Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يا أعمى" مناداة شعرية تجمع بين المتناقضات

عماد أبو صالح يقتنص روح القصيدة ويمعن في السرد بتفاصيله وأحداثه المتوالية

الأعمى والطعام بريشة بيكاسو (متحف بيكاسو)

ملخص

عماد أبو صالح يقتنص روح القصيدة ويمعن في السرد بتفاصيله وأحداثه المتوالية

دأب عماد أبو صالح على إصدار طبعات محدودة من أعماله على نفقته وتوزيعها على أصدقائه، لكن الأمر اختلف مع عمله الجديد "يا أعمى"، فقد أصدره عن دار "أثر"، علماً أن نصوصه تأتي متتابعة من دون عنونة أو ترقيم في ثلاثة أقسام، متراوحة بين الشعر بكثافته ومفارقاته ولغته التي تقتنص روح الكشف الشعري، والسرد بتفاصيله وأحداثه المتوالية.

والسرد يقترب من السيرة الذاتية التي هي بدورها سيرة شعرية تصور علاقة الشاعر بأسلافه من الشعراء، بما يعكس رؤيته لطبيعة الشعر، وهذا العمل يكاد يخلص لهذه القضية، وأعني بها مفهوم الشعر والشاعر، فنجد طرحاً لثنائية القِدم والحداثة، والقصيدة الموزونة وقصيدة النثر، إلى غير ذلك من تفريعات استطاع عماد أبو صالح أن يقدمها من دون أن يفتقد روح الشعر، والأهم من ذلك كله أنه يتجاوز هذه الثنائيات المشار إليها ويرى أن "ناقة" الشاعر البدوي قد تصل إلى جوهر الشعر قبل "قطارات الحداثة". وعماد أبو صالح يصف نفسه بأنه راع لا شاعر فيقول، "أبحث عن عشبة لنعجتي، لا عشبة لخلودي".

إن الشاعر يبحث عما يقيم الحياة الدنيا لا ما يدخله في الأبدية التي تستدعيها عشبة الخلود التي بحث عنها جلجامش، كما يؤمن أبو صالح بأخوة الشعراء ولهذا يوحد بين الشعراء على اختلاف جنسياتهم وأزمانهم، فالشعراء عنده  "سلالة متواصلة من أب واحد وأم واحدة، مهما اختلفت ألسنتهم وبلدانهم، أبناء بعضهم، أنا شخصياً واثق أن أبي هو قسطنطين كفافيس وأمي فيسوا فاشيميوركسا / أبواي روحياً؟ لا، بيولوجياً باللحم والدم. مستحيل؟ التاريخ يقول عكس ذلك؟ ومتى صدق التاريخ؟ التاريخ كذَّاب".

ولأن الشعر يوحد بين كل هؤلاء الشعراء ويؤكد أخوتهم فإن الكون كله يصبح بيتهم، ويستطيع الشاعر في هذه الحال أن يرعى يتيماً في آخر الدنيا، "الكون كله بيت الشاعر، وحده يمكنه مد يده بقطعة حلوى لطفل يتيم في الطرف الآخر من العالم، وتصل ويأكلها"، وعليه فإن العالم "بيت الشاعر" حيث يستطيع أن يقيم حفلة للكون في ركن صغير من بيته، وأن تأتي أثينا إلى بيت كفافيس في الإسكندرية من دون حاجة للسفر إليها.

وإذا كان الشعر قادراً على منح الشعراء إمكان الوجود في فضاء الكون كله فإنه يعني في المقابل غياب الحياة القائمة على اللذة والرغبات القريبة حين يقول أبو صالح، "أنت لم تترك امرأة إلا اصطدتها، ولا لذة إلا اقتنصتها، أي أنك عشت الحياة، والشعر غياب الحياة". والشعر ابن المعاناة إذ إنه لا يعرف الراحة والحياة المنتظمة، إنه "عدو الراحة" والشاعر نفسه كما يقول في موضع آخر، "محترف جنازات، ضيف دائم على المآتم، نعش حي. فرحة زائل ذابل، كوردة على قبر". كما أنه ضعيف أمام جلال الشعر ورهبته، "إنه يتوسله، لا يأخذه بالقوة ولا بالذراع"، فالشاعر الحقيقي "ضعيف، مسكين، هو – يمكنك أن تقول – ذليل، ذل الشاعر أمام الشعر عزة للإنسانية".

قرين التعدد

لا يعرف الشعر نمطاً واحداً، إنه ابن التعدد اللانهائي الذي لا يعرف المقاييس النهائية ولهذا جاز أن يكون لكل عصر بل لكل شاعر طريقته في مقاربة القصيدة وإبداعها، ففي مقطع كبير يخاطب عماد أبو صالح شاعراً كبيراً مؤكداً له أن الشعر ليس "بذلة " على مقاسه، فله هو الآخر قميص بمقاس آخر، ومن نسيج آخر". وقد يكون هذا القميص فقيراً لكنه ملكه وفيه رائحته، إنه "شاعر حقيقي في سكة مختلفة".

