلا الطرفين فهم الدروس المستفادة من السبعينيات. فمن خلال الدعوة إلى احتواء الصين بصورة حازمة، ربما يبالغ الجمهوريون في تقدير قدرة الولايات المتحدة على تحقيق الانتصار في حال وقوع مواجهة. ومن خلال تجنب التصعيد، ربما تقلل إدارة بايدن من أهمية الردع كعنصر من عناصر سياسة الانفراج. في الواقع، كان جوهر استراتيجية كيسنجر هو الجمع بين التعاون والاحتواء بطريقة اتسمت بالحكمة في ضوء حال الاقتصاد الأميركي والرأي العام الأميركي في السبعينيات، أو ما كان السوفيات يسمونه "توازن القوى". وهناك حاجة إلى تركيبة مماثلة اليوم، خصوصاً عندما يكون ميزان القوى يميل إلى مصلحة بكين أكثر مما كان يميل إلى موسكو في أي وقت مضى.

على الحافة

في هذه الأيام، لا يشتكي منتقدو كيسنجر الأكاديميون الأكثر حنكة واطلاعاً من أن السوفيات حققوا من سياسة الانفراج مكاسب أكبر مما حققته الولايات المتحدة. عوضاً عن ذلك، فإنهم يجادلون بأن كيسنجر ارتكب مراراً خطأ النظر إلى كل قضية من خلال عدسة الحرب الباردة والتعامل مع كل أزمة كما لو كانت مصيرية في الصراع ضد موسكو. ووفق ما كتبه المؤرخ جوسي هانهيماكي في كتاب مطول من النقد اللاذع، فإن كيسنجر اعتبر من المسلم به أن "الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية يجب أن يكون احتواء القوة السوفياتية، إن لم يكن الأيديولوجيا الشيوعية".

ويعبر هذا النقد عن الجهود التي بذلها المؤرخون خلال الأعوام الأخيرة من أجل التركيز على معاناة الأشخاص الذين عاشوا في البلدان الواقعة في مرمى نيران الحرب الباردة. لكنه يقلل من شأن التهديد الكبير الذي كان الاتحاد السوفياتي يشكله على الولايات المتحدة في دول العالم الثالث. ومهما كان ما قاله السفير السوفياتي البارع أناتولي دوبرينين لكيسنجر، فإن الكرملين لم يعتبر سياسة الانفراج إلا غطاء لاستراتيجيته الرامية إلى كسب الأفضلية على واشنطن. ووفق تقرير مرفوع عام 1971 إلى المكتب السياسي [للحزب الشيوعي الحاكم]، فإن الاتحاد السوفياتي أراد من الولايات المتحدة أن "تدير شؤونها الدولية بطريقة لا تخلق خطر المواجهة المباشرة"، والسبب هو أن القيام بذلك قد يجعل واشنطن "تدرك أن على الغرب الاعتراف بالمصالح السوفياتية". ومن أجل تحقيق هذه الغاية، حث تقرير المكتب السياسي على "الاستمرار في استغلال هدف الحكومة الأميركية المتمثل في اهتمامها بالحفاظ على الاتصالات والعلاقات مع الاتحاد السوفياتي وإجراء المفاوضات معه".

ولم يكن كيسنجر على دراية بهذه الوثيقة، لكنها لم تكُن لتفاجئه. ولم تكن تراوده أي أوهام في شأن اللعبة التي كان أسياد دوبرينين يمارسونها. وفي نهاية المطاف، أعلن السوفيات أيضاً على الملأ عام 1975 أن سياسة الانفراج لم تمنعهم من مواصلة "دعم نضال التحرير الوطني" ضد "الوضع الاجتماعي السياسي القائم". وبحسب ما قاله كيسنجر لكاتب العمود جو ألسوب عام 1970: "إذا كان السوفيات يعتقدون بأن التوصل إلى اتفاق في شأن التكافؤ النووي سيخدم مصالحهم، فإنهم قادرون تماماً على التوقيع على مثل هذا الاتفاق بيدٍ واحدة، بينما يحاولون اقتلاع أحشائنا باليد الأخرى".

ولكن على رغم أن كيسنجر كان يعلم أن الكرملين لديه دوافع خفية، إلا أنه ظل يشجع على انتهاج سياسة الانفراج لسبب واحد بسيط، وهو أن البديل المحافظ الذي يستلزم العودة لسياسة حافة الهاوية المعتمَدة في الخمسينيات والستينيات، يهدد باندلاع حرب نووية شاملة. وفي خطاب ألقاه كيسنجر في مينيابوليس عام 1975، أكد أنه "لا يوجد بديل إلا التعايش"، فكل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة "لديه القدرة على تدمير الحياة الحضارية". ولذلك، الانفراج يُعتبر ضرورة أخلاقية. ثم قال كيسنجر في العام التالي "لدينا التزام تاريخي بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي ودرء ظلال الكارثة النووية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه المخاوف لم تجعل كيسنجر مدافعاً عن نزع السلاح النووي. وبعد أن برز بصفته مفكراً معروفاً من خلال كتابه الذي يحمل عنوان "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" Nuclear Weapons and Foreign Policy، ظل يشعر بالفضول إزاء احتمال نشوب حرب نووية محدودة بيد أنه في الوقت نفسه كان مرعوباً من احتمال اندلاع حرب نووية شاملة. وفي ربيع عام 1974، طلب كيسنجر من هيئة الأركان المشتركة صياغة رد نووي محدود في حال حدوث غزو سوفياتي افتراضي لإيران.

ولكن عندما جرى إطلاعه على مسودة الخطة بعد بضعة أسابيع، أصيب بالهلع. اقترح البنتاغون إطلاق نحو 200 سلاح نووي على المنشآت العسكرية السوفياتية قرب الحدود الإيرانية. فصاح كيسنجر "هل فقدتم عقولكم؟ هل تعتبرون هذا رداً نووياً محدوداً؟". وعندما عاد الجنرالات بخطة تقتضي استخدام لغم أرضي نووي [أو ما يُعرف بذخائر الهدم الذري وهي ألغام توضع تحت الأرض أو على السطح يؤدي انفجارها إلى أضرار مدمرة للمنطقة المحيطة] وقنبلتين نوويتين فقط لتفجير الطريقين المؤديين إلى إيران من الأراضي السوفياتية، شعر بالارتياب وسأل "أي نوع من الهجوم النووي هذا؟". في الحقيقة، كان الكرملين لينظر إلى أي رئيس أميركي يستخدم عدداً قليلاً جداً من الأسلحة على أنه "جبان". وعرف كيسنجر حق المعرفة أن المشكلة كانت عدم وجود أي وسيلة على الإطلاق للتأكد من أن الرد السوفياتي على أي نوع من الضربات النووية الأميركية سيكون محدوداً.

قال كيسنجر عام 1975 "لا يوجد بديل للتعايش"

واستكمالاً، أثارت آراء كيسنجر في شأن الأسلحة النووية استياء منتقديه المحافظين، خصوصاً أولئك في البنتاغون. وكانوا غاضبين بصورة خاصة من الطريقة التي تعامل بها كيسنجر مع محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية "سالت" SALT التي بدأت في نوفمبر 1969 ومهدت الطريق لأول اتفاق مهم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للحد من الأسلحة. وفي سبتمبر (أيلول) 1975، عممت وكالة استخبارات الدفاع تقريراً استخباراتياً من 10 صفحات يؤكد أن الاتحاد السوفياتي كان ينتهك بخبث التزاماته في شأن معاهدة "سالت" بهدف تحقيق تفوق نووي. واحتدم النقاش مرة أخرى خلال الأيام الأخيرة لإدارة فورد، عندما أشارت التقارير الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة استخبارات الدفاع إلى أن موسكو كانت تسعى إلى التفوق، لا التكافؤ، عندما يتعلق الأمر بالأسلحة النووية. وادعى المسؤولون الحكوميون أن كيسنجر كان يعلم بذلك لكنه اختار تجاهله.

ولم تكُن هذه الانتقادات خاطئة تماماً، إذ إن السوفيات كانوا حققوا بالفعل التكافؤ في العدد الإجمالي للصواريخ الباليستية العابرة للقارات "آي سي بي أم" (ICBM) بحلول أواخر الستينيات، وبحلول عام 1970، كانوا في الطليعة من حيث إجمالي القوة التفجيرية للترسانة النووية التي تقاس بالميغاتون. وكان بعض هذه الصواريخ الباليستية العابرة للقارات مزوداً بتقنية "ميرف" (MIRV) وهي صواريخ تحمل أكثر من رأس حربي، كل منها قادر على ضرب هدف مختلف. لكن في ما يتعلق بالصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات، حافظت الولايات المتحدة عام 1977 على تفوق عددي كبير بنسبة خمسة إلى واحد. وحققت الولايات المتحدة تفوقاً أكبر في الأسلحة النووية المحمولة بقاذفات القنابل، فبلغت نسبته 11 إلى واحد. ولم تقترب موسكو قط من الحصول على ما يكفي من الصواريخ الباليستية لتنفيذ ضربة ضد الأصول النووية الأميركية، مما كان من شأنه أن يجعل من المستحيل على واشنطن الرد بهجوم نووي خاص بها. في الواقع، كشفت المقابلات التي أجريت مع كبار الضباط السوفيات بعد الحرب الباردة عن أنه بحلول أوائل السبعينيات، رفضت القيادة العسكرية فكرة أن الاتحاد السوفياتي قادر على الفوز في حرب نووية. وكان توسع الترسانة النووية السوفياتية الذي أعقب ذلك يرجع في الأساس إلى أن المجمع الصناعي العسكري واصل عملياته من دون تغيير كبير [أي من دون التوقف لإعادة النظر في ما إذا كان لا يزال من الضروري صنع مزيد من الأسلحة النووية].

إلى حد ما، تشارك كيسنجر مع نظرائه السوفيات منظورهم. وكانت وجهة نظره منذ خمسينيات القرن الماضي هي أن الحرب العالمية النووية الشاملة ستكون كارثية لدرجة أنه لا يمكن لأي طرف أن يخرج منها منتصراً. لذا أبدى اهتماماً أقل بالتفاصيل المتعلقة بحجم الترسانات النووية ونوعيتها لدى القوتين العظميين، وتركيزاً أكبر على الطرق التي يمكن بها لدبلوماسية الانفراج أن تقلل من خطر وقوع "هرمغدون" نووي. واستطراداً، كان يعتقد أيضاً بأن التكافؤ النووي السوفياتي سيثبت في نهاية المطاف أنه غير قابل للاستمرار لأن اقتصاد الاتحاد السوفياتي كان أصغر بكثير من اقتصاد الولايات المتحدة. وفي ذلك السياق، قال كيسنجر في خطاب ألقاه عام 1976 إن "القاعدة الاقتصادية والتكنولوجية التي تقوم عليها القوة العسكرية الغربية لا تزال متفوقة بصورة كبيرة من حيث الحجم والقدرة على الابتكار". وأضاف "ليس هناك ما نخشاه في المنافسة: إذا كانت هناك منافسة عسكرية، فلدينا القوة للدفاع عن مصالحنا. وإذا كانت هناك منافسة اقتصادية، فقد فزنا بها منذ زمن طويل".

خسارة المعركة وكسب الحرب

واجه كيسنجر رفضاً من المحافظين لأسباب تتجاوز تسامحه الشكلي مع التكافؤ النووي السوفياتي. وزعم الصقور أن كيسنجر كان مستعداً بصورة كبيرة لقبول الطابع غير العادل للنظام السوفياتي، في حين تذمر الليبراليون من أنه كان مستعداً للتسامح مع الطابع غير العادل للديكتاتوريات اليمينية. وبرزت هذه القضية إلى الواجهة بسبب القيود السوفياتية على الهجرة اليهودية وطريقة معاملة المنشقين السياسيين السوفيات، مثل المؤلف ألكسندر سولجينتسين. وعندما زار الأخير الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الـ20 (بعد طرده من الاتحاد السوفياتي)، أثار كيسنجر غضب المحافظين، إذ نصح الرئيس جيرالد فورد بعدم مقابلته.

وتحول سولجينتسين إلى واحد من ألد خصوم كيسنجر. وعام 1975، عبر الروائي بغضب قائلاً إن "أي سلام يتسامح مع أي شكل من أشكال العنف الوحشي ويتغاضى عن أعمال عنف كبيرة ضد ملايين الناس، لا يتمتع بأي سمو أخلاقي حتى في العصر النووي". وإلى جانب غيره من النقاد المحافظين أشار إلى أن كيسنجر من خلال سياسة الانفراج لم يسهم إلا في توسع الشيوعية السوفياتية. ويبدو أن سقوط سايغون عام 1975، وانحدار كمبوديا إلى جحيم ديكتاتورية بول بوت الشيوعية، والتدخل الكوبي السوفياتي في صراع ما بعد الاستعمار في أنغولا، وغيرها من النكسات الجيوسياسية، أثبتت صحة ادعاءاتهم. أعلن ريغان عام 1976، أثناء حملته الانتخابية ضد فورد في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الجمهوري "أنا أؤمن بالسلام الذي يتحدث عنه السيد فورد، مثل أي إنسان آخر. ولكن في أماكن مثل أنغولا وكمبوديا وفيتنام، فإن السلام الذي عرفوه هو سلام الرقود في القبر. كل ما أستطيع رؤيته هو ما تراه الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم: انهيار الإرادة الأميركية وتراجع القوة الأميركية".

 

 

وخلافاً للطريقة التي تعامل بها مع ادعاء التفوق النووي السوفياتي، لم ينكر كيسنجر قط أن التوسع السوفياتي في دول العالم الثالث يشكل تهديداً لسياسة الانفراج وقوة الولايات المتحدة. وقال في خطاب ألقاه في نوفمبر 1975 "الوقت ينفد، واستمرار سياسات التدخل لا بد من أن يهدد العلاقات الأخرى. وسوف نتحلى بالمرونة والتعاون في تسوية الصراعات... لكننا لن نسمح على الإطلاق بأن يتحول الانفراج إلى مكيدة لتحقيق مكاسب أحادية الجانب". لكن الحقيقة كانت أنه في ظل غياب دعم الكونغرس، سواء للدفاع عن فيتنام الجنوبية أو عن أنغولا، لم يكن أمام إدارة فورد من خيار سوى قبول التوسع العسكري السوفياتي، أو في الأقل انتصارات وكلاء السوفيات. قال كيسنجر في ديسمبر (كانون الأول) 1975: "نزاعاتنا الداخلية تعوّق قدرتنا على تحفيز الاعتدال (السوفياتي) كما هي الحال في القيود المفروضة على قانون التجارة، والقدرة على مقاومة التحركات العسكرية السوفياتية كما هي الحال في أنغولا."

إلى أي مدى كان كيسنجر على حق في ادعائه أنه مع استمرار دعم الكونغرس للمساعدات الأميركية، ربما كان من الممكن إنقاذ جنوب فيتنام وحتى أنغولا من السيطرة الشيوعية، هو موضوع قابل للنقاش والجدل حتماً. لكن لا شك في أن كيسنجر كان مهتماً بوقف انتشار الأنظمة السوفياتية، إذ قال عام 1974: "إن الحاجة إلى سياسة الانفراج بالطريقة التي نتصورها لا تعني الموافقة على الهيكلية الداخلية السوفياتية. كثيراً ما نظرت الولايات المتحدة بتعاطف وبتقدير كبير إلى التعبير عن حرية التفكير في جميع المجتمعات". إذا رفض كيسنجر قبول سولجينتسين، فليس لأن كيسنجر كان متسامحاً (أو حتى متعاطفاً سراً) مع النموذج السوفياتي، بل لأنه كان يعتقد بأن واشنطن يمكنها تحقيق مزيد من الإنجازات من خلال الحفاظ على علاقات عملية وفاعلة مع موسكو.

وفي هذا الشأن، كان بالتأكيد على حق. من خلال تخفيف التوترات في كل من أوروبا وبقية أنحاء العالم، ساعدت سياسة الانفراج في تحسين حياة بعض الناس في الأقل وسط الحكم الشيوعي. فارتفعت معدلات الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي في الفترة التي كان فيها كيسنجر المسؤول الأهم عن سياسة الانفراج. وبعدما سعى السيناتور الديمقراطي هنري "سكوب" جاكسون من واشنطن وغيره من صقور الكونغرس إلى الضغط علناً على موسكو لإطلاق سراح مزيد من اليهود من خلال عرقلة صفقة التجارة الأميركية- السوفياتية، انخفضت معدلات الهجرة اليهودية. كان منتقدو كيسنجر المحافظون يعارضون بشدة توقيع الولايات المتحدة على اتفاقات هلسنكي صيف عام 1975، بحجة أنها تمثل تصديقاً على الانتصارات السوفياتية في أوروبا بعد الحرب. ولكن من خلال إقناع قادة الاتحاد السوفياتي بالتزام احترام بعض حقوق مواطنيهم المدنية الأساسية كجزء من الاتفاقات، وهو التزام لم تكن لديهم أية نية في احترامه، أدى الاتفاق في نهاية المطاف إلى تآكل شرعية الحكم السوفياتي في أوروبا الشرقية.

لم تتمكن أي من هذه الحقائق من إنقاذ مسيرة كيسنجر الحكومية. وبمجرد رحيل فورد، رحل أيضاً وزير خارجيته، ولم يحتل أي مناصب رفيعة مرة أخرى. لكن مفهومه الاستراتيجي الأساسي استمر في تحقيق النتائج لأعوام مقبلة، بما في ذلك في ظل إدارة منتقدي سياسة الانفراج الرئيسين: كارتر وريغان. كان كارتر انتقد نيكسون وفورد وكيسنجر لعدم وجود تعاطف كافٍ في واقعيتهم، لكن مستشاره للأمن القومي، زبيغنيو بريجنسكي، أقنعه بأن يتخذ موقفاً صارماً مع موسكو. وبحلول نهاية عام 1979، اضطر كارتر إلى إصدار تحذير للسوفيات بضرورة سحب قواتهم من أفغانستان وإلا فسيواجهون "عواقب وخيمة". ومن جانبه، اعتمد ريغان في نهاية المطاف سياسة الانفراج كنهجه الخاص، وإن كان ذلك تحت اسم مختلف، وتجاوز بالفعل ما فعله كيسنجر لتخفيف التوترات. وفي سعيه إلى التقارب، وافق ريغان على خفض حجم ترسانة واشنطن النووية إلى ما دون المستوى الذي اعتبره كيسنجر حكيماً أو مناسباً. ولم ينتهِ "عصر كيسنجر" عندما ترك الحكومة في يناير (كانون الثاني) 1977.

على رغم أن هذه الحقيقة أصبحت منسية منذ ذلك الحين، إلا أن معاصري كيسنجر الأكثر فطنة اعترفوا بها. على سبيل المثال، لاحظ المعلق المحافظ ويليام سافير مدى سرعة اختراق "الكيسنجريين" و"مؤيدي الانفراج" لإدارة ريغان، حتى لو بقي كيسنجر نفسه على مسافة منها. في الواقع، أصبحت إدارة ريغان متساهلة للغاية، لدرجة أن كيسنجر بدوره انتقد ريغان لتساهله المفرط، خصوصاً في ما يتعلق برده على فرض الأحكام العرفية في بولندا. وعارض كيسنجر خطط إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من الاتحاد السوفياتي إلى أوروبا الغربية على أساس أن ذلك من شأنه أن يجعل الغرب "أكثر عرضة للتلاعب السياسي مما هو عليه اليوم". (واتضح أن هذا التحذير كان متبصراً ويتسم ببعد النظر). وفي 1987، لجأ نيكسون وكيسنجر إلى صفحة المقالات الافتتاحية في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" للتحذير من أن استعداد ريغان لعقد اتفاق مع الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، يزيل بموجبه كل من الطرفين جميع أسلحتهم النووية المتوسطة المدى، كان أمراً مبالغاً فيه. ورداً على مثل هذه الانتقادات، كانت إجابة وزير الخارجية جورج شولتز ثاقبة ومستنيرة: "لقد تخطينا مرحلة سياسة الانفراج الآن".

سياسة الانفراج 2.0

بالنظر إلى المشكلات التي كانت الولايات المتحدة تواجهها مع بداية عام 1969، اعتُبرت سياسة الانفراج كما تصورها كيسنجر منطقية. ومع عجز واشنطن عن هزيمة فيتنام الشمالية، ومعاناتها الركود المصحوب بالتضخم، والانقسام العميق حول كل شيء بدءاً من العلاقات بين مختلف الأعراق وصولاً إلى حقوق المرأة، لم تتمكن واشنطن من التصرف بخشونة وصرامة مع موسكو. في الواقع، لم يكن الاقتصاد الأميركي في السبعينيات في وضع يسمح له بالاستمرار في دعم زيادة الإنفاق الدفاعي بصورة عامة. (كان للانفراج مبرر مالي أيضاً، على رغم أن كيسنجر نادراً ما ذكره). ولم يكُن الانفراج تعني تقبل السوفيات أو الثقة بهم أو استرضاءهم، مثلما زعم منتقدو كيسنجر، ولا السماح للسوفيات بتحقيق التفوق النووي أو السيطرة الدائمة على أوروبا الشرقية أو بناء إمبراطورية في دول العالم الثالث، بل كان يعني الاعتراف بحدود قوة الولايات المتحدة، والحد من خطر الحرب النووية الفعلية من خلال استخدام مزيج من سياسة العصا والجزرة وكسب الولايات المتحدة وقتاً للتعافي.

وفي الواقع، حقق هذا النهج نجاحاً. صحيح أن كيسنجر لم يؤمّن "الفاصل الزمني المناسب" بين انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام الجنوبية وغزو الشمال للجنوب، وهو عبارة عن فترة فاصلة كان يأمل في أن تكون طويلة بما يكفي للحد من الضرر الذي لحق بمصداقية واشنطن وسمعتها، لكن سياسة الانفراج سمحت للولايات المتحدة بإعادة تنظيم صفوفها على الصعيد الداخلي وتحقيق الاستقرار والثبات في استراتيجية الحرب الباردة. وسرعان ما أبدع الاقتصاد الأميركي بطرق تفوق فيها بأشواط على الاتحاد السوفياتي، مما أدى إلى خلق أصول اقتصادية وتكنولوجية مكنت واشنطن من الفوز في الحرب الباردة. إضافة إلى ذلك، فإن سياسة الانفراج زودت السوفيات بالأدوات اللازمة لتدمير أنفسهم. وبعد ازدياد جرأتهم في أعقاب نجاحاتهم في جنوب شرقي آسيا وجنوب أفريقيا، بدأ السوفيات سلسلة من التدخلات الخاطئة والمكلفة في دول العالم النامي، بلغت ذروتها بغزوهم لأفغانستان عام 1979.

ونظراً إلى أن النجاحات التي حققتها سياسة الانفراج نادراً ما اعتُرف بها، فمن المفيد أن نتساءل عما إذا كانت هناك دروس قيمة يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد منها اليوم في منافستها مع الصين. من المؤكد أن كيسنجر آمن بهذه الفكرة، وأثناء حديثه في بكين عام 2019، أعلن أن الولايات المتحدة والصين كانتا بالفعل "على سفوح حرب باردة". وعام 2020، في خضم جائحة كورونا، اعتبر أن الحرب الباردة ازدادت خطورتها فانتقلت من السفوح إلى الممرات الجبلية [أي أنها تجاوزت المراحل الأولية وأصبحت في مكان أصعب ومحفوف بالأخطار]. وقبل عام من وفاته، حذر من أن الحرب الباردة الجديدة ستكون أكثر خطورة من الأولى بسبب التقدم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي الذي يهدد بصنع أسلحة، ليس أسرع وأكثر دقة فحسب، بل ربما أيضاً ذاتية التشغيل. ودعا القوتين العظميين إلى التعاون كلما أمكن في سبيل الحد من الأخطار الوجودية لهذه الحرب الباردة الجديدة، خصوصاً من أجل تجنب مواجهة كارثية محتملة حول وضع تايوان المتنازع عليه.

انفراج جديد لا يعني استرضاء الصين

وعلى غرار ما حدث في السبعينيات، يتعرض هذا النهج لانتقادات عدد كبير من الخبراء في النقاش الذي يدور حالياً حول سياسة الولايات المتحدة إزاء الصين. وقد حث إلبريدج كولبي، الأكثر حكمة وتأنياً بين الجيل الجديد من الاستراتيجيين المحافظين، إدارة بايدن على تبني "استراتيجية الإنكار" بهدف ردع الصين عن استخدام القوة العسكرية لتعطيل الوضع القائم الذي تتمتع فيه تايوان بحكم ذاتي فعلي وبديمقراطية مزدهرة. في بعض الأحيان، بدا أن إدارة بايدن نفسها تشكك في سياسة الغموض الاستراتيجي التي انتهجتها الولايات المتحدة على مدى نصف قرن من الزمن في ما يتعلق بتايوان، وهي سياسة استخدمت أسلوب عدم الوضوح حول ما إذا كانت واشنطن ستتدخل عسكرياً للدفاع عن الجزيرة. وهناك تقريباً إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على أن طريقة التعامل مع بكين في الحقبة السابقة كانت معيبة لأنها كانت مبنية على افتراض خاطئ بأن زيادة التجارة مع الصين من شأنها أن تحرر نظامها السياسي بسحر ساحر.

ومع ذلك، لا يوجد سبب وجيه يجعل القوى العظمى في عصرنا، مثل أسلافها في الخمسينيات والستينيات، تتحمل 20 عاماً من سياسة حافة الهاوية قبل أن تصل إلى مرحلة الانفراج في حربها الباردة. ومن المؤكد أن المرحلة الجديدة من الانفراج [سياسة الانفراج 2.0] ستكون أفضل بكثير من المخاطرة بتكرار أزمة الصواريخ الكوبية في تايوان، ولكن بأدوار معكوسة، حيث تفرض الدولة الشيوعية حصاراً على الجزيرة القريبة منها المتنازع عليها، وتضطر الولايات المتحدة إلى كسر الحصار، مع كل الأخطار المصاحبة لذلك. وهذا بالتأكيد ما آمن به كيسنجر في العام الأخير من حياته الطويلة، وما دفعه إلى القيام بزيارته الأخيرة إلى بكين بعد وقت قصير من ذكرى ميلاده المئة.

وتماماً مثل سياسة الانفراج الأساسية [الانفراج 1.0]، فإن مرحلة الانفراج الجديدة لا تعني استرضاء الصين، أو توقع أن البلاد ستتغير، بل يعني، مرة أخرى، المشاركة في عدد من المفاوضات حول الحد من الأسلحة (وهي مفاوضات ضرورية جداً في ظل سعي الصين بصورة مستميتة إلى بناء قواتها في كل المجالات) والتجارة ونقل التكنولوجيا وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي والفضاء. وعلى غرار "سالت"، فإن هذه المفاوضات ستكون طويلة وشاقة، وربما من دون التوصل إلى نتائج قاطعة. ولكنها ستكون بمثابة "الحديث وجهاً لوجه" وهو النهج الذي فضله رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل بشكل عام على الحرب. أما بالنسبة إلى تايوان، فربما تجد القوى العظمى أنه من الحكمة إعادة النظر في التزاماتها السابقة التي صاغها كيسنجر، بالاتفاق على عدم الاتفاق [أي تجاوز الخلافات وتقبل وجهات النظر المتباينة والحفاظ على علاقة تعاونية].

 

 

لا شك في أن سياسة الانفراج لا تصنع المعجزات. شهدت فترة السبعينيات إفراطاً في المتاجرة بهذا المصطلح ومبالغة في تقدير مزاياه. ومما لا شك فيه أن هذه السياسة وفرت للولايات المتحدة الوقت، لكنها كانت تشبه إحدى استراتيجيات لعبة الشطرنج التي تطلبت ربما تضحيات قاسية بالقطع الأقل أهمية على الرقعة. وعلى حد قول أحد المحللين السوفيات الذي شعر بالحيرة إزاء معارضة الولايات المتحدة لتدخل بلاده في أنغولا: "لقد حاولتم أيها الأميركيون الترويج للانفراج على أنه الحل السحري لجميع المشكلات تماماً مثلما تروج الإعلانات لمسحوق الغسيل وتدعي بأنه يصنع المعجزات".

وفي نهاية المطاف، نجح النقاد في تشويه هذا المصطلح. وفي مارس (آذار) 1976، حظر فورد استخدامه في حملة إعادة انتخابه. ولكن لم يكن هناك أي بديل عملي له على الإطلاق. وعندما سُئل عما إذا كان لديه مصطلح بديل، أعطى كيسنجر رداً ساخراً كالمعتاد "لقد كنت أسعى جاهداً إلى العثور على مصطلح ولكن من دون جدوى. ربما يمكن استخدام مصطلحات مثل تقليل التوترات أو تخفيف التوترات. ولكن ربما ينتهي بنا الأمر باستعمال المصطلح القديم مجدداً".

واليوم، رست إدارة بايدن على مصطلحها الخاص، وهو "تفادي الأخطار". هذا المصطلح ليس فرنسياً، لكنه بالكاد يصلح للغة الإنجليزية. على رغم أن نقطة البداية لهذه الحرب الباردة مختلفة بسبب الترابط الاقتصادي الأكبر بين القوى العظمى اليوم، إلا أنه قد يتبين أن الاستراتيجية المثالية تشبه تلك المستخدمة سابقاً. وإذا كانت سياسة الانفراج الجديدة ستتعرض للانتقاد، فيتعين على المنتقدين عدم تشويهها بالطريقة التي عمد فيها خصوم كيسنجر المتعددين إلى تشويه سياسة الانفراج في كثير من الأحيان، خشية أن يجدوا أنفسهم يكررون ما فعله ريغان قبلهم عند دخولهم غرفة العمليات [منشأة آمنة داخل البيت الأبيض لاتخاذ القرارات المهمة].

*نيال فيرغسون هو زميل بارز بمنحة "عائلة ميلبانك" في معهد هوفر في جامعة ستانفورد الأميركية، ومؤلف كتاب "كيسنجر: 1923-1968، المثالي".

مترجم عن "فورين أفيرز"، مارس/ أبريل 2024

المزيد من آراء