وقول أبو صالح هذا يذكرنا بقول علي أحمد باكثير، "إن لسان حال الشعراء المعاصرين يقول كم أنت عظيم أيها المتنبي، لكننا نود أن نكون غيرك"، وفي موضع آخر يخاطب هذا الشاعر الكبير قائلاً: "أنت نجمة في السماء الواسعة الزرقاء، وأنا حصاة على شاطئ مياه البحر الأزرق، ولا يقارن بين تفاحة وبرتقالة، أو حصاة ونجمة أو السماء والأرض إلا مبتدئ في فك أسرار الجمال".

وتشبيه شاعرنا لنفسه بأنه حصاة على شاطئ البحر معناه أن الشاعر ومن ثم الشعر قد نزل من عليائه، من السماء الزرقاء العالية ليصاحب البسطاء وعابري السبيل، فالشعر "ليس حكراً على الشعراء. يخاف الحبس في الشاعر. أحياناً كثيرة يهجرهم ويسكن في فم عجوز منحنية أمام الرحى في دهليز دارها". والشعر كما قيل قديماً بابه الشر، فحتى إن بدا مقدساً فإنه "لا يفضي بأسراره إلا لأرواح مدنسّة"، وهو كذلك لا يعرف التأنق الرومانسي وليس وردة في عروة ثري، إنه ربيب الجوعى والشحاذين والأرامل، ولا يملك شاعرنا إلا أن ينصح هذا الشاعر بأن يوسخ قصائده النظيفة حتى تبدو مثل الناس أو مثل الحياة، فالحضيض الشخصي للشاعر هو "وقود إبداعه ونبع إلهامه وقصائده عراك بين روعته ووضاعته".

ولم تعد نار الآلهة التي سرقها برومثيوس هي سر الإبداع بل مادة الحياة بكل عنفوانها وعفويتها، وهو ما استوقف عماد أبو صالح أمام كفافيس الذي كان يمد يده إلى قمة جبل الأوليمب، "ولم يسرق النار، صفع بها قفا ابن بلده برومثيوس". إن الذي يستوقف الشاعر حقاً هو مرأى الدم لا هذه النار، فالشاعر "يصرخ فوراً حين يتفجر الدم، لا يفرق بين القاتل والقتيل ولا المذنب ولا البريء. ذلك عمل رجال المباحث".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والشاعر لا يصرخ وحسب حين يرى الدم بل حين يتوقع سفكه، لهذا لا يشارك الناس احتفالاتهم اللاهية: "لا تعتبوا على الشاعر حين يتخلف عن الحفلة، إنه مشغول بالمذبحة القادمة"، وليس معنى ذلك أن الشعر يمتلك الحقيقة أو يسعى إلى اقتناصها، فهو فقط "يومئ ولا ينبئ، يجوع ولا يشبع ويزيد سعار كلاب الحقيقة"، سابحاً في كل ذلك ضد التيار وخارقاً دائماً للقانون، "فمشروعه غير مشروع، بلا رخصة، إنه مهرب أحلام في السوق السوداء"، وسياحته ضد التيار لا لشيء إلا لكي يصل إلى "أصل الماء" أو لنقل أصل الحياة.

وإذا كنا أشرنا من قبل إلى أن الشاعر يتحرك بين ذلك التوتر الدائم، بين الوضاعة والروعة والمقدس والمدنس، فهو أيضاً "ضائع بين السماء والأرض. جسر تدوسه الأقدام، في رحلات الذهاب والعودة منذ بداية الخلق، بين النور والوحل".

القصيدة والإيقاع

يطرح هذا العمل الإبداعي حساً نقدياً لافتاً، فقد تعرض في مواضع كثيرة لمفهومي الشعر والشاعر، ومفهوم القديم والجديد، والغريب حقاً أن يطرح مفهوم الإيقاع داخل القصيدة، فالمقطع يبدأ بصوت خارجي هو غالباً صوت الشاعر العمودي الكبير حين يقول "قصيدة بلا إيقاع، عود بلا أوتار"، ثم يبدأ الرد النقيض على لسان شاعر قصيدة النثر قائلاً "لكن يا أخي عود تمزقت أوتاره ليس مجرد قطعة خشب، إنه يعزف صوت صمته، يعوف صدى ذكرياته الموسيقية فالحداثة عنده روح لا ماكينة"، ثم "ماذا يفرق بين بار بوكوفسكي عن حانة أبي نواس ؟.

والشعر جوهر عابر للأزمان لا قديم فيه ولا جديد، إنه روح سارية تتخطى الزمن، كما أن الحداثة "طريقة عيش لاحقيقة عيش، وأنها لا تتأتى إلا من الهامش، من العزلة، من النبذ، من الحضيض، من شقاء الروح ". وبهذا المعنى الواسع للشعر نستطيع أن نتعامل مع هذا العمل الإبداعي، ولنقل هذا الديوان، على أنه ضرب آخر من الشعر قد يصيبنا بالحيرة متى عرف الشعر طمأنينة اليقين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة